و كانوا كليوم يلبسونه قماطا جديدا لأنه يقطعه و لو كان من حديد ، و لما صار له من العمر عامين صار يدرج بين الخيام ويمسك الأوتاد و يقلعها فتقع البيوت على أصحابها و كان يعفر الكلاب و يمسكها و يخنق صغارها و يضرب الصبيان و لم يزل على ذلك الحال ..حتى صار له من العمر ثلاث سنين و كبر و انتشى و سمع به الفرسان العشرة الذين كانوا مع أبيه شداد لحظة سبي أمه زبيبة و هي ترعى النوق ، و أتوا اليه لينظروا إليه فتعجبوا من حاله ، و حسدوا أباه شداد على ابنه ، فادعاه كل منهم لنفسه ، و زاد بينهم الشقاق و الخصام حتى كان يكون بينهم ضرب الحسام …لولا حرمة الملك زهير، فلما وصل هذا الأخير الخبر أرسل في طلبهم فلما حضر شداد و العشرة الفرسان الأمجاد تقدموا إليه بالسلام ، و قبلوا الأرض بين يديه ، فقال لهم : أيتها السادات و الأعيان أزعجتم النساء و الصبيان فما هو هذا الشأن ؟ فأخبروه بقصتهم من البداية الى النهاية ، و ذكروها أمام الرفيع و الوضيع …و أعلموه كيف أن الجارية زبيبة لم تقع عليها القسمة و استاثر بها شداد هي وأولادها .. فتعجب الملك زهير من هذه الأحوال و لم يكثر من السؤال ، و طلب من شداد أن يأتي حالا بالغلام لينظر أحواله و لم كل هذا الخصام ، فغاب شداد ساعة و عاد بالغلام ، و إذا بصورته كصورة الأسد ، فتعجب زهير من خلقته و كبر جثته مع أن عنتر لم يكن في ذلك اليوم قد بلغ أربع سنين … إلا انه كان يقارب أولاد العشرين ، فتعجب الملك زهير غاية العجب ، و بهت من كان حاضرا من سادات العرب و قال : لا بد أن يصير من أشجع الفرسان و الشجعان .. تم أقبل على الفرسان و قال لهم : اسمعوا الكلام و لا تتقاتلوا من أجل الغلام، و إن كان لكم لا بد من تبيان هذا الأمر ، فعليكم بقاضي العرب بشارة بن قطية الفزاري و أعلموه بالأمر و السبب .. فركبوا خيولهم في الوقت و الساعة و قصدوا قاضي العرب صاحب الحسب و النسب .. فلما وصلوا عنده أخبروه بقصتهم و ما جرى لهم من الأحوال ، فقال لهم قاضي العرب : هل تزوجها أحدكم .. فقالوا له : شداد فقال : هذه شهادة لكم على أنفسكم و ما من أحد جحد ذلك أو أنكر ..فكيف آخذ ولد الرجل و أعطيه لكم.. و قد لاح وجه آخر و هو شبه الولد بشداد ،و أنا حكمت أن يكون له من جملة الأولاد فارجعوا عن الشر و العناد …و ارجعوا الى طريق الرشد و الوداد .. فأجابوا كلامه و اصطلحوا أمامه …فلما رجعوا إلى الأوطان فرح الجميع بصلحهم و كان شداد أكثر فرحا من الجميع .. و أفرد شداد لزبيبة بيتا جديدا من الأرجوان ، و اعتنى بأولادها و خصهم بكل العناية و الإكرام، و أوصاها بهم و خاصة ابنها الأصغر عنتر … و صار عنتر ينمو و يكبر و يساعد أمه و إخوته في المرعى و الصحراء و في البرية القفراء .. و لم يزل على هذه الحال الى أن اشتدت اوصاله و قويت أعصابه و قويت عظامه و احتد كلامه و صار يقهر كل من خاصمه من الرعيان في ذلك المكان .. فكثرت الشكوى من فعاله إلى ابيه شداد فأشغله بقطعة من الغنم أوكل رعيها إليه فأخذها و صار يبتعد بها في البر و الآكام، و يحدث روحه بكل أمر خفي ، و يراكض كلاب الغنم.. و كان في كل يوم تزداد قوته ، فلما كان في يوم من الأيام و كان قد أوغل بالغنم في البرية و قصد شجرة يستظل تحتها و إذا بذئب قد أتى من كبد البر و دخل بين تلك الغنم فشردها ، و كان الذئب عظيم الراس صعب المراس ، فخطف عصاه و نهض على أقدامه و قصده و صرخ فيه ، و لما قاربه هجم عليه و ضربه بعصاه فجاءت بين عينيه و طيرت المخ من أذنيه ، و في الحال تقدم إليه عنتر كأنه الأسد الهصور فقطع رأسه و أطرافه ووضعها في مخلاة كانت عنده ، و ترك باقي جسده ملقى في الفلاة ، و عاد إلى موضعه تحت الشجرة ، و داخله الوجد فترنم وأنشد : يا أيها الذئب الهجوم على الردى ها قد بقيت معفرا منهوبا أتريد أموالي أن تكون مباحة اقد تركتك بالدما مخضوبا في الغد ترقبوا حكاية جديدة من حكايات عنترة