صنع المغرب لنفسه سجلا أسودا لانتهاكات حقوق الانسان، ذلك السجل الذي يحاسب به اليوم محليا وخارجيا ناتج قطعا عن مسيرة تاريخية طويلة تمتد لعدة قرون، سجل تكون بتلك العتامة كنيجة طبيعية لعلاقة غير سوية بين الدولة والمجتمع، دولة استبد فيها الأمير والامام والخليفة وولي الأمر بشؤون الناس، ولكي يدفع عنه شبهة الطغيان لم يتلقب بلقب الملك لأنها لفظة اقترنت في الذهنية بالعسف والجبروت، ولم تسطر اللفظة في مصادر التاريخ أيا كانت إلا بعد الاستقلال بأعوام لما أراد العاهل أن يخافه الناس فاستمع لنصيحة ماكيافلي: إذا كان لابد من الاختيار بين أن يحبك الشعب أو أن يهابك، فاختر الهيبة لأنها أضمن لسلطانك. أما المجتمع فإنه لم ولن يشارك الملك ملكه، لأن من طبائع الملك الانفراد بالمجد والثروة، هكذا ظهر لابن خلدون في مقدمة تاريخه، وهو واقع بشواهد من هنا ومن هناك. ليس غرضنا هاهنا التنظير لتلك العلاقة بين الحاكم والمحكوم، غرضنا هو إثبات أن الدولة المخزنية في المغرب لم تستطع عبر التاريخ التعالي عن المجتمع، فنتج عن الالتصاق الواقع بين الطرفين أن استمرار الأول رهين بما يتحصله من الثاني، مرة بالشرع (الدولة الدينية)، وأخرى بالعصبية (الدولة القبلية)، وإذ لم يكن بمقدور المغاربة أفرادا وجماعات الاستجابة لمتطلبات المخزن غير المحدودة ماديا ورمزيا من غير أن يستفيد منها شيئا، فقد حدث صدام هو بالذات الذي أنتج ذلك السجل الأسود الذي أشرنا إليه آنفا وعليه نود أن نتكلم. مسألة انتهاكات حقوق الانسان عبر تاريخ المغرب كانت فظيعة وقاسية إلى الحد الذي لا يتصور، وهي ليست مسألة مستجدة، فقد مرت قرون وعقود من تاريخ المغرب أكثر سلبية من راهن المغرب ويومه، قياسا مع ما يمكن أن نسميه اليوم ب "الانتهاكات الناعمة" لحقوق الناس. والمثير للملاحظة هي أن الانتهاكات الأشد قساوة هي التي حصلت بموجبات الدين خاصة لما يبرز ثائر يود الحكم أو أن يشرك فيه أو حتى مجرد متقدم بنصائح وأحيانا تنبيهات لسلطان الوقت، فيبحث العاهل عن فقيه واعظ يجيز له ممارسة كل أنواع العقاب على المتمرد أو الثائر أو الناصح واليوم أيضا عن الفاضح، بحجة الحاجة إلى إمام يسوس الرعية وتحت دريعة أن "الجور المرتب أبقى من العدل المهمل"،(راجع بهذا الشأن أبو الوليد الطرطوشي، ص. 174. وأيضا Von Grunbaum, l'islam médiéval, Histoire et civilisation, p. 103 et suiv. الحديث اليوم عن حقوق الانسان في المغرب ليس له محددات فكرية وتوجهات تتغيى السمو بالإنسان ودفاعا عن كرامته، كل ما في الأمر هو أن زمرة من الاشخاص غالبا سمعوا عن أدلوجات ذات أساس سياسي ونادرا من منطلقات فكرية ولم يكلفوا أنفسهم عناء قراءتها، يجتمعون في مقهى أو أي فضاء آخر يطرحون فكرة تنصيب أنفسهم مدافعين عن حقوق الانسان عن طريق تبني قضية معينة لا تستدعي أصلا التداول في شأنها، تكون تلك اللحظة هي المنطلق، شيئا فشيئا يكتسب بعض من أعضاء تلك النظيمة الامتراس والدربة على التفاوض والمساومة، ومنها يؤسس لنفسه إطارا من خلاله يقضي مآربه لنفسه ولعائلته ولعشيرته وأقربيه وإن اتسعت الدائرة حسب حجم القضية التي يتولاها فلقبيلته وحزبه نصيبا مما حققه جراء تلك المساومات. لهذا الاعتبار بالذات لا يوجد عندنا في المغرب مدافعون عن حقوق الانسان، كل ما عندنا هم أشخاص نصبوا أنفسهم رغما عن متوليهم ومن غير أن يطلب منهم ذلك، كأطراف تختلق قضايا منها يقتاتون ويعتاشون، من قبيل الحصول على المنصب، التفرغ لأجل مصلحة، المكافأة المادية، شراء الذمم، وهلمشرا. في بني ملال التي وددنا الحديث عنها كما أومأنا لذلك في العنوان، برز أشخاص منهم الرجال ومنهم النساء، غالبهم فاشلون فكريا وعلميا، لم يطلعوا على المرجعيات العالمية والقومية والوطنية لحقوق الانسان، فكرسوا منطقا يعد أعقد ما يعيق تطور الدولة، والذي هو منطق الموالاة، نتصور شخصا انتهكت حقوقه، مثلا عسف من بيده سلطة، أو نزع ملكية، أو إقصاء لأسباب إثنية أو دينية، أو إبداء رأي سياسي، أو نظر في تدبير شؤون محلية، يأتي من إليه أرشد موصوفا بالمقتدر على أن يتولى قضيته إحقاقا للحق، فيكون أول جواب للحقوقي المزعوم هو "إني أعرف القاضي الفلاني أو الرجل الفلاني ذو المنصب الرفيع، ما عليك إلا دفع قسط من المال ليتولى القضية ويستصدر القرار في الاتجاه الذي تريد"، كثيرا ما سمعنا وعاينا قضايا من هذا القبيل. في بني ملال تعج بعض المقاهي بمثل هؤلاء الحقوقيين المزعومين، إلى جوار المقهى الذي يرتاده يوجد مقر التنظيم الحقوقي الذي يمثله أو ينتمي إليه، هنا يتصيد البؤساء والمحتاجون لمن يحفظ بعضا من كرامتهم في دولة تهدر فيها الكرامة والحق بكل يسر، حقوقي بئيس بدوره يعتقد أنه يمن على الناس بفضل منه، هؤلاء هم الحقوقيون التحريفيون الذين أصبغوا أنبل القضايا بلبوس بارد وقاموس مبتذل غني بألفاظ تمتح من عقليات بائدة، حقوقيون مصطنعون أوصافهم الطمع والغصب والطغيان والفساد والوقاحة والعدمية...آن الأوان أن يجبروا على الكشف عن الحقائق والسرائر وأن يبعدوا ويسجنوا، وأساسا التوقف عن استعمال ورقة حقوق الناس كأداة للابتزاز، فكم من حقوقي يدعي أنه كذلك ولا يقوم بالمهمة التي يتقاضى عنها أجره والذي يحصل عليه من أموال دافعي الضرائب، هؤلاء التحريفيون منهم الأستاذ الجامعي ومنهم المعلم، منهم المحامي ومنهم الباطل عن العمل، بل ومنهم الأميون والمعدمون. المصطفى أيت يدير أستاذ التاريخ والجغرافيا، بني ملال