من مظاهر التعبد التي ينبغي للعبد أن يكون له مسلك ثابت فيها شكر نعم الله عليه، ومن شكر نعم الله الاعتراف بفضله ومظاهر إحسانه إليه، ودفع شبه الغافلين عن سننه حين يعرضون ما يعرضون، ومن ذلك قول المعرضين من الرجال عن مكرمة الإحصان لسبب من الأسباب، وهي سنة ربانية دعا إليها الخالق جل في علاه، وحث عليها الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي يحفظه أغلب الشباب.[1] وما دعاني إلى ذلك هو اتساع دائرة الرافضين القانعين بحال العزوبة والوحدة دون وضع الإحصان والزواج ضمن قائمة الأولويات، محتجين لحالهم بعدد من المبررات التي تختلف من هذا إلى ذاك؛ غير أن الوجهة واحدة: "لا أفكر في الزواج". الحجة الأولى: لم يبق في النساء امرأة عفيفة: وهذا الكلام يحمل ما يحمل من الأخطار والأخطاء ما وجب التنبيه إليه، أول ذلك أنه يوجه تهمة الفساد إلى أهله وذويه قبل غيرهم، ثم يلحق ذلك ببنات ونساء المسلمين؛ وهذا تكذيب مباشر لوعد الله تعالى: (الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ)[2]، ولقوله سبحانه (الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ)[3]، ومن تفسيرات بعض العلماء للآيتين السابقتين، أن الله لا يسلط على عباده الصالحين نساء غرقت أقدامهن في أوحال الرذيلة، ولا يسلط على الطيبات من النساء شرار الخلق ممن ملئت صحيفته بالرذيلة. ثم إن هذا الكلام في غالبه يحمل تصديقا لواقع يعيشه هو نفسه، ولا يرى حياة الناس وواقعهم إلا من داخله، ولذا كان طبيعيا أن يكون الحكم الذي قاله على هذا التعميم والإطلاق؛ الذي يجرد فيه نساء المسلمين وبناتهم من نقاء العفة والطهر. وهذه الحجة يلحق بها صنف ثان من الرجال تلفاه يبحث عن صورة من النساء لا وجود لها إلا في خياله، يريدها ذات مال وجمال وحسب ونسب وخلق ودين، وصاحبنا ليس له من ذلك نصيب، فإن كان التكافؤ مطلوبا في الزواج، وكان الدين أولى بالانتباه كما نص على ذلك الحديث: (تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ لِأَرْبَعٍ : لِمَالِهَا ، وَلِحَسَبِهَا ، وَجَمَالِهَا ، وَلِدِينِهَا ، فَاظْفَرْ بِذَاتِ الدِّينِ تَرِبَتْ يَدَاكَ)[4]، إلا أن التدين مستويات ومراتب، فلا يعقل أن يطلب الإنسان ما ليس له ربعه، كن عَليا واطلب فاطمة للزواج، أما أن تكون إلى الخمارة أقرب، وتطلب المؤمنات العابدات القانتات التائبات فذلك ما لا أراه عدلا، نعم يحق لك البحث عن التدين، لكن دون مغالاة ولا إفراط. الحجة الثانية: الدخل لا يكفي: وهذه الحجة كذلك أهلها صنفان: صنف يصدق حاله قوله، فتراه حقيقة من المعسرين المعدمين، وهذا عذره معه، ويبقى عليه البحث عن المخارج. وصنف ثان ينفق بين ليله ونهاره ما لو أنفق نصفه على بيت العفاف والإحصان لكفاه، فأي عذر هذا الذي يسوقه؟! الحجة الثالثة: غلاء المهور: وهذه حجة أهون من سابقتها، فنحن أعلم بحقيقة بلادنا، فإن كانت مناطق قد عرفت بغلاء المهور، وهذه حقيقة لا مراء فيها للأسف الشديد، فإن مناطق أخرى عرفت كذلك بيسر المهور، بما لا يصدقه عقل، فمن الناس من حلت له حليلته بما لا يجاوز أصابع اليد العشرة أوراقا نقدية من فئة مائة درهم، وما أكثرهم، ومنها من زاد عن ذلك بقليل، بل منهم من نقص عنه! الحجة الرابعة: في الحرام غُنية: البعض منهم، ولعله الأكثر صراحة بينهم، وإن كانت صراحة مرة، ولكنها تنطق بما يظنه صاحبه الحقيقة، وأقول ظن، بل وهم، وليس له من الحقيقة نصيب. والغريب في الأمر أن هذا القول تسمعه على لسان من ارتقى وتفلسف وتحدث (من الحداثة) في فكره، ولامس روح العصر، بل ربما تراه في جمعية حقوقية تدافع عن حقوق المرأة، وهو يدوس حقها في السكينة والبنين تحت نعليه! من كانت هذه رؤيته فإنه يجرد الأنثى من صفاتها، ولا يبقي لها إلا وظيفة واحدة هي وظيفة المتعة والفراش، وأين لمن كان فراشه بغاء أن يصل من أنثاه ما يلقاه الحصين المحصن من حليلته في الحلال؛ أو يظن أن فراشه ذاك يغنيه عن الحلال؟ لقد وصف الحق سبحانه العلاقة الزوجية في القرآن الكريم فقال: (وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ)[5]، فأين صاحبنا من هذه المعاني السامية؛ أين معنى السكن الحقيقي (لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا)؛ سكينة الكلام، وسكينة التفريج، وسكينة الإشراك ... وما شئت من النعم، وتلك النعمُ؛ رب العالمين هو الذي جعلها بين الزوج وزوجه (وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ )، فأين كل ذلك؟ أين المودة والرحمة في لقاءات محكومة بحُكمين؛ حُكم الزمن، وحُكم اللحظية؟ أين كل ذلك وغيره مما تحققه آصرة الزواج في المجتمعات؟ على كل حال؛ تلك بعض الملاحظات أردت الإسهام بها في هذا الباب؛ وأترك خاتمة المقال لجاحظ القرن العشرين؛ مصطفى صادق الرافعي؛ ليقول رأيه في الموضوع؛ مسميا صديقنا العزب بأرملة الحكومة فيقول: ("أرملة الحكومة" فيما تواضعنا عليه بيننا وبين قرائنا هو الرجل العزب، يكون مطيقًا للزواج، قادرًا عليه، ولا يتزوج؛ بل يركب رأسه في الحياة، ويذهب يموِّه على نفسه كذبًا وتدليسًا، وينتحل لها المعاذير الواهية، ويمتلق العلل الباطنة، يحاول أن يُلحق نفسه بمرتبة الرجل المتزوج من حيث يحط الرجل المتزوج إلى مرتبته هو؛ ويضيف شؤمه على النساء إلى هؤلاء النساء المسكينات، يزيدهن على نفسه شر نفسه، ويرميهن بالسوء وهو السوء عليهن، ويتنقصهن ومنه جاء النقص، ويعيبهن وهو أكبر العيب؛ لا يتذكر إلا الذي له، ولا يتناسى إلا الذي عليه، كأنما انقلبت أوضاع الدنيا، وتبدلت رسوم الحياة، فزالت الرجولة بتبعاتها عن الرجل إلى المرأة, وانفصلت الأنوثة بحقوقها من المرأة إلى الرجل ... "أرملة الحكومة" هو ذلك الشاب الزائف المبهرج، يُحسَب في الرجال كذبًا وزورًا؛ إذ لا تكمل الرجولة بتكوينها حتى تكمل بمعاني تكوينها, وأخص هذه المعاني إنشاء الأسرة والقيام عليها، أي: مغامرة الرجل في زمنه الاجتماعي ووجوده القومي، فلا يعيش غريبًا عنه وهو معدود فيه، ولا طُفيليًّا فيه وهو كالمنفي منه، ولا يكون مظهرًا لقوة الجنس القوي هاربة هروب الجبن من حمل ضعف الجنس الآخر المحتمي بها، ولا لمروءة العشير متبرئة تبرؤ النذالة من مؤازرة العشير الآخر)[6]