أسفل القنطرة الحجرية الصلبة، أوساخ ونفايات تغطي معابر المياه الجافة، ترسم حدودها قاذورات عادمة، مياه ملوثة سوداء تطفوا على السطح تفوح منها روائح نتنة تشبه جيفة الحروب، إطارات وأجزاء السيارات مرمية في كل الأركان، جِعابٌ ماء على لون وشكل مضخات دخان، تراب وغبار هنا وهناك كأن المكان لم يرى الماء منذ قرون، أطياف المكان تجوب منسجمة مع أكياس البلاستيك ترتفع معها في السماء لتسقط أرضا كلما أرغمتها الرياح على ذلك، قارورات زجاج مكسورة تنعكس عليها أشعة الشمس لتكون نجوم النهار على الأرض بألوان مختلفة، شقوق على الحائط كأن شيئا ما همَّ خارجا بقوة من الجدران، يبدوا أنه التاريخ الذي فر مهرولا عن عين الخيرات لتصبح قطعة خراب بعد ما كانت بهوا للراحة والاستجمام للساكنة والزوار والتجار وأرباب القوافل التجارية الذين يعبرون من جانبها، بحكم تواجدها في "الملاح" المركز التجاري والاقتصادي لبلدة فم الجمعة النتيفية. حُراس المغارة عين النقوب -أو النقب- المتواجدة بمنطقة فم الجمعة، على بعد 60 كلم من أزيلال في اتجاه مراكش، ألبسها الساكنة لقب النقوب لأن داخلها يشبه مغارة تحت الأرض تتكون من خطارات مياه تحمل المياه لمصبه في العالم الخارجي. هي الآن رقعة سوداء بمركز البلدة، خالية من كل روح تبعث في الفضاء ذوقا للحياة، فارغة من كل حس يأخذك في رحلة كرونولوجية عبر الزمن لتعرف هذه الجنة الأرضية التي فقدتها البلدة في جفاف 1983، حيث الأزبال والنفايات غطت ثمارها ومعالمها الخضراء وخبأت مجاري مياهها، فلا تكاد ترى سوى أوحال وزيوت الميكانيك السوداء تغمر محيطها، ولا تسمع إلا أصوات أكياس البلاستيك والأوراق تجوب بها الرياح على الأرض، ونباح الكلاب الضالة التي استولت عليها ، ترى في كل مار من جنبات العين غريب وجب الصراخ عليه. لكن قوة المكان الخامدة تستيقظ أحيانا لتذكر العارف به بخرير المياه الذي لازال صاخبا في أذن سمعته عند جريانه، أو الذي انتشى بمائه لأنها كانت شديدة البرودة في فصل الصيف. جمال بساطتها لم يدم تمتاز النقوب ببناء معماري محكوم أبدعت وتألقت فيها أنامل بسطاء البلدة، فهي تصب مياهها إلى العالم الخارجي بشكل ثلاثي، تحظى فيه الجعبة الوسطى بقدر أوفر من المياه المتدفقة منها مقابل الجعبتين اليمنى واليسرى، مخلفتا تناغما وانسجاما صوتيا ومرئيا يجذب المارين من جانبها. وزاد إبداع الساكنة كلما دعت الضرورة لذلك، فكلما قلة المياه وتناقصت عمل السكان على إخراج جعاب أقل انحدارا وأقل عددا عن سابقتها، فجدار العين يحمل في أعلاه ثلاث مخارج مياه متباعدة فيما بينها، وبعد نضوب العين وتوقفت المياه بعدما كانت تصب منذ الأربعينيات من القرن الماضي، تم حفر مستوى ثاني سنة 1983 لتتدفق المياه من جعبتين اثنتين أسفل الجعاب الثلاث، لكن هذا لم يدم طويلا حتى ثم حفر مستوى ثالث وإخراج المياه من مخرج واحد أسفل المخرجين السابقين. ولكن مصير العين هو الزوال، رغم إصرار الناس وجدهم للحفاظ على أكبر عين ببلدتهم وتشبتهم بها لم يمكنهم من تلجيم القدر وكبح مد الجفاف الذي تسلط على كل القبائل المجاورة. آلة غسيل اسمنتية في الضفة الأخرى للقنطرة التي بناها اليهود الفرنسين سنة 1946، يزداد الإبداع الذي دعت إليه حاجة الساكنة، هنا مجرى مياه جاف يسمع أنينه، ربما شكت إليه البساتين فقرها للماء، أو أثقلت حركته الأزبال والتراب. طاولة اسمنتية صامدة ترتفع عن الأرض بمتر واحد، تطوف بها نباتات شوكية تحرسها من الأوساخ تاركتا المجال للتراب الذي يغطي نصفها، أفقدتها الشمس لونها الأصلي حتى شقتها الحرارة لتظهر حجارتها الداخلية، صوت حزين يخرج من بين صخور الطاولة حاملا معه صور الماضي البعيد، حديث نساء البلدة الصاخب عن مآسي الحياة، بربطات الرأس الحمراء واللباس الذي يتحزمن به فوق الخصر ليسهل عليهن استعمال الأقدام برشاقة لغسل ملابس وأفرشة المنازل، رجال ينظفون الصوف والجلود لأصحابها الذين يتاجرون بها في المدن الكبرى، يرتدون أقمصة مفتوحة من الصدر تغمرها المياه، وسراويل فضفاضة متسخة مهزوزة عند الركبة، عرق ينزل على الجبين صبرا للمجيئ بلقمة عيش عند المساء... لكن ألم العمل أرحم بالبسطاء من فراق خيرات عين النقوب التي شدت طريق اللاعودة.