ها قد وضعت معركة السابع من أكتوبر 2016 أوزارها، مخلفة وراءها الكثير من الجدل واللغط حول ما أفرزته صناديق الاقتراع من نتائج، أنهت آمال وأحلام عديد الأشخاص والجهات، لاسيما بعدما أعادت إلى الصدارة حزبا، أبى أمينه العام ورئيس الحكومة المنتهية ولايتها بنكيران، إلا أن يخل بوعوده الانتخابية ويذيق المرارة للطبقات الفقيرة والمتوسطة عبر قراراته اللاشعبية، حيث حصل على 125 مقعدا، متبوعا بخصمه اللدود حزب الأصالة والمعاصرة ب102 مقعدا، فيما اندحرت باقي الأحزاب السياسية إلى أسفل سافلين. وبدأ الاستعداد للانتقال إلى مرحلة جديدة، يعلم الكثيرون أنها لن تكون أفضل حالا من سابقتها، بظهور مؤشرات محبطة. واحتراما للمنهجية الديمقراطية، بادر الملك محمد السادس إلى استقبال بنكيران يوم 10 أكتوبر، وتعيينه مجددا رئيسا للحكومة. وفور افتتاح الدورة الأولى للبرلمان من الولاية التشريعية العاشرة، وتمهيدا لتشكيل حكومة جديدة، تشمر الرئيس القديم/الجديد للشروع في إجراء مشاوراته مع أمناء الأحزاب السياسية ما عدا الأصالة والمعاصرة، الذي رغم احتلاله الصف الثاني أعلن أمينه العام إلياس العمري منذ البداية عن عزمه الأكيد الاستمرار في المعارضة، لاختلاف حزبه الإيديولوجي والمرجعي مع الحزب الإسلامي الفائز بالرتبة الأولى. وانطلاقا مما راكمه من "خبرة" إبان تجربته الفارطة، وسعيا منه إلى عزل غريمه السياسي، والخروج بتحالف حكومي منسجم وقوي، بأغلبية مريحة في البرلمان بغرفتيه الأولى والثانية، وابتداء من يوم الاثنين 17 أكتوبر 2016، شرع بنكيران في لقاء زعماء الأحزاب بمقر حزبه تحت أضواء الكاميرات، وبحضور مختلف وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمقروءة، اعتبارا لأهمية الحدث الذي لا تعرفه البلاد إلا مرة واحدة في كل خمس سنوات. وهكذا وقف المغاربة يتفرجون باستغراب واندهاش كبيرين، يكادون لا يصدقون ما يجري حولهم من تدافع أحزاب عاقبها الناخبون، نحو نيل رضا وكرامات "الفقيه"، إذ طوى خصوم ومعارضو الأمس بسرعة صفحات خلافاتهم، وراحوا يكيلون له المدح وينثرون عليه الورد، فيما وقف مزهوا بنفسه وبما حققه حزبه من نصر مبين، لتتحول بذلك "السباع" إلى خرفان وديعة، تبحث لنفسها عن نصيب من الكعكة ذات الجاذبية القصوى. فباستثناء حزب التقدم والاشتراكية الشيوعي/الإسلامي، الذي اتفق أمينه العام بنعبد الله مع بنكيران منذ حتى قبل إجراء تشريعيات 7 أكتوبر 2016، عن اصطفافهما معا في خندق واحد سواء بالمعارضة أو الحكومة، ورفض حزب الأصالة والمعاصرة لأي تحالف مع البيجيدي، فقد تهافتت باقي الأحزاب السياسية بمختلف مشاربها، على المشاركة في الحكومة المقبلة تحت يافطات عدة، متنازلة عن مبادئها ومرجعياتها، بدعوى رغبتها الجامحة في تعزيز المسار الديمقراطي، وأن المصلحة الوطنية العليا تقتضي إنهاء الصراعات السياسوية، والمعارك الكلامية البعيدة عن جوهر هموم المواطنين الرئيسية... ولا غرو أن نجد من بين الأحزاب المتهافتة، أن هناك من خلقت فقط لتحكم بشتى السبل، وأن أخرى سئمت البقاء مركونة في المعارضة، التي لم تعد تخدم مصالحها ولن تزيدها إلا تمزقا وتراجعا، في ظل ما لحق خطابها من هزال وما صارت تعانيه من حروب داخلية طاحنة، لا تكاد تنتهي حتى تبدأ من جديد. وترى أن أحسن وسيلة للخروج من أزمتها الخانقة، هي المشاركة في الحكومة مهما كلفها الأمر من ثمن، لإخماد نيران الغاضبين بالاستفادة من دواوين الوزارات والتعيين في المناصب العليا. قد يقول البعض بأن هناك واقعا عنيدا فرضته الظروف الإقليمية والوطنية، وأنه أصبح من الواجب العمل على تجاوز المرحلة السابقة بما لها من سلبيات، والتي اعتبرها عاهل البلاد في خطابه السامي أمام البرلمان يوم الجمعة 14 أكتوبر 2016، مرحلة تأسيسية للمصادقة على القوانين المرتبطة بإقامة المؤسسات بعد إقرار دستور 2011. وأنه من الأفيد أن تكون المرحلة الراهنة أحسن من سابقتها، وتتميز عنها بروح الوطنية الصادقة، للانكباب بجدية على أهم قضايا وانشغالات المواطنين المطروحة بحدة، وفتح أوراش الإصلاح الكبرى... ومن خلال تسابق الأحزاب المحموم صوب اقتسام كعكة السلطة، يتضح أنها فقدت بوصلة النضال الحقيقي وأفقدت معه العمل السياسي مصداقيته. إذ لم تعد اختياراتها قائمة على الخلفيات الفكرية، وأصبحت مصلحة المواطن آخر اهتماماتها. فلو كانت تقوم بدورها التأطيري وتحترم فعلا إرادته، لامتثلت لحكم صناديق الاقتراع بموضوعية، وما كانت لتشتكي من عزوفه عن المشاركة في الاستحقاقات الانتخابية. وبما أن الأمر يسير على هذا النهج من العبث السياسي المخجل، وبناء المصالح الشخصية والحزبية الضيقة على أنقاض المبادئ، فلم لا يتم التحالف بين الحزبين المتصدرين لنتائج الانتخابات البرلمانية، العدالة والتنمية والأصالة والمعاصرة، بحكم توفرهما على الأغلبية في مجلسي النواب والمستشارين، وكفى الله المؤمنين القتال؟ أليس مثل هذا التحالف ب"رأسين" سيكون هو الأقرب إلى "الصواب"، خاصة إذا ما تم تقليص عدد الحقائب الوزارية؟ عموما، وبقطع النظر عما سيخرجه "الساحر" لنا من توليفة حكومية، فهل ستستطيع أن تكون في مستوى تطلعات الشعب، من حيث تحسين ظروف العيش ومستوى الدخل، النهوض بالبنيات التحتية والخدمات الاجتماعية في التعليم والصحة أساسا، تشجيع الاستثمار وتوفير فرص الشغل للعاطلين؟ وهل بمقدورها فتح ملفات الفساد، وإعادة النظر في طرق الاستفادة من رخص النقل ومقالع الرمال والصيد في أعالي البحار، واتخاذ قرارات جريئة بمراجعة قوانين الأراضي الممنوحة ل"خدام الدولة" وتقاعد الوزراء والبرلمانيين، وتقليص أسطول سيارات الدولة الذي يستنزف أزيد من 130 مليار سنتيم سنويا من المال العام...؟ اسماعيل الحلوتي