كانت منابر إعلامنا في الماضي بالفعل سلطة إيجابية بمعنى الكلمة. لما كانت نابعة فعلا منا و إلينا، لما كانت لسان حالنا و كانت تسعى فعلا إلى كشف الستار عن همومنا و كان الناطقون باسمنا يعيشون معنا هذا الواقع المرير، و كان همهم الأول و الأخير هو بيان الحقائق للقراء منا و كشف النقاب عما نعيشه لغيرنا. أما الآن فقد فتح أولها و ثانيها فصارت " سَلَطة ". خليط من الأشياء لم نعد قادرين على تمييزها. خليط من المكبوتات و تصفية الحسابات و إعلان العداوات و غيرها من المآرب التي لا تعدو أن تكون إلا مآرب شخصية. بعضها قد صار أبواقا واضحة لجهات معينة تفرغ فيها مذاهبها و إيديولوجياتها بدون استحياء، أو تتفنن في تزوير صورتها الحقيقية و تزيينها للمتلقي. و كأننا هبطنا للتو من كوكب آخر، و لا نعرف شيأ عن هذه الجهات و لا عن ماضيها الملطخ بذنوب الفقراء و بؤس الطبقة المهمشة، و أحيانا بدماء الذين تجرؤوا ذات مرة و قالو "اللهم إن هذا منكر". و بعضها صار فزاعات ترفع في وجه كل من بدأ " يفهم " و سولت له نفسه أن ينهى عن المنكر و لو بقلبه. و تحاول أن تذكرنا أننا في مأمن من شرها ما دمنا نحترم أنفسنا و لا نتجرأ على المطالبة بأدنى حقوقنا، و أننا في سلام ما دمنا نتملق لها لتجود علينا بزكاة من أموالنا التي اغتصبت منا و كدست في حساباتهم البنكية داخل و خارج الوطن، و أننا نحن أناس لا نعرف التصرف في الأموال الكثيرة كما يفعلون هم و نسائهم و أبنائهم. و تقول في كل مرة أنها لنا بالمرصاد و إذا ما عدنا عادت. أما البعض، و هذه هي الأخطر، فإنها بارعة في النفاق و كثرة " الزواق ". مهمتها تضليل الناس و إيهامهم أن كل شيء على ما يرام في هذا البلد العزيز، بل و أكثر من ذلك إننا، حسب ما يروجون له، في تقدم ملحوظ اجتماعيا، اقتصاديا، فنيا و حقوقيا. عجيب أمر هذه المنابر، وجوه أصحابها " مقزدر " بالتعبير المغربي الصرف. لا يرهق وجوهم هاته قتر و لا ذلة و لا حياء عندما يكذبون علينا و على أنفسهم و هم على علم أنهم يكذبون. المرض ينخر أحشائنا و يقولون أن ما بنا شيء و لا نعاني من شيء. صدق أو لا تصدق أننا في بلد الحريات و الديمقراطية و المساواة و على البلدان الأخرى أن تستفيد من تجربتنا. يكاد المتلقي يصدق فعلا أنه لا وجود للأمراض و الأوبئة في بلادنا و أن حكومتنا الموقرة قضت على كل هذه الأمراض، و أنها لا تتوانى في خدمة الشعب بكل ما من شأنه أن يرقى بصحته. صحيح فالمستشفيات في كل مكان سوى المناطق المعزولة فأرض الله كلها مستشفى و الدواب سيارات إسعاف لكل النساء الحوامل و الشيوخ المنهكين و الرضع الضعفاء. هي وحدها حمير الأطلس الكبير و المتوسط شاهدة على عدد النساء اللواتي يمتن على ظهورها أو يفقدن حملهن. الأدوية مجانية سوى الضرورية منها و المرتفعة الثمن فإن حكومتنا الموقرة قد منحت التراخيص الكافية للصيادلة و سهلت عليهم مأمورية كشط ما قد تبقيه المسافات و المرض من الفقراء ساكني الجبال. أما الأطر الطبية فإنها متوفرة حيثما ذهبت لكن مع مشكلة بسيطة لا يجب أن نعيرها اهتماما كبيرا. المشكلة البسيطة أن الطبيب الواحد يجب عليه في بعض المناطق أن يكون الطبيب و الممرض و العون و ... في الوقت نفسه. و إذا كان المسكين متخصصا فأنه قد يعاني من بعض الوحدة لأنه سيكون لوحده في الجهة كلها. ولا ننسى أن حكومتنا الموقرة في بعض الأحيان تعين أطباء متخصصين في كل أنواع السخرية و أغلظ ألفاظ السب و الشتم و آخرين مصابون بمرض العرقية و التمييز العنصري و كل أشكال الدلال. يقدمون عوض خدمة التطبيب أمصالا من الكلام الرديء و لقاحات من المعانات و الألم الذي يبقى حتى بعد انتهاء المرض العضوي. يكاد المرء يصدق أنه لا وجود للفقر و البؤس و البطالة و ... في مجتمعنا و أن الحكومة الموقرة تبدل مجهودات جبارة من أجل القضاء على هذه الأمراض الاجتماعية، و أنها نجحت في القضاء على نسبة كبيرة منها. نطلب من الله أن يجازيها عنا على ما قدمته لنا. شكرا لحكومتنا التي حلبت لنا بقرتنا بعدما كبلت أيدينا و ألسنتنا ثم أعطت لنا قطرات من حليب بقرتنا و احتفظت بالباقي لأبنائها. شكرا لحكومتنا الموقرة التي وفرت لنا طاولة لكل أربعة منا لتعلمنا أننا مهما تعلمنا فنحن لازنا في حاجة للتعلم، و نشكرها على تحملها عناء شراء المقررات من مزابل فرنسا و جيرانها بملايير الدراهم لتعلمنا أننا شعب نستهلك كثيرا و ننتج قليلا. شكرا لمن جعلونا فئران التجارب في ميدان التعليم بينما لا يرضون ذلك لأبنائهم فأرسلوهم للدراسة خارج الوطن على حساب جيوب الفقراء من الشعب. لن ننسى طبعا أن نشكر منابرنا الإعلامية التي تستحمرنا في كل نشرة و تحاول أن ترمي رماد وهم الإصلاح في عيوننا لكي نرى الحقيقة كما أرادوا لنا أن نراها. شكرا لهذه المنابر التي تطمئننا كل مرة بأن الفقر لم يعد فينا من خلال اللقطات التي تجرعنا إياها كل يوم. شكرا لصحافيينا الذين يتكبدون عناء إيصال أجسامهم و آلات تصويرهم إلى قمم الأطلس لكي يلتقطوا لنا صور الهيليكوبتيرات و هي ترمي لنا أكياس الطعام و الأغطية الرخيصة التي جادت بها علينا حكومتنا الموقرة. شكرا لهؤلاء الذين استطاعوا تغطية هذه الصدقات التي نالت شرذمة منا أما الباقون و، هم كثر، فقد تعذر وصول آلات التصوير إليهم و بالتالي تعذر إكرامهم في غياب التصوير. شكرا لهم لأن عدسات كاميراتهم استطاعت أن تلتقط لنا أجمل لحظات التكافل الاجتماعي و مدى قدرة المغاربة على التعاون على البر. و نسيت أو تعامت عمدا أن تبين لنا أن الآلاف من سكان الجبال لازالت تعيش حياة القرون الوسطى، أو ربما حياة العصر الحجري. لم تصور لنا عدسات صحافيينا أو تتجرأ أقلامهم أن تبين لنا الأطفال في قمم الأطلس المغطاة بالثلوج ينتعلون أكياس البلاستيك و يلبسون الصوف و يشتركون المسكن مع دوابهم في الكهوف. و لم تشأ أن يرى المواطنون الكرام ذلك المشهد الذي يظهر فيه أطفال الأطلس و هم يهربون و يختبئون من السيارات و الكاميرات ظنا منهم أنها جاءت من كوكب آخر. أقلام صحافيين الأعزاء لا تجرؤ على الخوض في هذه الأشياء. و عدسات الكاميرا لا تراها و لا ينبغي لها أن تراها، بل يجب ألا ترى إلا ما أرادوا لها أن تراه. هذه الأشياء تضر بالكل إلا هؤلاء الفقراء المساكين فهي تكشف النقاب عما يتخبطون فيه. أما المسئولون فقد تضر بصورتهم التي كونوها في المخيلة البريئة لهؤلاء الفقراء خلال الانتخابات، و قد تمس بسوء سمعتهم و مصالحهم. الصحافي الشريف كذلك ليس من الصحي أن يخوض فيها لأنها مادة تكشف الحقيقة المرة و لكنها ليست للتسويق و لا للاستهلاك، و لا يرجى من ورائها ربح مادي ولا شهرة. و على العكس من ذلك فالاهتمام بالطبقات الأخرى و مواضيعها تشكل سوقا استهلاكية ممتازة. عوض أن نعرض مشاكل الفقراء و معاناتهم لم لا نهتم بسير ذاتية كاذبة و ممتعة لبعض الأشخاص، نمدحهم بأعمال رخيصة أنجزوها و بأعمال عظيمة لم ينجزوها و لكنهم سرقوها من فقراء أعزاء فصارت منسوبة إليهم. نستعرض تاريخا في قمة التزوير و البهتان بأمجاد ليست لهم و لكنهم قتلوا و نفوا أصحابها و ركبوا عليها فصارت مقرونة بأسمائهم. لماذا لا نسلي الناس بمواضيع الساعة الأكثر استهلاكا رغم ما تحمله من سموم اجتماعية و انزلا قات أخلاقية و ما يعتريها من الفوضوية و الأخطاء العلمية. ستكون طبعا مضرة للمجتمع و لكنها تسليهم و تذر علينا بعض الدراهم و قليلا من الشهرة. ما عليك سوى أن تبحث في موضوع جنسي يلهي الشباب و الرجال، أو موضوع في المطبخ أو في طرق التجميل تلهي به الفتيات و النساء. و لا ننسى طبعا أن من بين المستهلكين هناك من يهتم بالسياسة. لذا سنبحث عن تعليق مشبوه لأحد المسئولين أو عن كلمة انزلقت منه سهوا لنناقشها مع المستهلك الكريم و نبدي من خلالها قدرتنا على التحليل النفسي و القراءة الفلسفية للناس من خلال كلماتهم و سحناتهم أثناء الكلام. و ربما من الأفضل أن نبحث عن بعض مشاهد الصراع و الخلاف التي انفلتت من كواليس المسرحية الكبيرة لمسئولينا الكرام و نسي المنتج أن يحذفها، أكيد ستثير فضول البعض و تشفي غليل البعض و ترفع من معنويات البعض. أليست هذه مواضيع أكثر أهمية و رواجا و إفادة للمستهلك الكريم من مشاكل و معاناة الفقراء. ماذا سيستفيد إذا كتبنا له عن موضوع الشاب الخنيفري الفقير الذي أراد أن يحطب من مملكته عودين يطهو بهما لقمة لأبنائه فكانت النتيجة أن اخترقت تسع رصاصات جسده بدون رحمة. عذرا أيها القلم لقد دنسك البعض مقابل حفنة من الدراهم و ومضات من الشهرة، لقد نقصوا من قدرك لما أسالوا دمائك ليكتبوا بها الزور و البهتان و يطمسوا بها الحقيقة. لطخوا شرفك لما مدحوا بك الجبناء و الخونة و باعة الوطن، و لم يشرفوك بكتابة أسماء و سير الأبطال ذوي الأمجاد الحقيقية. ذ خالد أيت كورو