الحياء صفة من صفات الأخيار, و خلق من أخلاق الأبرار, و متى وجد الحياء في الناس استووا و استقاموا و متى انعدم ضلوا و غووا, ففيه من الخير الكثير و لصاحبه الأجر الجزيل, و لكل أمة رفعت شعاره ما لا يعد و لا يحصى من الثواب عند الله تعالى, فهو من الإيمان الذي يقتضي التسليم الكامل و التصديق الجازم بالله تعالى و ملائكته و كتبه و رسله و بالقضاء و القدر خيره و شره, و لما لهاته الصفة من أهمية في تطهير النفس البشرية, و تزكيتها فقد رغب الشرع في التحلي بها و عدها من الإيمان حتى يؤجر صاحبها, و تكون من لوازم المؤمنين و خصالهم الحميدة التي تستقيم بها الحياة و تحلو بها الأوقات, و يتلذذ بها المرء في كل اللحظات, فقد جاء في الصحيحين: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: الإيمان بضعٌ وسبعون شعبة، فأفضلها قول: لا إله إلا الله، وأدناها: إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان. و الحياء هو الضابط الوحيد لسلوكيات الفرد, حيث أنه يلعب دور الضمير الحي بامتياز, و ذلك بجهده في إبعاد كل من يتحلون به عن طريق الشر و تقريبهم إلى طريق الخير و متى اضمحل هذا السلوك في المجتمع متى كثر الفسق و المجون و الخلاعة و الفساد. إن الحياء هو المربي الكبير و المؤطر العظيم التي يضع في المجتمع بصمة النضج الأخلاقي, و سمة الوعي الإسلامي الذي نسعى جميعا لبلوغه, و الوصول لقمته, و التربع على عرشه, و لنا في ذلك أسوة حسنة في الرسول صلى الله عليه و سلم, الذي ثبت عنه أنه كان أشد حياء من العذراء في خذرها. الأعمال كل الأعمال حينما تمارس بخلق الحياء تزين بسمات الرقي و تحلى بطعم الإثقان و جودة الإنتاج, فالحياء مؤشر واسع يشمل كل مناحي الحياة دون أن يترك ركنا فارغا بها, فلا عجب إذن أن يكون الحياء خلق الإسلام كما جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال: لكل دين خلق و خلق الإسلام الحياء. و إن مما يسترعي الإنتباه عبارة خاطئة تتردد على مسامعنا كلما أراد شخص أن يخل بالحياء لحاجة في نفسه فيذكر المتلقي بعبارة: لا حياء في الدين, و هي عبارة لا أساس لها و لا تنبني على أسس متينة كما أنها تناقض الحديث السالف الذكر حول خلق الإسلام الذي به يرتقي المسلم ليرتدي حلة الإيمان, و يمتطي درجته. و معنى العبارة يتجلى في نية القائل بها إلا أنه من الأجدر به أن يقوم بتصحيحها لغويا فيبين بذلك مقصده و غايته, فرغم أن جل المسلمين يدركون غاية الإدراك مغزى العبارة و معناها إلا أنهم لا يجهدون أنفسهم في تصحيحها لغويا, و التصحيح اللغوي له من الفضل ما له ذلك حتى تعم الفائدة كل سامعي هذه العبارة من حديثي الإسلام و غير المسلمين, فجملة لا حياء في الدين بهذه الصيغة تنفي أن يكون الحياة جزءا من الدين فضلا عن أن يكون خلقه و الصحيح حسب المعنى الحقيقي للصيغة هو أن يكون الدين فيها مضافا إلى إسم محذوف قبله تقيره تعلم, و بذلك تصبح الصيغة على النحو التالي: لا حياء في تعلم الدين, و هي صيغة يفهم منها الذي يراد فهمه من الأولى. و الحياء لا يكون استحياء من الناس فحسب بل يتعدى ذلك و يصل إلى درجة أعمق بكثير فهو إما إستحياء من الله جل و علا أو إستحياء من الناس أو إستحياء من الملائكة أو إستحياء من النفس, فأما الإستحياء من الله تعالى فيتجلى في استحضار المرء لوجود الله معه في كل لحظة و برهة, فيمنعه ذلك من ارتكاب المعاصي و يحثه في المقابل على فعل الخير بشتى أنواع. قال تعالى في سورة العلق الآية 14: أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى. و قال عز من قائل في سورة ق الآية 16: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ. و أما الإستحياء من الناس فدليل على احترامهم و تقديرهم و مراعاة شعورهم و ذلك يزرع الود و الوئام بين الناس و يحثهم على مواصلة فعل الخير و مقاطعة الشر. فقد قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : فيما معناه ما كرهت أن يراه الناس فلا تفعله إذا خلوت. وقال مجاهد: لو أن المسلم لم يصب من أخيه إلا أن حياءه منه يمنعه من المعاصي لكفاه. و أما الإستحياء من الملائكة فيظهر من خلال التيقن أنها ترافقنا في كل لحظة و حين مما يزرع بذور الحياء فيما بين المرء و ملائكته التي لا تفارقه لحظة واحدة, فيستشعر بذلك وجودها معه فيجتهد في العمل الصالح و يكد من أجل ترك المعاصي و المنكرات. قال تعلى في سورة الإنفطار 10-12: وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَاماً كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ. أما الإستحياء من النفس فيكون برد الإعتبار لنفسه أمام نفسه, حيث أن الذي يستحيي من الناس و لا يستحيي من نفسه فهو إنما يمرغ نفسه في أوحال الآخرين, و يحس نفسه أنها أخس ما على الأرض و أخبث ما فيها, لأنه لا يعتبر نفسه بقدر ما يعتبر الآخرين. و الحياء تنظيم لحياة المرء و تعظيم لها, فهو يجعل الناس يحترمون بعضهم و يقدرون مشاعر الآخرين ما يجعل المودة تسود عندهم, فتأصل لمبدإ التعاون و الإخاء و الإيثار. أما إذا فقدت هذه الجوهرة الثمينة من عقد الأخلاق, فانتظر ضياع ما تبقى من أخلاق. إن الفاقد للحياء كالفاقد للمقود فتارة إلى اليمين و أخرى إلى اليسار, و أخرى إلى الهاوية, لأن الذي لا يستحيي يصنع ما يريد في الوقت الذي يريد و المكان الذي يريد, فلا ميزان له و لا لأخلاقه إنما يسير وفق هواه.