د محمد فخرالدين فلما علم شداد الحكاية وسمع شعر عنترة ونظمه قال: والله إن حكاية هذا الغلام عجب عجاب، وكتمانه ما جرى أعجب وأغرب .. فأسرع في فك وثاقه في الحال وهو يعتذر له كل الاعتذار ...فترنم عنترة بأبلغ الأشعار وهو يصف ما حدث له من الأمر المشهور .. وشعر شداد بكل الفخر من ابنه عنترة، واصطحبه معه إلى الوليمة التي أعدها الملك زهير احتفاء بعودة السلامة، ودقت الدفوف والمزاهر وذبحت الذبائح واجتمعت سادات عبس وفرسانها وأبطالها، وجلس شداد في صدر المجلس وبقي عنترة واقفا مع جملة العبيد، وهو كالبطل الصنديد، وأخذ السادات في نظم الأشعار وذكر الوقائع والأخبار، فحدث شداد الملك زهير بما فعل ولده عنترة من جلائل الأعمال، وما نبغ فيه من منظوم الأشعار، فقال الملك زهير: ينبغي أن نعلي قدره في الحال.. وأرسل إليه واستقدمه إلى المجلس وطلب منه أن ينشده شعره، فأنشد من عمق الجنان ولم يستطع الكتمان وجعل يقول .. صلوا على النبي الرسول: العشق كالموت يأتي لا مرد له ما فيه للعاشق المسكين تدبير كم دا فيه عزيز كان مقتدرا و شاع هتك حب وهو مستور فلما فرغ عنترة من هذا الإنشاد وطربت الفرسان الأجواد، طلب منه صديقه مالك المزيد من الأشعار، فقال له عنترة: سمعا وطاعة وأنشده: العز في صهوات الخيل معقود والنصر بالسيف في الوغى جود ما ثار نقع عجاج في معركة إلا أغاني السمر الأماليد فتعجب الجميع من فصاحته وفرح به صديقه مالك غاية الفرح، أما الملك زهير فقد خلع عليه حلة وعمامة لا تكون إلا عند الملوك العظام وأكرمه غاية الإكرام .. ولما كان المساء عاد عنترة مع أبيه شداد من المجلس وهو فرحان غاية الفرح من إكرام الملك زهير وإحسانه، وكيف جالس أكابر بني عبس وساداتهم، وكله أمل بإدراك المراد من حبه لعبلة، لكنه كان لا يجرؤ على ذلك لأنه كان لا زال ينظر إلى نفسه بعين العبودية، فهو لا يستطيع أن ينظر إلى عبلة، بل لا يملأ النظر إليها إلا إذا كان المكان خاليا خوفا من الرقباء.. فلما كان الصباح ركب عنترة جواده، وإخوته بين يديه يسوقون الأموال من شاء وجمال إلى المراعي والقيعان مع باقي الرعيان، وكان أخوه شيبوب أقواهم وأشدهم وهو كشيطان في صورة إنسان، إذا جرى يلحق الغزلان، وإذا طلبته الخيل فرقها وسبقها بين الكتبان والوديان .. وكان أولاد الملك زهير قد خرجوا في ذلك النهار إلى وليمة لهم في البراري والوديان، وأرسلوا الخدم والرعيان قبلهم ليعدوا المكان، فانتهوا إلى رابية خضراء كانت مزهرة بالنبات في كل الجنبات، وضربوا فيها الخيام ونصبوا الأعلام وذبحوا الذبائح والأغنام وأعدوا القدور وأصناف الطعام .. ولما حضر أبناء الملك زهير جلسوا في مجلسهم وقدم لهم العبيد الطعام والمدام، وغنت المولدات ودارت عليهم الطاسات وارتفعت الأصوات بالشعر والنظام .. فلما تمكن خنديسهم من رؤوسهم، بما هم فيه من اللهو والطرب التفت مالك بن زهير فرآى صديقه عنترة وهو راكب على جواده كقلة من القلل أو قطعة انفصلت من جبل، والخيل والجمال أمامه ترعى بأمان في المراعي والوديان .. أرسل إليه في الحال ليكون معهم في المجلس، ويشاركهم لحظات الأنس، لكن أخاه ساش عارض أخاه في المقال واعترض على حضور عنترة ، و هو عبد، بين سادات بني عبس .. وبينما هما في أخذ ورد الكلام، الذي بلغ حد الخصام، وإذا بغبرة شديدة كأنها الغمام سرعان ما انكشفت عن ثلاثمائة فارس همام ...كل منهم يشابه الضرغام في القد والقوام ..وخيولهم تظهر من بعيد كالسهام وسيوفهم تلمع كالنيران ...يا سادة يا كرام ... وكان هؤلاء الفرسان من بني قحطان، وقد وصلوا إلى هذا المكان في طلب غنيمة يغنمونها ...وكان قد قل عندهم الزاد فتفرقوا في الوديان والطرقات، وقصدهم أن يسرقوا أموال بني عبس من مراعيها، فوجدوا هؤلاء يشربون من المدام ولا عادوا يعرفون القعود من القيام .... فقال لهم قائدهم : اهجموا عليهم لنأخذهم أسرى حتى يفاديهم قومهم بالمال، لأنه يظهر أنهم من السادات على كل حال ... فحملوا عليهم في الحال بالسيوف والنبال، فلما شاهد أبناء الملك زهير ما حل بهم من الوبال، تواثبوا إلى خيولهم واختطفوا سيوفهم، وسرعان ما انطبقت عليهم فرسان بني قحطان كالموج إذا ماج أو كالنقع إذا عاج .. وكان عنترة ينظر ويرى ما يحدث من بعيد .....فخاف على صديقه مالك من المهالك...