-1- استطاعت حركة النهضة الإسلامية الفوز في الانتخابات في تونس وذلك لأن القوى الحية و المتنورة و الحداثية في البلاد لم تستطع توحيد جهودها لتقوية صفوفها و تعبئة الشارع التونسي و إقناعه بمشروعها الديموقراطي التنموي القادر وحده على وضع البلاد على سكة التقدم و الرفاه. فوز "النهضة" نتاج وعي زائف عند المواطن التونسي و نتيجة للفقر و التخلف و الحال الاقتصادية المزرية وفوزُ قوى التحديث عين الصواب الذي ينسجم مع حركة التاريخ المرسومة المعالم منذ غابر الأزمان. ذلك هو التفسير الجاهز لفوز "الإسلاميين" و هو تفسير صالح لكل زمان و مكان. -2- كي تكون حداثيا و ديموقراطيا يكفي أن تقول أنك كذلك، و لو لم تفهم ما تحيل عليه اللفظتان و لو كان ما تكتُبه يكشف عن جهل بالغرب فكرا و سياسة و أسلوب حياة ويكفي أن ترصف كلمات تحشر بين جنباتها مفردات العصر السحرية، من مثل : الحداثة و العقلانية و اللائكية، لتكون مستنيرا، تماما كما يكفي أن تكون من نسلٍ مخصوص لتكون أهلا لقيادة البلاد و سوْق العباد للمآل الذي هي عليه اليوم، و الذي يضمن لنصف المثقف أن يكون مُنظِّرا و لنصف الصحافي أن يكون محللا و لنصف السياسي أن يكون زعيما، من يملك العلاقات المناسبة و الإنشاءات الأبدية يستطيع أن يطفو على سطح المجتمع كشأن الطحالب، و لكن ضامن كل ذلك أن تبق أسقُفُ المعرفة و الثقافة و التعليم و مستوى الدخل منخفضة بما يكفي لنستشعر حال دود الأرض الزاحف و لا نشمئز من الطحالب الطافية على سطح ماءٍ نثِن. رهنُ مستقبل البلاد لخطابات الخشب المنخور في أفق إفراغ خزائن الوطن المادية و المعنوية، تلك هي الخطة و شعار المرحلة المريح هو "إذا أردتَ التحديث فقل ما شئت و اكتب ما شئت و قُد من شئت" فالتحديث لا يشترط في قادته غير الثرثرة و الجاه، و تلك موروثات لا مكاسب. -3- تناقلت وسائل الإعلام صور المحمول، التي تكاثرت كالفطر، وهي تحكي مأساة نهاية القدافي الذي أعدم كما يبدوا بُعيْد اعتقاله و جره من شعره كسارق ضُبط في سوق أسبوعي، بعد أن هرب من الزعيم الراحل الجاه و العز إلى الأبد، اختار القدافي أن يُقتِّل قومه على أن يترك كرسي الزعامة لأن في بلاد الزعامات الأبدية تنتقل السلطة بين الأقارب تماما كما ينبت الربيع في الأرض و لا مجال للمماحكة و الممانعة في طبائع الأشياء، لم يدرك الراحل أن ما وقع في بلاده و غيرها تَبَرُّمٌ و سأمٌ مُعْلن من طبائع الأشياء الزائفة هذه و إعلانٌ للرغبة في الحياة الكريمة لا في تلك التي تشعر معها أن وجودك نعمة أنعم بها عليك زعيم مُلهم. أبدى الكثير من أصحاب القلوب النبيلة انزعاجا من إعدام الزعيم بلا محاكمة و من طريقة إذلاله و ابنه و لكن تسرب مرة أخرى بين هؤلاء من لا يُفوت فرصة دون نفث سمه في "دسمه" محاولا لمز الإسلام من أجل التنقيص من قدْر ثورة كان شعارها التكبير، بل و قال البعض أن صور إذلال و إعدام القدافي ستُغضب المجتمع الدولي "إلهِ الأزمنة الحديثة" الشبح: و لا أحد يرى هذا الشبح في حصار غزة و لا مذابح الصهاينة في فلسطين و لبنان و لم نسمع منه تنديدا بعصابة الأمريكان عند إعدامها لأسامة بن لادن أعزلا في بيت نومه و أمام زوجته و إلقاء جثمانه لقروش البحر. إعدام القدافي بلا محاكمة و التنكيل بجثته و عرضها للفرجة أمر غير مقبول دينا و لا علاقة لرفضه بمجتمع دولي شبح يستعمله البعض لإيهامنا بوجود نظام عادل يحكم عالم اليوم، لأن عالم أمريكا و عصرها لا يعرف غير المصلحة و لا تُديره إلا شركات البيع و الشراء المتعددة الوجوه و الجنسيات، غير ذلك وهم. عقودٌ مغرية للنفط كانت كافية لجعل هذا المجتمع الدولي يُنكل بالأطفال و النساء و الشيوخ و ليس فقط بالقدافي كما رأينا في مذابح العراق التي ثمَّ تبريرها بأسلحة دمار شامل لا يملكها على الحقيقة غير "المجتمع الدولي". -4- تشهد ساحة السياسة عندنا أو "حقلها" حركة حثيثة لبلوغ منصب رئاسة الحكومة خدمة لمصلحة البلد و سوْقا له تحو آفاق الكرامة و الحرية و العدالة و وسيلة أحزابنا لكل ذلك هي الديموقراطية الداخلية و الشفافية المالية و النزاهة و الاعتماد على الذات من خلال تحالفات تجمع كل ألوان الطيف السياسي على صعيد واحد ينادون على الناخب أن يختارهم لأنهم مستقبل هذا البلد. يعلم هؤلاء الساسة كما القارئ الكريم أن ذلك محض هراء لأن التحالفات عندنا هي أشبه بالانحناء على أربع للسماح للص أن يتسلق سطح الوطن ليغتصب ممتلكاته. لم نشهد منذ بزوغ فجر الثورات العربية محاسبة مسؤول و لا محاكمة مختلس، بل رأينا وجه السلطة البشع يُصر على إبقاء صحفي أعاد بعض الحياة للصحافة المغربية خلف القضبان، لأن الوضع لا يسمح بتسريب أخبار الصفقات المشبوهة و الاختلاسات التي لا تنتهي، و لصوص البلد يريدون تأدية الواجب الوطني في صمت. كان و اجب لجنة حياكة الدستور هو ربح الوقت و قد كان، و واجبُ الانتخابات شَغْلُ الأحزاب بسباق القفز على الكراسي و إيهام الشباب بمناصب شغل ستتم إحالتها على حكومة تبدأ العمل بعد فصلَيْ الربيع العربي، و الصيف الأوروبي ليبدأ خريفنا الطويل مع حكومة الكراسي الصدئة و الرواتب السمينة و الوسائط القبلية في عود أبدي للفساد و الاستبداد. حركة العشرين من فبراير تجمع في جنباتها العدليين المخرفين و اليسار المتشددين و الشباب المهمشين العدميين، هي العدو إذن، و مستقبلنا الزاهر هو مع أحزاب الخردة و سياساتها التي تعيث فسادا في الصحة و التعليم و وكل مرافق الدولة و التي لا يكون في جعبتها سوى خطة يتيمة حاصلها بيع شركات القطاع العام لتسديد فواتيرهم و ضخ الأموال في أرصدتهم. و رفض بعض الأحزاب "المعارِضَة" مؤخرا لبيع أسهم في إحدى شركات الدولة ليس دافِعُه الخوف على أملاك الدولة و إنما الخوف من ألا تجد ما تبيعه عند ما يأتي دورها لتَسُوقنا، و رأسمالها من المشاريع تهريب البلاد و إعادة الاستعمار بالتقسيط بعد أن خرج بالجملة. -5- فوز "الإسلاميين" اليوم في تونس و ثبات حال الفوز عندهم في تركيا قد يوهم البعض بأن السر في "الإسلامية" و أن ادعاء النسبة يكفي للتحقق بها و ذلك أمر لا يصح لا في ادعاء التحديث و لا في ادعاء الإسلامية و ربك يقول : "ليس بأمانيكم و لا أماني أهل الكتاب، من يعمل سوءا يجز به" (النساء 123) ، من ينظر في تاريخ الحزبين في تونس و تركيا سيجد أن لأصحابها خيارت و مواقف لم يختاروا التنازل عليها تكتيكا مرحليا للعودة إليها فيما بعد لأن المبادئ لا يمكن فصلها عن صاحبها و متى انفصل عنها فقد البوصلة و تاه في تقديرات الشهوة الخفية. لا يمكنك التحالف مع الشيطان للقضاء عليه كما لا يمكنك ادعاء الإسلامية و أنت لا تختار سوى سبيل الرفاه و لا تقف إلا في صف المترفين و لا تستطيع أن تقول إلا نعم، و لا أن تجتهد إلا في فنون تبرير هذه ال"نَّعمُ" المُديمة لتلك النَِعم . الإصلاح موقف لا مجلس، و السياسة الحقة مغالبة لا مداهنة، و دنيا الله واسعة متى كان في غير المستطاع السلوك وفق ما تمليه المبادئ المبرِّرَةُ للوجود ابتداءا، لأن البقاء في لجة الفساد في بحبوحة من العيش ليس قبضا على الجمر بحال. -6- بدعة أصبح لها شأن في البلاد خاصة عندما يتعلق الأمر بشباب العشرين و قد أتتنا هذه البدعة في صورة شعار عجيب يقول " لا تتكلم باسمي" و كأن استعمال نون الجمع يستلزم طرق الابواب و أخذ الإذن من جميع المغاربة للمطالبة بأمر ما وذلك أمر لا تقوم معه قائمة لا لحكم و لا لسياسة لأن مضمونها "فوضوي" و إن كان رافعوها يحتسبون أجرها عند الديموقراطية و هي منها براء، و هذا النوع من الشعارات علامة على ضحالة الفكر السياسي عندنا و آية على ما وصلت إليه الاستهانة بألباب الناس في زمن ثورات الكرامة، فهل نكون استثناءا ببركة هؤلاء المشعوذين الذين لا يردعهم حياء على رمي مستقبل البلاد ببيض فاسد؟!.