عند ذلك زعق عنترة عليه و هجم على الأسد، فدوت من زعقته الجبال، «ثم ألقى السيف من يده ورماه وحمل عليه بيديه، وفي تلك الساعة حضر شداد وإخوته وقد أتوا يريدون قتله ويعجلون من الدنيا مرتحله ويخفوا أمره .. فرأوه وهو يخاطب الأسد وسمعوا جميع ما ترنم به وأنشد من أشعار، فصاروا ينظرون بين عنترة والأسد ما يجري من أمور ومن الأمر المشهور .. فقال شداد: يا إخواني أراحنا الله منه، لأني أراه نزل إلى الأسد من دون سلاح، وفي هذا الوقت يقتله وعلى الأرض يجندله ونرجع نحن في عاجل الحال دون أن نتعب في قتله بأي حال من الأحوال... هذا ما كان من أمر شداد وإخوته وأما ما كان من عنترة فإنه انحدر من الرابية وهجم على الأسد هجمة واحدة ووقع عليه وقوع الباز على العصفور، وكبب يده ولكم الأسد في رقبته لكمة عظيمة، ووثب قائما عليه وقبض على شدقيه واستعان بالله فشقهما إلى كتفيه، فسقط صريعا يتخبط في دمه.. وهو يشخر وينخر بصوت كالرعد يصم السمع .. وصبر عليه حتى طلعت روحه فسحبه من رجله إلى خارج الوادي، وجمع الحطب اليابس وأشعل نارا عظيمة وانتظر حتى صارت جمرا يلتهب، ثم قام إليه وسلخه وطرحه بعد ذلك على النار حتى نضج واستوى، فبدأ يقطعه ويأكل حتى أكله كله ولم يبق منه إلا العظام .. ثم عاد إلى عين ماء وشرب حتى روى عطشه وغسل يديه وتحول إلى شجرة قريبة فاستظل بظلها ووضع رأس الأسد وسادة له ونام نوما عميقا.. كل ذلك وقع وأبوه شداد وأعمامه ينظرون إلى تلك الأعمال التي لا يستطيعها إلا الأبطال، وما منهم إلا من خاف منه وأدركه الانذهال، و لم يعودوا يستطيعون أن يصلوا إليه بحرب أو قتال .. أما أبوه شداد فقد قال: لقد صرنا في مأمن على الأموال بعد أن طهر عنترة الوادي من الأسد وجعله مرعى لخيولنا والجمال .. ثم رجعوا إلى الديار فرحين بما حققه عنترة من الفعال .. أما ما كان من أمر عنتره، فإنه صبر حتى حل المساء وراحت الشمس خلف الروابي والبطاح، وعاد بالأموال والخيول والجمال إلى الديار، فتلقاه أبوه شداد وتبسم في وجهه كل الابتسام وأكرمه غاية الإكرام وأحسن اليه وأجلسه معه على مائدة الطعام.. وبينما هم على هذا الحال إذا برسول الملك زهير قد أقبل على شداد وقال له: إن الملك زهير يسلم عليك ويطلب منك الاستعداد لأمر عظيم وهو غزو بني تميم وقد عولوا على المسير.. فقال شداد في الحال ونهض على الأقدام: السمع والطاعة في غد نسير تحت ركاب الملك زهير .. وقال لعنترة: في الغد نمشي مع الأبطال والفرسان، وتبقى الديار خالية من الشجعان، فأوصيك بالولدان والنسوان وصيانة الخيول والجمال وباقي الأموال.. فلا تبعد عن الديار إن خرجت في الرعي مع الرعيان .. فقال عنترة: سمعا وطاعة و ا تخش شيئا ودون ذلك الموت الزؤام.. فلما أصبح الصباح ركبت الأبطال وسارت عن الديار والأطلال وفي أولها الملك زهير يحمل أعلام بني عبس .. ولما خلا الحي والفرسان وتخلف البنات والنسوان والعبيد والغلمان أعدت سمية زوجة شداد وليمة عظيمة، وكان الزمان ربيعا تغني الطيور على الاغصان وتبدت الزهور في البراري والقيعان وكان الكل فرحان بكثرة الكلإ والعشب في الروابي والوديان، فغنت البنات والنسوان ومن بينهن عبلة التي كانت كالغزال العطشان وكان عنترة من جملة الغلمان...