اقفل الهاتف، ضع حذاءك أمامك ... ومشاهد أخرى من مساجد اليوم لا شك في أن الصلاة عماد الدين ، وان أول ما يسأل عنه العبد يوم الحساب هو هذه الفريضة، إذ بها ترتبط قيمة باقي الأعمال الأخرى التي أفنى الخلق نفسه في القيام بها قيد حياته. والمثير للانتباه هو كثرة العباد الذين يحنون للصلاة في وقت دون غيره، وتراهم يرتادون بيوت الله لفترة دون أخرى،كما هو شائع في رمضان مثلا، إلى درجة انه يحلو للبعض تسمية هؤلاء المصلين الموسميين بعبادي الحريرة. حيث ما إن ينصرم أخر يوم من الصيام أو أيام معدودة بعده على الأكثر حتى تراهم يتهاونون في القيام بهذا الواجب الديني تدريجيا إلى أن يتخلفوا عنه تحت دواعي مختلفة. يثلج الصدر برؤية أفواج هائلة من المصلين يقصدون المساجد لأداء صلاة التراويح في رمضان مثلا أو أيام الجمعة،إلى درجة أن الفضاءات الداخلية لا تسع الأفواج الهائلة منهم،وتضطر نسبة كبيرة إلى المكوث خارج أسوار المساجد حيث ينصهر المصلون في جو روحاني يختم عادة بالابتهال إلى العلي القدير بأن يتقبل الصلاة والصيام وسائر أعمال البر والإحسان.بيد أنه يحز في النفس معاينة المساجد شبه فارغة بانصرام أيام رمضان أو أيام الجمعة. ولعل المثير أكثر هو عدم خلو مساجدنا من بعض المشاهد ومن بعض السلوكيات المتنافية مع الأخلاق والآداب الحميدة، فمثلا يمكنك أن تلج أحد بيوت الله لأداء فريضة الصلاة وفي رمشة عين قد تغادرها وأنت حافي القدمين بعدما أن يكون حذاؤك في خبر كان. لهذا تجد حيطان المساجد عوض أن تعلو فضاءاتها الآيات القرآنية التي تحث على الصلاة والمواظبة عليها لما في ذلك من عظيم الثواب، تجدها مطلية بعبارات من قبيل \"ضع حذاءك أمامك أخي المصلي\" فبدلا من التأمل والخشوع الكلي في الصلاة، والذي من السنة أنه يحبذ نظر المصلي إلى موضع سجوده سواء ألازال واقفا أو قائما من ركوع أو سجود ينصب جزء من اهتمامه لئلا نقول كله إلى حذائه الموضوع أمامه قبل أن تمتد إليه يد لا يردعها وازع ديني ولا هم يحزنون، ولا تفرق بين أخذ ممتلكات الغير خلسة في الأماكن العامة أو في بيوت الله. وأمام الغزو التكنولوجي أيضا نتيجة انتشار الهواتف النقالة كما تنتشر النار في الهشيم حيث لا يخلو منها جيب إلا ما رحم ربك، بل هناك من الجيوب من يوجد بها أكثر من هاتف. غالبا ما تردف بالعبارة السابقة عبارة \" المرجو من المصلي إقفال الهاتف النقال\" كلازمة أخرى. وإذا كان غالبية المصلين ينصاعون للعبارة الأولى درء لشبهة الخروج حفاة بعد أداء فريضة دينية يفترض فور الانتهاء منها أن يسود المكان روح الإخوة والسكينة...فان قسطا لا يستهان به من رواد المساجد يغفلون إقفال هواتفهم النقالة أو بالأحرى ضبط رنينها على المستوى الصامت، أو اضعف الإيمان تخفيض مستوى الصوت إلى الحد الأدنى. وهكذا يكون المصلي في حالة خشوع وهو قائم في الصلاة حتى تصم أذانه ويعكر صفو جو السكينة والخشوع بمختلف أنواع الترانيم إن لم نقل شتى أصناف الألحان الموسيقية الشبابية والشعبية والغربية...مما تفقد معه الصلاة ذلك الرونق الذي يفرض جوا من الطمأنينة والتمعن في مضامين الذكر الذي يتلى على المصلين. ذات مرة حضرت صلاة الجمعة بأحد المداشر بالإقليم الحبيب واندهشت لأحد الأشخاص يتخطى الرقاب أثناء - الخطبة - محاولا إخراج هاتفه من الجيب وهو يرن بشكل مرتفع، وبعد تجاوزه للصف الأخير في اتجاه الخارج شرع في الرد على مخاطبه بدون خجل ضاربا بعرض الحائط عبارة أخرى كانت أمامه تتضمن صورة لهاتف نقال عليه علامة الضرب مرفقة بجملة \" اقطع الاتصال بالمخلوق واربطه بالخالق\".بل أكثر من ذلك انه افرغ من محتواه حديث أبو هريرة الذي رواه عن الرسول صلى الله عليه وسلم،الذي قال فيه إذا قلت لصاحبك و الإمام يخطب يوم الجمعة أنصت فقد لغوت،ومن لغا فلا جمعة له. هذا الحديث الذي اعتاد ابن هذا المتهور تلاوته على مسامع المصلين بعد صعود الإمام المنبر وقبل رفع الأذان. وحتى المساجد التي كانت إلى عهد قريب تفتح أبوابها على مدار اليوم للمصلين،ولطالبي العلم وللأطفال لحفظ ما تيسر من الذكر الحكيم بطريقة الألواح الخشبية، واستيعاب قدرمن ألفية ابن مالك ومتن ابن عاشر... وأيضا ملاذ الغرباء من عابري السبيل الذين يبيتون فيها امنين إلى أن يتنفس صبح جديد، توصد أبوابها إلا في أوقات الصلاة خوفا من مغبة تعرض أفرشتها ومعداتها للسرقة من لذن من لا حس ديني لديهم. ورغم محاولات الدولة الرامية إلى تأهيل الحقل الديني بالمغرب من خلال إعادة هيكلة المساجد وتكوين الأئمة والوعاظ والمرشدين الدينيين ...فالاكراهات التي تواجهها مساجد اليوم لا تتوقف على سرقة محتوياتها فحسب، بل تواجه تحديات داخلية وخارجية. فأمام احتلال الأجانب لغالبية رياضات المدينة القديمة بمراكش مثلا ما فتئوا يطالبون بمنع أذان الفجر بمسجد الكتبية وهو الذي يرفع فيه منذ قرون خلت،بدعوى انه يقلق راحتهم بعد عودتهم من الحانات في ساعات الصباح الأولى. ومع نهاية السنة المنصرمة جاءت نتائج الاستفتاء بسويسرا ضد التوقعات،وذلك بالتصويت بمنع بناء المآذن بهذا البلد المسالم الذي ظل لسنوات محايدا وبعيدا عن مثل هذه التصرفات التي تثير الاستفزاز وتزرع العداء بين الشعوب. وفي بحر هذا الأسبوع طلب سكان العاصمة الرباط وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بتخصيص مصليات وفضاءات في الهواء الطلق لأداء صلوات الأعياد إتباعا لنهج سيد المرسلين. وفي فاس طالب الاستقلالي شباط بإغلاق الحانات والملاهي الليلية،وإعادة ترميمها لتصبح بيوتا لله، يقصدها المصلون بدل المتسكعون الذين يلهثون خلف جرعة خمر تخرجهم عن جادة الصواب قبل الخروج لأزقة العاصمة العلمية لاقتراف أشنع الجرائم،وذلك على قلة مساحات طاهرة من ارض الله الواسعة لتشيد عليها المساجد بل بدل إعلائها على أنقاض أماكن مدنسة. قبل أن تطلع علينا سلطات مارسيليا الفرنسية بخبر مفاده بناء مسجد ضخم بالمدينة يسع آلاف المصلين، لكن بيت القصيد هو أن الأذان لن يرفع في هذا المسجد، بل سيكتفى بإرسال ضوء اخضر من أعلى مئذنته إيذانا لحلول وقت الصلاة. انه زمن العجائب والتلاعب بالمقدسات،أماكن العبادة التي هي من أقدس الأماكن على وجه البسيطة،أضحت ألعوبات بين أيادي المتطفلين على هذه الملة والمناهضين لانتشار هذه الديانة السمحة. بضعة أيام تفصلنا فقط عن عيد مولد خير البرية سيد الأولين والآخرين محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، نسأل الله أن يهدي المسؤولين للصراط المستقيم، ويحمي مساجدنا من كل ما يستهدفها من حملات ممنهجة، ويقيها من تلاعب وعبث ولامبالاة هؤلاء المسؤولين. أثناء تحيين هذا المقال قبل إرساله للبوابة،أوردت إحدى القنوات الأجنبية أن مئذنة احد المساجد بالعاصمة الإسماعيليةمكناس قد هوت على جموع المصلين وهم داخله ملبين نداء الباري عز وجل في الآية 9 من سورة الجمعة بقوله \" يا أيها الذين امنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون...\" وقد تم استخراج العشرات من الجثث من تحت الأنقاض، بينما لازال رجال الوقاية المدنية يواصلون عملهم والحصيلة النهائية للضحايا مرشحة لان تكون ثقيلة. وفي معرض جواب احد المسؤولين عن سؤال وجه إليه بشان أسباب الكارثة لم يخجل وهو يبرئ مسيري الشأن المحلي بمكناس من المسؤولية ويعزيها لغضب الطبيعة، بفعل توالي التساقطات المطرية على ربوع المملكة. لنفهم من كلامه انه من الآن إذا \" طاحت الصومعة علقوا الطبيعة \" .