قد يكون من قبيل الترف أو المجون الفكري العمل على مناقشة مفاهيم من هذا القبيل في خضم مجتمع مغربي معاصر، مجتمع مدني مبني على المؤسسات والقوانين أو لنقل، وبإيجاز، مجتمع ممأسس. إلا أننا إذا ما قبلنا بهذا الحكم سنكون قد حشرنا أنفسنا في زمرة المتسرعين في الحكم ومسوقي الزيف وبائعي الأوهام والضلال. ذلك لأن مجرد محاولة النفاذ داخل أسوار هذه المفاهيم المهترئة والمتآكلة يزج بنا إلى عوالم الحسرة المُتًوبلة بهاجس السؤال. هكذا، في بادرة من نوعها أعلنت مدينة سوق السبت_اولاد النمة الجريحة ، بل سياسيوها، عن تنظيم مهرجان يعلي من سمعتها ويعرف بخصوصياتها السياحية والثقافية والاقتصادية والفلاحية، إلا أن ما استوقف ذهني الشارد هو عبارة "مهرجان" ونظرا لعروبيتي وبداوتي، واعذروني إذا ما اعترفت لكم بحقيقتي في مجتمع اللا اعتراف، فإن الكلمة قد أثارت في ذهني مجموعة من الأسئلة التي استوطنت جغرافية مخيالي الردئ، ومن هذه الأسئلة : ما المقصود بالمهرجان ؟ وكيف يفهم منظمو هذا العرس المهرجان وهل المقصود هو مجرد تجييش وتحشيد المجتمع وتكديس الافراد في الطرقات والساحات العمومية أم أنه عرس لتلاقح الثقافات ومناسبة لتوعية الناس بالحقوق والقيم الإنسانية ولحظة لتباري قيم التعايش والتسامح والمنافسة وبدل استبلاد واستحمار الشعب المحروم والمهزوم ؟ جملة من الأسئلة ألقت علي بثقلها أثناء قراءتي لإعلان " المهرجان"، وأضحت تحاصرني وتتربص بي ، مما جعلني أزج بها في قارة اللاشعور، من أجل نسيانها أو تناسيها، حتى لا أسلك سلوكا متسرعا ومبتسرا، مسترشدا أحيانا ببعض مما تعلمته من ديكارت، أثناء دراستي، الذي يقول أنه للحكم على أي سلوك علينا ان نقوم بعملية "مسح الطاولة"، أي أن نتخلص من كل الأحكام المسبقة، وبينما ان "المهرجان" – كما يحلو لهم تسميته – يتقدم في أشغاله إلا ان فكرة "المهرجان" بدأت تتلاشى وتنطمس في ذهني حتى أصبحت أشك في نفسي أحيانا حول ما إذا كنا أمام " مهرجان من نمط جديد تضطلع مدينة سوق السبت بدور الريادة فيه، أو إذا ما كنت لشؤم حظي ولتعاسة قدري متخلفا عن الركب وعن نسخ المهرجانات الحديثة، التي يعد مهرجان سوق السبت في طليعتهم. إن أهم ما يميز المهرجان حسب ما هو متعارف عليه، هو انه لحظة تاريخية تحتفي فيها مدينة أو أمة أو شعب أو دولة بتاريخها عبر أشكال وقوالب حضارية، ولها مؤسسة تسهر على تنظيمها وتأطيرها وموجهة لأنشطتها نحو غاية ما، تخدم مصالح سياسية واقتصادية وثقافية معينة. إن المهرجان هو مؤسسة قبل كل شيء، وحينما نتحدث عن المؤسسة فنحن لا نتحدث عن أشخاص بعينهم، كما هو الحال، وللأسف، بالنسبة لمدينتنا، وإنما نتحدث عن طاقم إداري مسؤول، يتوزع مهام التنظيم ابتداء من : توفير الدعم اللوجستيكي إلى اختيار شكل الإخراج إلى انتخاب المشاركين إلى الإعلام... بينما هذا ما لم يتم في مهرجاننا إلا في شكل أشخاص، ولا زلت أتذكر الدكتور النفسي الحسناوي، كما جاء على لسانه، ابن الفلاحة ، أتى ليحاضر في موضوع الذكاءات المتعددة كيف أنه أخل بالوقت المحدد أولا وتأخر بساعتين وعشرة دقائق، وحينما بدا يلقي بضاعته- مشكورا – على مسامعنا – نحن معشر المستحمرين – بدأ بعد بسم الله الرحمان الرحيم بتقديم كل أنوع الشكر والامتنان لشخص رئيس البلدية، عاملا على ذكر حسناته وإيجابياته وحسن الخلق التي يتمتع بها من دون أن ينفعه ذكاءه، مطلقا، في القول أن المهرجان هو مؤسسة وليس حفلا نقيمه للشكر والإطراء على رئيس البلدية. المهر جان تحول، إذن، من كونه مهرجانا إلى كونه " موسما"، فذكرني بأنواع المواسم التي زرتها حينما كنت صغيرا ولم تكن سياسة المهرجانات قد اكتسحت المجتمع المغربي، أو على الاقل القرى الميئوس من حالها. إذن أليس من المعقول التساؤل عن طبيعة الاختلاف بين "المهرجان" و"الموسم" ؟ إذا كنا قد تطرقنا إلى بعض أسس المهرجان ، فإننا سنتطرق إلى أهم ملامح الموسم.حيث أن هذا الأخير قد ارتبط بالذاكرة الشعبية، أي أنه سليل الطبقة الشعبية وموجه إليها أيضا خلافا للمهرجان الذي يصنع من طرف النخب السياسية ويوجه على النخب، وإن كان الشعب بدوره يستفيد منها فهم يستفيد من الثفل والفتات فقط وهذا ما يتضح من خلال مهرجان موازين أو مهرجان الموسيقى الروحية بفاس الذي تصل فيه التذكرة ما يفوق 2000 درهم، إضافة إلى ذلك فإن الموسم ارتبط تاريخيا بالقبائل وليس بالدولة، مما يعني أنه شكل من أشكال الاحتفاء والاحتفال الثقافي، وغالبا ما كان يتخذ أبعادا روحية بالدرجة الأولى ثم ثقافية واجتماعية واقتصادية بعد ذلك. لعل الموسم ارتبط في تاريخ المغرب بالزوايا، فهو عبارة عن لحظة احتفائية بزاوية أو والي معين، أي هو تلك اللحظة التي يتم من خلالها استحضار والي الزاوية أو شيخها، إنها لحظة احتفاء التاريخ بذاته، فالمريدون لزاوية ما أو لشيخ ما ما هم إلا عناصر يتحقق عبرهم وفيهم ولهم الاحتفاء بالذات، وليس ذاتهم بل الذات الأصلية، إنها ذات الشيخ أو الوالي. إن "الموسم" هو عبارة عن لحظة روحانية يتم فيها تحيين اللحظة الأصلية، أنها شبيهة بالعيد كما يتحدث عنه الفيلسوف الألماني جورج غادامير، واستحضار للشخصية الأسطورية التي أضحت أساس هوية المريدين، ومن هناك يكون "الموسم" هو اللحظة التي تنضغط فيها هويات المريدين للاحتفاء بالهوية الأصلية المقدسة، والهوية المقدسة هي اللحظة التي يتطابق فيها التاريخ مع ذاته. كما لن نفوت الفرصة للتذكير بكون السلطة المركزية، التي كانت مجسدة في شيوخ وأعيان القبائل كانت تعمل على تثبيت هذا النمط من الاستبلاد والتبعية عبر نشر بيداغوجيا التسليم والخرافة والأسطورة للحفاظ على الوضع القائم، وإن كان الأمر كذلك فهلا أمكن القول أن مهرجان سوق السبت هو حنين وتوق وشوق إلى "الموسم" ؟ قد يكون الأمر كذلك ما دام أن شروط المهرجان تغيب في هذا الحفل، مع فارق يكمن في كون الموسم كان يقام من طرف فئة من الناس احتفاء بقدسية شيخ أو ولي ما، اعتبارا لما أسداه من تضحية ونضال في سبيل الأمة، بينما ان مهرجاننا، أراد من خلاله، المريدين ان يحتفوا برئيسهم وال التاريخ أن يحتفي بذاته عبر المهرجان وإنما الرئيس أرادان يحتفي بالتاريخ، تاريخه هو. وما دام أن العرب هم أعراب في الأصل كما يقول ابن خلدون، وبما أن الشيء الطبيعي، حسب أرسطو، ينزع إلى أصله الطبيعي، فمن المنطقي ان ينزع ويتوق منظمو المهرجان، وفي مقدمتهم، رئيسهم إلى أصله الأعرابي أو العروبي كما يقول محمد عابد الجابري. إن منظمي المهرجان ليطمحون من خلال نشاطهم هذا استعادتنا إلى مغرب القرنين 16 و17 حيث كانت الزوايا والأضرحة هي مصدر السلطة السياسية، لأن خطابها غالبا ما يكون مهابا وجذابا لا ملفف في لفائف دينية وظيفتها التجييش والتحميس، مما يسهل عليهم تدجينهم واقتيادهم. إنهم يريدون استعادتنا إلى مغرب الخرافة والأسطورة، إلى هذا التاريخ حيث كانت الأسطورة والخرافة والجهل يعتمل في الإنسان ما لا يستطيع العلم الحديث فعله، علما أن توجه الدولة المعاصر أضحى يسير في هذا الاتجاه من خلال القيام بإحياء المواسم سنوية لأضرحة وأولياء "صالحون" تصرف عليهم مليارات الدراهم، كما هو الحال مع موسم بوعبيد الشرقي بأبي الجعد وموسم مولاي إدريس بفاس وموسم مولاي عبدا لسلام بالشمال.. بل إن الدولة عملت على إدراجهم تحت وزارة وصية، تتكلف بالتمويل والتاطير والتنظيم. فهل كل هذه الخسائر تتم بهدف الحفاظ على التراث الثقافي المقدس للبلاد أم ان المقدس يحمل في طياته عناصر القبح والخبث والمكر والدناسة ؟ يصعب الحديث عن مهرجان، في حين انه تغيب فيه أدنى شروط المهرجان، فالزوار المشاركين يتوزعون على المقاهي والمطاعم دون تخصيص أي فضاء يليق باستقبال القادمين. حقيقة أني لم أسمع قط سباقا تم تنظيمه بدون مستودع الملابس، مما اضطر بعض المشاركين إلى تحويل سياراتهم كما والشوارع العامة إلى مستودعات ملاعب، وهل كان ماراطون يقام في العالم دون توفير اللوجستيك المتمثل في الأطباء المساعدين و قنينات الماء، مما حول بعض المتبارين، أثناء السباق وبعده، يهرولون إلى المقاهي والمتاجر للحصول على الماء. لكن لا عيب في ذلك، قد يكون هذا سلوكا فريدا في العالم وقد يحقق الشهرة لمهرجان سوق السبت ويدخلهم في مدونة غنيس. لم يسبق لي ان سمعت عن مهرجان ينظم بشكل ارتجالي أكثر من مهرجاننا حيث أن أعضاء المجلس البلدي يوزعون الزوار على المطاعم وبمعيتهم المال لاداء وجبة كل واحد، علما بأن هذه الوجبات غير لائقة كما وكيفا وبل غير صحية أحيانا. فحينما نشاهد المنظر يتبادر إلى ذهننا وكأننا أمام عمال " الموقف"، أمام كل هذا الذي سبق ذكره، وما خفي من جبل الجليد كان أعظم، ألا يحق لنا ان نضع ألف علامة استفهام حول طبيعة عرس سوق السبت-اولاد النمة ؟ أليس من المعقول أن نقول عنه انه مجرد حفل اصطنعه رئيس البلدية ، ورفاقه، مع اقتراب الانتخابات من أجل تسويق صورته وقيمه، التي هي قيم الخسة والرعاع والقطيع ؟ وحتى إذا ما سلمنا بمقبولية " المهرجان" أفليست هناك أولويات أخرى غير المهرجان، من قبيل المستشفى الذي لا زال مشروعا معلقا والمدارس الطرقات المهترئة ؟ وأخيرا ليس لي إلا ان أترك لكم حرية التحليل والنقد والهدم وإعادة البناء، وكما يقول طرفة بن العبد البكري في معلقته : ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا *** ويأتيك بالأخبار من لم تزود ويأتيك بالأخبار من لم تبع له بتاتا *** ولم تضرب له وقت موعد. سوق السبت : 11 – 05 -2013