سمع ضجيج الهتافات المنادية باسم الحرية، و تمنى لو استطاع الانضمام إلى الحشد الكبير الذي اجتمع على كلمة الحق، و لم يجد بدا من الثورة بعد سنين من المعاناة تحت جدار الصمت الرهيب. لقد كان يشاهد التلفاز، يتتبع الأحداث بشغف و اهتمام، و يسافر بذكرياته إلى أحضان الوطن العزيز... إنه أحمد، شاب تلاعبت بقدره أيادي الظلم و صدته عن وطنه ليجد نفسه أمام مصير مجهول. تدحرجت به الذاكرة إلى أيام تذوق فيها مرارة السجن و قساوة السجان. تذكر ألوان العذاب الذي تلقاه جسده البشري الضعيف. يكاد يسمع من جديد الجلاد و هو يجلجل بصوته المزعج: "اعترف أيها الحيوان!" ثم يتذكر يوم فراره من السجن المحلي. لو تقدر السنوات الطوال أن تمحو ذكرى ذلك اليوم الذي خارت فيه كل قواه البدنية و النفسية من شدة العذاب الذي لقيه، فاشتعلت فيه رغبة قوية جعلته يمضي ست عشرة ساعة مشيا على الأقدام، تحت ظلام الليل الرهيب، ز الخوف من الفشل يتربص به من كل مكان... شعر بقشعريرة تسري في جسده و أوقف عاصفة أفكاره و هو يهدئ من روعه قائلا: "الحمد لله" . لقد نجح بالفعل، و وجد نفسه في أحد الأيام بين أحضان بلد آخر آزره و مد له يد العون ليبدأ حياة جديدة بعيدا عن ظلمات القهر و الاستبداد التي زرعها النظام الحاكم في وطنه. استغرب لنفسه أن يقوى على فراق بلده خاصة و أنه ينبض بالوطنية، لكنه وجد هناك شعبا آخر أنساه آلام معاناته و ضمه إلى صفه ليشعره دفء الروابط الإنسانية. استطاع أحمد بجده و جهده أن يبني مستقبله و يؤمن معاشه بعد أن نجح بامتياز في الحصول على شهاداته الدراسية، لأنه قبل كل شيء شاب يحركه الطموح، و لم تستطع صعوبة الدنيا أن تطفئ شعلة الأمل التي تزوده بالطاقة الإيجابية. اندلعت الثورة في بلاده تطالب بإسقاط النظام، و هو يتابع أحداثها عن بعد و يعد قوافل الشهداء فيحرقه لهيب الشوق و الحنين عندما يتذكر أن حقه في العودة إلى دياره منه مسلوب. مرت الأيام بسرعة ليسقط النظام بعد سنوات من البطش و الظلم، و شوارع المدن تزينت فرحا بظهور الحق... و حانت اللحظة التي لطالما ترقبها أحمد، ما إن سمع الخبر حتى انطلق يشد الرحال نحو بلده الذي لم تعد تفصله عنه سوى بضع ساعات سيمضيها في الطائرة. هبطت الطائرة، فأسرع مهرولا نحو الساحة الرئيسية التي تستقبل المسافرين... توقف للحظة و نظر إلى السماء، لم يكد يصدق أنه يعانق نسمات الوطن، و بعد هنيهة راح يتأمل الحشود التي جاءت لاستقبال أحبائها، فالتقطت عيناه أمه العجوز من بين أصناف البشر. عادت به الذكريات إلى ذلك اليوم الذي قال لها فيه من وراء القضبان: "لا تخشي علي يا أمي، سأظل على الحق حتى لو كلفني حياتي" ، فردت عليه و دمعة فخر تتسلل من مقلتيها: "لا تخف يا ولدي، إنني أعلم تمام العلم أنني لا ألد إلا الرجال!" شعر بالدوار و اهتزت مهجته لقوة هذه اللحظة. مرت بضع ثوان ليستفيق على روعة اللحظة التي وجد نفسه فيها مرتميا في حضن أمه التي خط الزمن على محياها أقاصيص أم أرهقها الانتظار. اختلطت عليه المشاعر و أجهش بالبكاء كطفل صغير لتتدفق دموعه التي تحمل بين ثناياها آلام الفراق و روعة اللقاء! لقد عاد أحمد إلى وطنه و عانقت جبهته حبات الثرى على أرضه الحبيبة عندما خر ساجدا لربه يشكره و يسبح بحمده، و يقر بعظمته إذ أظهر الحق على الظلم و نصره نصرا عزيزا. أسدل الليل ستاره على الدنيا، و بين أحضان بيته الذي طرب لعودته جلس أحمد يشتم ريح الحرية في كل ركن من أركان غرفته المهجورة، و استلقى على سريره لتمر أحداث يومه أمامه كشريط سينمائي، ثم غالب النوم أجفانه فاستسلم لسبات عميق. لم تكن هذه سوى قصة شاب من بين عشرات آلاف المناضلين الصامدين الذين عانوا الأمرين في سبيل إظهار كلمة الحق، فكانوا لدين الله حافظين، و في وجه الظلم صامدين، ليخطوا تاريخ الدنيا...، و في جنان الرحمان سيكونون إن شاء الله خالدين! خولة العمراني الرباط في 25.12.2012