يصنف الإبداع ضمن خانة الموضوعات الانسانية الأكثر دقة وحيوية وصعوبة من حيث الدراسة والتناول ، وما يقتضيه ذلك من استحضار ووقوف عند مختلف الجوانب المتدخلة في هذه العملية الكيميائية المعقدة ، خصوصا عندما يلتقي ذلك مع كون الإبداع إدمانا محمودا على التمرد والثورة الدؤوبين على القواعد القائمة والقوانين الثابتة والقوالب الجاهزة ، وذلك بهدف التفرد والتميز عن الأقران والنظائر من خلال استثمار شحنة انفعالية تحركها دوافع تعتمل فيها الذاتية والموضوعية ،فتبث طاقة إيجابية ملهمة في العمل الأدبي الإبداعي ، من خلال الارتباط بمادة خام – يبقى تحديد مصدرها من أكبر الاشكالات إلى يوم الناس هذا – ينطلق منها المبدع لتشكيل صور فنية تحمل تجربة إنسانية في شكل يستعصي على الضبط والتحديد والتسييج كلما ارتفع منسوب القدرة الابتكارية وازداد حجم التحرر من النموذج وسطوته التي تقف سدا منيعا أمام سياحة الذات في محيط الابداع الفسيح . فمن شأن الابداع أن يواجه الموت ويهزمها ويتيح لنفسه الخلود على امتداد الحياة الأزلية – الفانية وقد عبر عن ذلك الشاعر العربي نزار قباني في أحد حواراته بقوله "لا يهزم الموت إلا الفن ، والفنانون هم الوحيدون الذين يخافهم الموت ويحسب حسابهم ، فشكسبير زاره الموت من أربعمائة سنة ولكنه لم يستطع أن يصرعه بالضربة القاضية ، ف(هاملت) لا يزال حتى الآن واقفا في حلبة الملاكمة يرد ضربات الموت ، ولم تنته المباراة بعد ، والمتنبي هاجمه الموت أكثر من ألف سنة ولكنه هرب أمام شجاعة المتنبي وصموده وكبرياء نفسه ، إني عندما أكتب شعرا أشعر بالقوة والمناعة فالشعر (...) هو شهادة تأمين ضد الموت ." (حوارات مع الشعراء العرب) . وقد رأى أفلاطون عكس ما سبق في التعامل مع الشعراء وما تجود به قرائحهم من إبداع وفن ، فالفن عند أفلاطون يساهم في إفساد شباب أثينا وذلك لأن "الفن قائم على المحاكاة (فهو) بعيد كل البعد عن الحقيقة ، ولذا كان يستطيع أن يتناول كل شيء ، (وبالتالي فإن) هذا الجزء ليس إلا شبحا " ، أما أرسطو فقد عمل على إقامة نظرية المحاكاة التي أسّس بنيانها أفلاطون على أسس جديدة تطبعها الإيجابية والمنفعية وذلك من خلال اقترانها بعملية التطهير وأثرها المحمود على نفوس الجماهير ، والتي " يؤمن فيها أرسطو بأن التراجيديا تنمي عاطفتي الشفقة والخوف ، ولكنها تجعل المشاهدين أكثر قوة من خلال عملية التطهير " ، كما يرى أرسطو "أن الأديب حين يقيم فنه على المحاكاة فإنه لا يكتفي بالنقل فقط ، بل يتصرف في هذا المنقول ويحاكي ما يمكن أن يكون أو ما ينبغي أن يكون بالضرورة أو بالاحتمال" فيغدو الإبداع بذلك وفق تصور أرسطو ذا طابع مثالي ينحو تجاه تجاوز الواقع المشوه ويرفض أن يكون مجرد صورة طبق الأصل عن الحياة الانسانية المحمومة . نلاحظ مما تقدم أن قيمة الابداع الفني – الأدبي تتفاوت بين الفيلسوفين "العظيمين" أفلاطون وأرسطو ، فقد بخّس أفلاطون من قيمة الفن والأدب ممثلا في الشعر واعتبره خطرا شديدا لأنه يفسد شباب أثينا التي لم تكن في حاجة إلى الشعر ، وقد عمل أفلاطون على حماية شباب المدينة من خطر الشعر خصوصا وأنهم في طور التشكيل والبناء ، إذ قسّم أفلاطون المجتمع إلى فئات هرمية القيمة ، متراتبة الأهمية تأتي على رأس قائمتها فئة الحكام – السياسيين مرورا بفئة الجنود وانتهاء بفئة العمال والصناع والحرفيين وما تبقّى من مكونات المجتمع ، الذي يراه ويريده أفلاطون متماسكا وقويا من خلال الدور الذي تؤديه كل فئة . وقد أنشأ أفلاطون الأكاديمية ليعد هذه الفئات لما ينتظرها من مهام وذلك بالاعتماد على المنطق والرياضيات والفلسفة وكل ما يتعلق بالمعارف والحقائق المطلقة واليقينية التي لا يتطرّق إليها الشك ولا يتلبّس بها الشعر ذلك الهيام والهذيان الذين لا ينضبطان لمنطق ولا يحيلان إلى حقيقة ، ومن ثمة يبقى الشعر مجرد ترف بل هو شر مستطير يحيق خطره بالمجتمع "الأثيني" إن هو تسلل إلى نفوس وعقول شبابه ، ومن كل ذلك حكم أفلاطون على عبثية الشعر ولا جدواه فأقصاه وأبعده من "هندسة" التعليم والتثقيف والتكوين التي تعد الأجيال لما ولدت له وحدّد لها منذ البدء والولادة . وعندما "بلغ أرسطو أشدّه"عمل على إعادة الاعتبار إلى الشعر وذلك بالإشادة بالدور الكبير والمنفعة الجليلة التي يقدّمها للجماهير، عبر تطهير النفوس والتنفيس عنها وتخليصها من متراكماتها الشعورية بواسطة العزف على وتر الروح والوجدان وإثارة المشاعر والأحاسيس والعواطف التي تتراوح بين الخوف والشفقة، من خلال التراجيديا التي تخضع تجارب مريرة لأبطال من طبقات المجتمع العليا –بالضرورة- إلى التشريح مما يثير مجموعة من الانفعالات التي تخفف من توهجها وهيجانها دموع الخوف والشفقة بعيدا عن العقل والمنطق والرياضيات ، وبذلك يكون أرسطو قد عمل على ترميم بناء وجدان النفس الذي هدّمه طغيان الرياضة العقلية وتهميش التغذية الروحية ، وعلى تعديل ميزان الآدمية من خلال إحداث التوازن بين كفة الآلية الراجحة وكفة الانسانية المرجوحة . وختاما يبدو لي أن أفلاطون – ورغم عظمته وريادته – قد ظلم الانسانية من خلال الإرث الذي لم تستطع العقول عبر التاريخ التخفف من أحماله ،وخصوصا من خلال مجموعة من الموافق التي كانت في حينها تبدو متقدمة ومتنورة إلا أن سيرورة الحياة وعجلة الزمن قد كشفت عنها غطاءها ، فأضحت متخلفة بمعيار الواقع ، فكيف طاوعته سريرته في حرمان الانسانية من مكون أساسي من مكونات الحضارة البشرية وهو الأدب كما ظلمها من خلال تحديد مصير الأفراد منذ ولادتهم دون تمتيعهم بإمكانية تحسين أوضاعهم والترقي في مدارج المجتمع ، فضلا عن حرمان السواد الأعظم من أفراد المجتمع من المشاركة في الحياة المدنية عبر حرمانهم من حق المشاركة السياسية . أحمد هيهات