د محمد فخرالدين ولما أمسى المساء .....عاد عنترة طالبا الأحياء ولما وصل إلى البيوت التقته أمه وأخذت منه المخلاة فوجدت فيها رأس الذئب والعراقيب، فارتابت وخافت عليه الخوف الشديد فأعلمها بما جرى من الأمر العجيب .. فحارت من ذلك الكلام وهالها ذلك الإقدام، فأخذت رأس الذئب إلى أبيه شداد ...وأخبرته بما كان من ابنهما عنترة فهاله الأمر أيضا وتعجب مما حصل.. وبينما كانا في الكلام أقبل عليهما شيبوب وهو يبكي بكاء شديدا وقال: أبعدني عن رعي الخرفان فإني كدت أهلك مما جريت في البراري والوديان .. وكان السبب في ذلك أن شداد لما أعطى الغنم لعنترة أعطى الخرفان لشيبوب لخفته.. فلما كان ذلك اليوم ...ساق الخرفان إلى رابية خضراء وكان في تلك الرابية ثعلب فظنه من جملة الخرفان، فلما رآه ابتعد عن القطيع وسار، أخذ عصا في يده وأطلق رجليه للريح وراءه، وكان شديد الجريان يسابق الغزلان في البر والقيعان ...هذا والثعلب جد في الهرب وهو يطارده من رابية إلى رابية، وكأنه الطير إذا طار، إلى أن أدركه ورده بالعصا إلى الخرفان فجفلت منه يمينا ويسار.. فطلب منه الشداد أن يريه ذلك الخروف حتى يذبحه ويريحه منه فدله عليه فإذا هو ثعلب، ثم إن شداد التفت إلى زبيبة وهو في قمة الإعجاب وقال لها: إن أولادك شياطين، اهتمي بهم أجمعين وخاصة أصغرهم عنترة .. وطلب منها أن لا تفارقهم لا ليلا ولا نهارا.... فأصبحت تخرج معهم إلى المراعي، وصار عنترة يقصد التلال البعيدة، ويتعلم على ظهر الخيل الفروسية والشطارة وضرب السيف وطعن الرماح ويتغنى بالشعر والقصيد، وكانت أمه تخفي كل أحواله عن أبيه شداد خوفا عليه.. ثم صار عنترة يطلب سبل العز والافتخار فكملت أوصافه بالقوة والبراعة وبانت عليه علامات الشجاعة.. وصار إذا شرد منه البعير يصيح عليه فيرتجف، وإذا أمسكه من ذيله يوقفه ويقهر الجمال العوالي، فهابه الجميع وأصبح يخافه القريب والبعيد .. وكان لزهير مائتان من الرعيان، وكان لابنه شاش المقدم عليه راع يقال له داجي شديد التكبر كثير الشر لا ينجى منه أحد، وكان يغتاظ من عنترة لأنه لا يهابه ولا يعتبره بحال من الأحوال ويتمنى هلاكه وموته.. ولم يزل الأمر بينهما على هذا الحال حتى يوم من الأيام كان يقف على مورد الماء فطلبت منه عجوز كبيرة السن ضائعة الذهن أن تسقي نعجاتها فلم يقبل، وطلبت منه أخرى أن تسقي غنيماتها وتوسلت إليه أن يرحم ضعفها وألحت عليه فغضب غضبا شديدا، ثم التفت إلى المرأة ودفعها في صدرها فوقعت عل ظهرها... فلما نظر عنترة إلى تلك الحال لم يصبر، وقام إلى داجي وعارضه وزعق فيه فأرعبه، وكان داجي طويلا عريضا فظا غليظا، سرعان ما تقدم ولطم عنترة على وجهه لطمة كادت تسيل مقلتيه ..فصبر عنترة حتى أفاق من اللطمة وقام إليه فقبض على عنقه ورفعه بقوة إلى أن بان سواد إبطه وجلد به الأرض واختلط بعضه بالبعض، وفي الحال قضى عليه ومات في حينه، فتصايح الرعيان على عنترة يضربونه بالحجارة، وعنترة يقاوم بعصاه وقد عمل فيهم مالا يعمله غيره بالحسام الصقيل .. وكان بالمصادفة مالك بن زهير مارا بالمكان فسمع الصخب والخصام، ورأى عنترة يلعب بالعصا كالحسام، ويبدد خصومه في جنح الظلام، وما منهم إلا من اشتكى وهام وقد حام حولهم الموت والحمام، وهو كالأسد الضرغام يدمدم ويقول: يا نفس لا تميلي إلى الهرب فليس ينجيك إذا الموت اقترب فما سمع مالك ذلك الشعر والنظام ورأى فعاله الجسام أعجب به، ثم إنه صاح بالرعيان وفرقهم عن المكان، وسأله عن حاله وسبب قتاله فأخبره بكل ما كان.. فلما سمع مالك من عنترة قال له: سر في ركابي فأنت مجار فما اقتربا من الخيام إلا وأخوه ساش حاملا سيفه ليقتل عنترة وقد بلغه مقتل داجي فمنعه أخوه لأنه أجاره، وكاد يقع بينهما الصدام لولا تدخل أبيهما الملك زهير، وقص عليه عنترة الخبر بأسلوب معتبر فأعجب زهير بشجاعته وهنأ أباه شداد وأوصاه به...