الحمد لله ربّ العالمين، والعاقبة للمتّقين، ولا عدوان إلاّ على الظّالمين، وأشهد ان لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له الملك الحقّ المبين، اللّهمّ لا حقّ لأحد عليك، تبارك اسمك وتعالى جدّك، ولا إله غيرك، أنت الأوّل فلا شيء قبلك، وأنت الآخر فلا شيء بعدك، وأنت الظّاهر فلا شيء فوقك، وأنت الباطن فلا شيء دونك، اللّهمّ صلّ على محمّد وعلى زوجاته الطّاهرات أمّهات المؤمنين، اللّهمّ صلّ على محمّد وعلى آله الطّيّبين، اللّهمّ صلّ على محمّد وعلى صحبه البررة المجاهدين، اللّهمّ صلّ على محمّد وعلى إخوانه من الأنبيّاء والمرسلين، وبعد السّلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته كيف يرعوي المستبدّون؟ وأنّى يكون لهم فيما آل إليه الطّغاة من مآل مزدجر؟ الاستبداد تعطّش إلى التّحكّم يعمي عن الحقّ، ونهم لشهوة الاستفراد يصرف المبتلى به عن الصّواب، والاستبداد على العموم غصب للأمر، وتصرّف يستبعد مشاركة المعنيّين في كلّ ما يهمّ إدارة شئونهم وإصدار قرارات بخصوصها سواء في إطار الشّيء العامّ، أو في إطار تدبير حزب، أو تجمّع، أو أسرة، أو مهمّة، أو حتى موقع إلكترونيّ. ولا شكّ في أنّ الاستبداد سلوك يستوي في نهجه عند قومنا كلّ من جلس على (كرسيّ)، سواء كان سنّيّا أو شيعيّا، أو كان إخونجيّا أو سلفيّا، أو كان قومجيّا أو قطريّا، أو كان طرقيّا أو علمانيّا، أو كان "ليبراليّا" أو "اشتراكيّا". فذاك صدّام غفر الله له، أعماه الاستبداد بأمر العراق عن أن يرى حقيقة ما طرأ على المسرح السّياسيّ الدّوليّ من تقلّبات فلم يحسب لسلوكه حساب المآلات، ولم يقرأ لتصرّفاته مضاعفات، وهذا زين العابدين ومبارك وقذّاف الدّمّ ومن ورائهم الأسد نفس الشّيء، كلّ واحد منهم كان على نفس الشّاكلة بنفس العقليّة ونفس النّهج والسّلوك، وما منهم من أحد إلاّ يتميّز بنفس الخصّيصة: (عمى الاستبداد). إنّ الواقع فجّ والحقيقة مرّة قد تستعصي على الإدراك الفوريّ والفهم البسيط، لذلك كانت الاستعانة بالذّاكرة من لوازم استدعائها، وكانت الاستعانة بالتّاريخ كسياق يبشّر بالإرهاصات وشاهد ينذر بما يعتمل في صلب المجتمع من المؤشّرات من ضرورات فهم الأحداث وفكّ رموزها، وقراءة التّفاصيل لأجل استشراف التّجلّيات، وتحليل التّداعيات الحاصلة منها والمحتملة. فالحمد لله أن قد سطّرت الأمّة خياراتها وحدّدت أهدافها، وطريق الألف ميل يبدأ بخطوة واحدة، والحمد لله أن قد آن للطّغاة أن يرحلوا عن أمرها غير مأسوف عليهم خاسئين، والحمد لله أن قد آن للشّعب أن يتحرّر ممّا كانوا يأفكون ويظلمون ليستردّ زمام أمره، وسيادته على نفسه، ويستردّ باسترجاع حرّيته ما كانوا يبذّرون وينهبون. لقد تعرّى صنم القطريّة الذي باركه من وراء البحار الأسياد المحتلّون، وأسفر صبح الحراك الشّعبيّ فانكشف بانبلاجه كلّ ما كان السّدنة يفعلون، وظهر للقريب والبعيد ما كان الأزلام على نحو ذرائعيّ يستعملون من خطاب عجيب يحتمي بالدّين أو يلوذ بالحداثة، وذاع في النّاس خبر ما كان يعمد إليه الرّدّاحون من أساليب الإغراء والإغواء، ومن وسائل التّرويع والإملاء، فكانوا هم والرّؤساء والأسياد في النّذالة والرّجس وقول الزّور سواء. ولقد كان هناك وما يزال من يركب بدناءة منقطعة النّظير موجة الربيع العرّبيّ ليصرف الأنظار عمّا يجري بساحته من مظالم، ولأجل أن يستفرغ الطاقة الغضبيّة الكامنة في نفوس النّاقمين من أبناء الشّعب، وليس تحت يديه في واقع الأمر من وسيلة سوى العهر السّياسيّ وما يرفع من شعار واهم يستهدف ذوي القلوب الواهنة، والعقول المنكوسة والأفهام المعكوسة، ناسيا أو متناسيا أنّه ربّما يسهل احتواء أيّ شيء ووضعه في الأصفاد إلاّ عقل الإنسان وإرادته، فإنّ باستطاعتهما أن يصنعا المستحيل، والأمثلة على ذلك في تاريخ البشريّة كثير. ليس من المستساغ ولا أحسب أنّه كذلك أبدا كيد الأخ للأخ ولا تربّص من يرفع شعار الإسلام بجار صيّره كابوسا مؤرّقا حتى بات بالنّسبة له عدوا دائما، بينما أصبح بزعمه الصّهاينة والغزاة عدوّا مؤقّتا، ولا أدري في واقع الأمر كيف يمكن أن تلام إسرائيل على بناء جدار للفصل العنصريّ في وقت يبني فيه الإخوة كلّ يوم جدرا سميكة فيما بينهم من العداوة والبغضاء. "هاهم المتنطّعة من الفريقين يقدّمون بزعمهم طاعة (وليّ الأمر) على ما قد يرى أنّه مصلحة، أي على سيادة الشّعب وحرّيّته، فيتحول رأيهم إلى أعظم مفسدة، ولأنّهم لم يتعلموا يوما من شيوخهم سوى أنّ طاعة وليّ نعمتهم الذي نصّبوه وليّا للأمر مقدّمة على كلّ شيء، فهم لا يجيزون التّدخّل في أمور هو أعلم بها، ولا يرون ضرورة تدعو إلى محاسبته أو التّحقيق معه، لذلك فهم يزوّرون الفتاوى المحبّرة التي تفوّض له كلّ السّلطات: سواء التّنفيذيّة منها أو القضائيّة أو التّشريعيّة مادام عندهم وبفتواهم لا يسأل عن شيء، ولا يشارك من أحد في شيء، لم يتعلّموا يوما من شيوخهم سوى أنّهم حوّلوا الحكّام الى طغاة وأنصاف آلهة، هذه هي خلاصة نهجهم المزعوم". ولا أجد من تفسير لما يبثّون من خطاب مفعم بالكراهيّة سوى ما أشار إليه المفكّر المجاهد سيّد قطب رحمه الله عندما بيّن أنّ "العبيد لهم قابليّة عجيبة للاستعباد، فهم يهربون من الحرية هرب الأحرار من العبوديّة، متى ما طردهم سيد بحثوا عن آخر، لأن في نفوسهم حاسّة سادسة أو سابعة هي حاسّة الذّلّ التي لا بدّ لهم من إروائها، فإذا لم يستعبدهم أحد أحسّوا بالظمأ إلى الاستعباد فتراموا على الاعتاب يتمسحون بها، ولا ينتظرون حتى الاشارة من إصبع السّيد ليخرّوا له ساجدين، العبيد هم الذين إذا أُعتقوا وأُطلقوا حسدوا الأرقّاء الباقين في الحظيرة، لأن الحرية تخيفهم والكرامة تثقل كواهلهم، ولأن ما يضعون في أوساطهم من أحزمة الخدمة شارة فخر يعتزّون بها، وثياب الخدمة بالنّسبة لهم أبهى الأزياء التي يعشقون. العبيد هم الذين لا يقودهم النّخّاس من حلقات في آذانهم، ولكنهم يقادون بلا نخّاس، لأنّ النّخّاس كامن في دمائهم. العبيد هم الذين لا يجدون أنفسهم إلاّ في أغلال الرّقّ وفي حظائر النّخّاسين، فإذا أنطلقوا تاهوا في خضم الحياة، وضلّوا في زحمة المجتمع، وفزعوا من مواجهة النّور، وعادوا طائعين إلى الحظيرة يتضرّعون للحرّاس أن يفتحوا لهم الأبواب، وهم مع هذا جبّارون في الأرض، غلاظ على الأحرار شداد، يتطوعون للتّنكيل بهم، ويتلذّذون بإيذائهم وتعذيبهم، ويتشفّون فيهم تشفّي الجلاد. إنّهم لا يدركون بواعث الأحرار للتّحرّر فيحسبون التحرّر تمرّدا، والاستعلاء شذوذاً، والعزّة جريمة، ومن ثمة يصبّون نقمة جامحة على كلّ حرّ لا يسير في قافلة الرّقيق" إنّ التّنطّع ملّة واحدة وهو لا لون له، لأنّه يعبّر عن أعراض مرضيّة وعقليّة دالتونيّة لا ترى إلاّ لونين: إمّا أبيضا أو أسودا، عقليّة اختزاليّة لا تطيق ما سنّه الله في الخلق من سنّةالاختلاف، هكذا وجدت منطق تلك العقليّة ولا أنتحل صفة المعالج النّفسيّ لأنّني لست من ذوي الاختصاص، ولكنّي أعبّر عن تجربة فكريّة عشتها واحتككت بأصحابها، وأتمنّى مخلصا أن أكون مخطئا لأنّ هول ما فوجئت به كان بالنّسبة لي صادما ومروعا، وسيجد كلّ متصفّح للمواقع الإلكترونيّة المختلفة مصاديق ما ذكرت، وما لم أجد له من وصف مناسب غير وسمه بالمنطق الأعمى، وهو والله كذلك، وليفحص من أراد التّحقّق أسلوب كلّ فريق ليقف بنفسه على ذلك التّطابق العجيب في التّعامل مع الاختلاف الذي لا يميّز الوهّابيّ عن الإماميّ، ولا المتمسلف عن "اللّيبراليّ"، ولا الصّوفيّ عن العلمانيّ، بحيث تبقى هذه الأطر المرجعيّة مجرّد شعارات تضفي بما لها من لون خاصّ ظلالا قاتمة على ذلك المنطق الأعمى الذي يشيطن الآخر بسبب ما يهيمن عليه من هاجس التّكفير وما هو مفعم به من الكراهيّة. رحم الله الأقدمين الذين أشاروا إلى أنّ "مواعظ القرآن تُذيب الحديد، وأنّ فيها للفهوم في كل لحظة موعظة وزجر جديد، وللقلوب النّيّرة كل يوم وعد ووعيد، غير أنّ ما يسيطر على النّاس من الغفلة يجعل كثيرا ممّن يتلونه لا يفيدون ولا يستفيدون"، فهو التّراث الذي زكّاه الله وطهّره وأظهره، ووعد من اعتصم به بالهداية إلى الصّراط المستقيم، وبالنّجاة من الفتنة ومن العذاب الأليم، نسأل الله جلّ وعلا سؤال الواثق من رحمته الموقن بعدله وقدرته، أن يصلح حال هذه الأمّة بعد الذي ظهر من فساد، فما بين طرفة عين وانتباهتها يغيّر الله من حال إلى حال، اللهم يا مجيب المضطر إذا دعاه، ويا قريبا من كلّ من ناداه، يا عظيم البرّ، يا قديم الإحسان، يا دائم المعروف، يا واسع المغفرة والرّحمة، نسألك اللّهمّ يا كريم أن تفرّج كرب المكروبين، وتذهب همّ المهمومين، وأن تزيل الضّيم عن المظلومين، اللّهمّ تولَّ أمرنا، واغفر ذنوبنا، واستر عيوبنا، وقوّنا على طاعتك، واسلك بنا سبيل مرضاتك، واجعلنا سلما لأوليائك، واختم لنا بخاتمة الخير أجمعين، واحشرنا في زمرة عبادك الصّالحين، وصلِّ اللهم على إمام المتقين، وحجة الله على الخلق أجمعين، محمد بن عبد الله سيّد الأوليّاء، وأشرف الأنبيّاء، وإمام الأتقياء، وخاتم المرسلين، وعلى آله الطّاهرين، والحمد لله ربّ العالمين