ما أحوجنا في زماننا هذا للكلام عن خلق الحياء و التذكير بوجوب الاتصاف به. لقد ضاع منا الحياء حتى أصبحت العامة تصنع ما تشاء و لا أحد يرد أو ينكر عليها. عن عقبة بن عمرو الأنصاري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن مما أدرك الناسُ من كلام النبوة الأولى، إذا لم تستح فاصنع ما شئت. إن الحياء أمارة صادقة على طبيعة الإنسان، فهو يكشف بوضوح عن عمق إيمـان العبد ومقدار أدبه، ويدل بصراحة على مستوى تقواه و سمو إحسانه. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الحياء و الإيمان قرناءُ جميعا فإذا رفع أحدهما رفع الآخر. أيّها المؤمنون، إذا كنا نستخلص من هذه النصوص أن الحياء فضيلة إسلامية و خصلـة حميدة فإنه ينبغي لنا أن نفهـم ما معنى الحياء و نعرف حقيقته لنتمكن من التحلي به فعلا. ليس الحياء، ذلك الإحساس الذي يمنعك من قول الحق ورفع رايته، أو يحبسك عن دفع الظلم و دحض علَمِه. فالحيـاء في الإسلام، لا يعني أبدا الانكمــاش و المسكنة، و لا الضعـف و لا الهوان. لأن المؤمن القوي خير و أحب إلى الله من المؤمن الضعيف و إن كان الخير في كليهما.. و لكن الإسلام لا يدعو إلى احتمال ظلم و احتقار الآخرين باسم الحياء.. إنما الحيـاء خلق رفـيع يدفـع بصـاحبـه إلى الإيمان بالله والعمل الصالح والقول الصـادق وترك الموبقات باستشعار مراقبة الله.. يعلم خائنة الأعين و ما تخفي الصـدور الحياء في الإسلام تعلم وتعليم، تربية وسلوك، شجاعة وقوة، حمد وشكر، صبر و يقين.. قال تعالى في سورة الأحزاب: وكان الله على كل شيء رقيبا الحياء المطلوب أيها الناس، عدل و إنصاف، برور وإحسـان، رحمة وتوقيــر، احتــرام و إجلال، حفظ و رعاية.. هذه هي المعاني السامية التي يحملها مفـهـوم الحيـاء. فالحياء المنشود يجمع كل هذه الأخـلاق و يحتمل كل الصفات التي تعين على الابتعــاد عن الفواحـش، و التطلع إلى فعل الخير بكـل أنواعه. روى الترمذي عن عبد الله بن مسعـود ؟ أن رسول الله صلى الله قال لأصحـابه: استحيوا من الله حق الحياء. قالوا:إنا لنستحيي من الله يا رسول الله و الحمد لله. قال: ليس ذلك، الاستحياء من الله حق الحياء أن تحفظ الرأس و ما وعى و البطن و ما حوى وتذكر المـــوت و البلى، ومن أراد الآخرة ترك زينة الحياة الدنيـا وآثر الآخرة على الأولى، فمن فعل ذلك فقد استحيى من الله حق الحياء. هكذا يكون الاستحياء من الله، و عنه يتولد الاستحياء من الناس.. و مظاهر هذا الأخير كثيرة لا بأس من ذكر بعضهــــا لأنّ التأسي بها يتسبب لنا في دخـول الجنـة. قـال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه الإمام أحمد: الحياء من الإيمان والإيمان في الجنة.فمن الحياء، أن يقتصد المسلم في الكلام عند حضور المجالس، حتى لا يضجر الحاضرون من طول ثرثرته. روى الترمذي عن رسـول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله يبغض البليغ من الرجال الذي يتخلل بلسانه كما تتخلل البقر. ومن الحياء أيضا أن يتحرى الإنسان عدم التلفظ بالكلام الفاحش على مرأى و مسمع من الناس لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: ليس المؤمن باللعان ولا بالفاحش البذيء. و لقد كان اليهود يسّلمون على رسول الله فيقولون عوض السلام: السام عليكم، فأجابتهم عائشة رضي الله عنها بقولها: وعليكم السام و الموت و اللعنة، فنهاها سيد الأنام و علمها أن تقول وعليكم، لأن المسلـم ينبغي له أن يتفادى السب و الشتم و الفحش فهذه الثلاثة كلها لا تليق به و لا بخُلقه. ثم إن من الحيـاء كذلك أن يخجل الرجل من أن يصدر عنه سوء يخدش مروءته أو يستنقص من سمعته. ففي الأثر: من ابتلي بشيء من هذه القاذورات فليستتر. و قد قيل: من عمل في السر عملا يستحيي منه في العلانية فليس لنفسه عنده قدرب و من ثم كان من اللازم على المسلم أن يبتعد عن الدنايا سواء خلا بنفسه أو برز إلى الناس. ومن مظاهر الحيـاء عباد الله،أن نعرف الحق لأصحابه و نعطي كلَّ ذي منزلة منزلتـه و كلَّ ذي فضل فضلهب فعلى الصغير أن يحترم الكبير وعلى الغني أن يرحم الفقير و على المرؤوس أن يطيـع الرئيس و على التلميذ أن يجل من يعلمه و هلمّ جراب ففي الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: تواضعوا لمن تعلَّمون منه. و قال عليه السلام: ليس منا من لم يجلّ كبيرنا ويرحم صغيرنا و يعرف لعالمنا قدره. و يكفي من هذا كله أيها الإخوة الكرام أن نتأسى بالقدوة العظمى و المثل الأعلى سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم. فقد كان عليه السلام أشد حياء من العذراء في خدرها حتى قال أحدهم: إنه كان إذا رأى شيئا يكرهه عرفناه في وجهه.