الشارع خال إلا من بعض المارة؛إنه هدوء الصباح الذي يسبق ضجة النهار،نزلت بتثاقل درج الفندق؛كنت أتفوه من فرط النوم و التعب...غادرت سريري مبكرا؛ وأنا أعلم أن هناك من ينعم بعد بدفء الفراش وحرارة الجوار. توجهت نحو المحطة، كانت مدينة تطوان ما تزال تغط في نومها؛ عدا زوار يستعجلون الرحيل؛ وأمتعة متراكمة في ساحة المحطة، تحركت عجلات الحافلة..راحلا وإن كنت لم أشف غليل فضولي من تجوالي ومن هذه المدينة.لم تعد تفصلني عن عروس الشمال إلا أميال،كنت قد قررت من قبل زيارتها..ولكن الآن ثمة أمور تستعجلني للرحيل: رؤية أختي القادمة من الديار الإيطالية.. أخي الخارج لتوه من المستشفى بعد عملية جراحية...سيقال أني هربت من أحد ما و الحقيقة دون ذلك.فليس من احتمال ثان و تفسير آخر غير الفرار من نفسي إلى نفسي؛ في بحث مستمر عن انسجام تام مع ذاتي... العرائش حمامة بيضاء تجثم على رمال الأطلسي..وجبة سمك كالعادة ؛ دروب وأزقة وشوارع أجوبها مرة أخرى وغير بعيد يمتد الأطلسي في لا تناهي؛ مترامي الأطراف،رائحة الملوحة و الطحالب و الأجساد.امتطيت قاربا صغيرا إلى الضفة الأخرى؛ حيث الأجساد تسترخي في شرود وكسل؛ مستسلمة لأشعة الشمس المحرقة.شباب يلعبون الكرة؛ غواني يستعرضن ودواتهن الممتلئة المثيرة حقا للفضول؛ فضول أبله مثلي يلج الشواطئ لأول مرة بعد أن شاخ.عجبت من أمهات يلبسن ثبان أشبه بأوراق التوت؛بينما لحمهن المترهل يثير الاشمئزاز.جو البحر بزرقته جميل على كل حال ،تبدو الأمواج مثل جبال غاضبة ولكن في حنان رفقة بالزائرين.اجتاحتني رغبة في الغطس بعيدا بعيدا،رويدا رويدا دخلت الماء؛ شعرت ببرودة منعشة ؛وسرعان ما تراجعت إلى الخلف كالمتولي يوم الزحف؛ في الواقع لم يكن ذلك ممكنا ..فالطريق أمامي ما يزال طويلا و غامضا،تحركت بتثاقل في الرمال كي أخرج؛ صعدت المركب الصغير رفقة سياح أجانب للعبور إلى الضفة الأخرى،تجاذبنا أطراف الحديث عن مشاكل التعليم وأشياء أخرى.تبادلنا العناوين وتواعدنا على المراسلة،واعتذرت عن تناول غذاء متأخر معهم،ورحلت عن العرائش؛خليط أشياء متداخلة في الواقع وفي ذهني؛إلى حين وصول مدينة القصر الكبير،في الحقيقة لم تكن لدي رغبة التجوال هاهنا،رغبتي فقط في مواصلة الرحيل،كنت أريد الذهاب إلى مكناس؛وحين تذكرت عائلة عمي وليت وجهي شطر مشرع بلقصيري.حين وصلت ذهبت إلى البيت الكبير استقبلوني بحرارة وحفاوة ،قضيت معهم ليلة وحدة ليس إلا ،وتحت وابل من الإلحاح وجدت صعوبة في إقناعهم بالرحيل. قبلوا بعد لأي ورحلت؛ شريطة أن ألتزم بوعدي في العودة حالما تهاجر إلى الديار الإيطالية..اتفقنا على الزيارة في غضون هذا الصيف...خرجت من مشرع بلقصيري كالعنزة وقد انتشلها الراعي بصعوبة من براثن الذئب... العرائش/ مشرع بلقصيري :19 غشت 1996 . إضغط على الصورة لمشاهدة الحجم الكامل وصلت باكرا مدينة القنيطرة؛ ورحت استطلع المكان و أتصفح الوجوه وكل الأزقة، لم يكن وجه دلك المخلوق بينهم ؛وبقيت أجوب الشوارع ،لاشيء في الحقيقة يثير انتباه المار من هنا، تناولت غذاء كما عشقت ؛ورحلت إلى مدينة وادي النخلات: تيفلت،مدينة صغيرة لم يستوقفني شغب التجوال كثيرا بها ، بعدما تنفست الصعداء تابعت سيري إلى الخميسات، هذه المدينة البربرية العريقة التي تأسست سنة 1935م ،ساكنتها تتجاوز المائة ألف نسمة ،غالبيتهم من المهاجرين إلى الديار الفرنسية والهولندية على وجه الخصوص، غالبا ما تزدحم المدينة بزوارها مثل هذا الوقت من كل صيف،تمتلئ الساحات سهرات وأنشطة شتى ،فرحا بقدوم أبنائها الذين اغتربوا لسنة أو تزيد. الشارع طويل وأنا أسير الهوينى ؛ ثمة بربرية حلوة تتناهى إلى مسمعي؛حجزت غرفة بالفندق ؛أخذت دوشا دافئا..ونمت قليلا. لم يكن لدي وقت للنوم؛ ولكن مرهقا وصلت؛ مرهقا نمت، استيقظت على خيوط واهية لشمس المساء تتأهب كي تغادر المدينة.نزلت إلى الشارع أسري كما يحلو لي في أمكنة عديدة،لم يكن هناك مكان بالتحديد أقصده ؛عدت إلى الفندق بعدما تناولت عشائي بالخارج،وانخرطت في تأمل طويل ،هذه المرة لم تكن لدي رغبة في الكتابة،كنت أشعر برغبة في أن أتمدد على السرير؛شارد الذهن؛ كأني أسوخ في العدم؛ دون أن أركز ذهني حول شيء محدد، سينتهي كل شيء بعد ساعات،أجل لم يعد يفصلني عن تيموليلت إلا مسيرة نصف يوم فقط،كالذي بدأت تسري في ذاته حمى سكرات الموت؛وكان يشعر باقتراب الأجل؛بعد رحلة طويلة اجتاز فيها ممرات وأودية طرقات وقناطر..أحزان ومسرات..كل البدايات والنهايات...كأنه يستعد الآن ليغلق الأسماع عن كل شيء..في صمت قدسي؛سأرحل عن هنا إلى هناك..واستمر شرودي...لا أدري هل طال أم قصر قبل أن أنام...وفي الصباح غادرت المدينة و امتطيت الحافلة؛ وكلما اقتربت أحسست بشعور مبهم وغامض يمتلكني. خرجت خاوي الوفاض و ها أنذا أعود ممتلئ الجراب...اكتشفت عوالم عدة وأشخاص كثر وأماكن عدة؛واكتشفت أنا خارج الأنا؛وتعلمت من جديد كيف أن الحركة تحييني؛والسكون يقتلني؛محب للحركة؛فيها أجد ذاتي؛دونها اقتل ذاتي،وذاتي تصرخ من أعماق ذاتي..متع نفسك وتمتع بالحياة..ليس الثبوت شيئا مع الممات..ليست النفس نفسا إن اشتكت من الشتات...ليست الروح روحا إن عانت من الإجتثات..ليس المرء إنسانا ما لم يتبرم من ضيق الأوقات..ليس حيا من مات قبل الممات..فلن أكون بعد اليوم إنسانا يعيش على الثبوت..أبدا أبدا لن أتحصن بعد اليوم على السكوت من السكوت..أريد أن أرقى إلى فضاء الملكوت.... يتبع.... الخميسات : 20 غشت 1996 ذ : الحسين العمراني إضغط على الصورة لمشاهدة الحجم الكامل إضغط على الصورة لمشاهدة الحجم الكامل إضغط على الصورة لمشاهدة الحجم الكامل