الإيليزيه: الحكومة الفرنسية الجديدة ستُعلن مساء اليوم الإثنين    فيديو "مريضة على نعش" يثير الاستياء في مواقع التواصل الاجتماعي    الكرملين يكشف حقيقة طلب أسماء الأسد الطلاق ومغادرة روسيا    المغرب-الاتحاد الأوروبي.. مرحلة مفصلية لشراكة استراتيجية مرجعية    توقيف المتورط في ارتكاب جريمة الإيذاء العمدي عن طريق الدهس بالسيارة في الدار البيضاء    الجزائريون يبحثون عن متنفس في أنحاء الغرب التونسي    نيسان تراهن على توحيد الجهود مع هوندا وميتسوبيشي    سوس ماسة… اختيار 35 مشروعًا صغيرًا ومتوسطًا لدعم مشاريع ذكية    النفط يرتفع مدعوما بآمال تيسير السياسة النقدية الأمريكية    أسعار اللحوم الحمراء تحلق في السماء!    الناظور بدون أطباء القطاع العام لمدة ثلاثة أيام    غضب في الجارة الجنوبية بعد توغل الجيش الجزائري داخل الأراضي الموريتانية    بنما تطالب دونالد ترامب بالاحترام    نُبْلُ ياسر عرفات والقضية الفلسطينية    الإيليزي يستعد لإعلان حكومة بايرو        محمد صلاح: لا يوجد أي جديد بشأن مُستقبلي    تعيين مدرب نيجيري لتدريب الدفاع الحسني الجديدي لكرة الطائرة    نادي قضاة المغرب…تعزيز استقلال القضاء ودعم النجاعة القضائية        توقعات أحوال الطقس اليوم الإثنين    "سونيك ذي هيدجهوغ 3" يتصدر ترتيب شباك التذاكر    تواشجات المدرسة.. الكتابة.. الأسرة/ الأب    أبرز توصيات المشاركين في المناظرة الوطنية للجهوية المتقدمة بطنجة    حقي بالقانون.. شنو هي جريمة الاتجار بالبشر؟ أنواعها والعقوبات المترتبة عنها؟ (فيديو)    شكاية ضد منتحل صفة يفرض إتاوات على تجار سوق الجملة بالبيضاء    الحلم الأوروبي يدفع شبابا للمخاطرة بحياتهم..    تنظيم كأس العالم 2030 رافعة قوية نحو المجد المغربي.. بقلم / / عبده حقي    تصنيف التنافسية المستدامة يضع المغرب على رأس دول المغرب العربي    إعلامية فرنسية تتعرض لتنمر الجزائريين بسبب ارتدائها القفطان المغربي    إدريس الروخ يكتب: الممثل والوضع الاعتباري    السلطات تمنع تنقل جماهير الجيش الملكي إلى تطوان    شركة Apple تضيف المغرب إلى خدمة "Look Around" في تطبيق آبل مابس.. نحو تحسين السياحة والتنقل    شركات الطيران ليست مستعدة للاستغناء عن "الكيروسين"    الموساد يعلق على "خداع حزب الله"    "إسرائيليون" حضروا مؤتمر الأممية الاشتراكية في الرباط.. هل حلت بالمغرب عائلات أسرى الحرب أيضا؟    معهد "بروميثيوس" يدعو مندوبية التخطيط إلى تحديث البيانات المتعلقة بتنفيذ أهداف التنمية المستدامة على على منصتها    كيوسك الإثنين | إسبانيا تثمن عاليا جهود الملك محمد السادس من أجل الاستقرار    أنشيلوتي يشيد بأداء مبابي ضد إشبيلية:"أحيانًا أكون على حق وفترة تكيف مبابي مع ريال قد انتهت"    حكيم زياش يثير الجدل قبل الميركاتو.. الوجهة بين الخليج وأوروبا    من يحمي ادريس الراضي من محاكمته؟    اختتام أشغال الدورة ال10 العادية للجنة الفنية المعنية بالعدالة والشؤون القانونية واعتماد تقريرها من قبل وزراء العدل في الاتحاد الإفريقي    مواجهة نوبات الهلع .. استراتيجية الإلهاء ترافق الاستشفاء    إنقاذ مواطن فرنسي علق بحافة مقلع مهجور نواحي أكادير    تشييع جثمان الفنان محمد الخلفي بمقبرة الشهداء بالدار البيضاء    وزارة الثقافة والتواصل والشباب تكشف عن حصيلة المعرض الدولي لكتاب الطفل    حفيظ عبد الصادق: لاعبو الرجاء غاضبين بسبب سوء النتائج – فيديو-    رحيل الفنان محمد الخلفي بعد حياة فنية حافلة بالعطاء والغبن    خبير أمريكي يحذر من خطورة سماع دقات القلب أثناء وضع الأذن على الوسادة    ندوة تسائل تطورات واتجاهات الرواية والنقد الأدبي المعاصر    لأول مرة بالناظور والجهة.. مركز الدكتور وعليت يحدث ثورة علاجية في أورام الغدة الدرقية وأمراض الغدد    دواء مضاد للوزن الزائد يعالج انقطاع التنفس أثناء النوم    أخطاء كنجهلوها..سلامة الأطفال والرضع أثناء نومهم في مقاعد السيارات (فيديو)    للطغيان وجه واحد بين الدولة و المدينة و الإدارة …فهل من معتبر …؟!!! (الجزء الأول)    حماية الحياة في الإسلام تحريم الوأد والإجهاض والقتل بجميع أشكاله    عبادي: المغرب ليس بمنأى عن الكوارث التي تعصف بالأمة    توفيق بوعشرين يكتب.. "رواية جديدة لأحمد التوفيق: المغرب بلد علماني"    توفيق بوعشرين يكتب: "رواية" جديدة لأحمد التوفيق.. المغرب بلد علماني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



عبد الرحمان شوجار: حياة على حد البندقية والقضبان 2
نشر في أزيلال أون لاين يوم 20 - 05 - 2008


عبد الرحمان شوجار:حياة على حد البندقية والقضبان
الفرار من بنادق الشرطة
لما دخلت عند وكيل الملك قال لي : إنك متهم بخرق القانون وبمس الأمن العمومي.. كررت ما قلته لخليفة الباشا. فرد علي وكيل الملك : لكن هذه الصورة المكسورة تثبت ذلك... قلت له : إن صورة جلالة الملك لا توجد في الشارع، فإما أن تكون في منزل أو في مكتب. أما نحن فكنا نقوم بحملتنا وفق ما يخوله القانون في الشارع وبسلام..... أجابني الوكيل : إن التهمة تابثة في حقك. وأنا سأرسلك إلى السجن... وبالفعل أرسلني في ذلك اليوم إلى سجن آسفي. وكان قد بقي على انتهاء الحملة الانتخابية 24 ساعة فقط.
عندما وصلت إلى السجن اقتادني الحراس إلى مكتب المراقبة. حيث أخذوا جميع معلوماتي الشخصية، وجردوني من ساعة كنت أحملها في يدي. ثم أودعوني وحدي في الزنزانة لأن السياسيين كانوا يعزلوهم عن معتقلي الحق العام. بعد ذلك التحق بي المناضلون الآخرون الذين كانوا معي في قبو البلدية، ثم نقلونا جميعا إلى زنزانة أخرى. وقد فهمنا أن الغاية من اعتقالنا هي حرماننا من حق التصويت ومنعنا من القيام بدورنا في الحملة. وربما سنبقى قيد الاعتقال إلى أن تمر الانتخابات وبعدها سيقدموننا إلى المحكمة التي قد تبرئنا وقد تحكم بسجنا.
بقينا في السجن يومين، وصل الخبر إلى الكتابة العامة للحزب بالدار البيضاء لأن الأخ الوديع الآسفي هو الذي كان مرشحا بآسفي. فعين للدفاع عني الأستاذ المحامي الزرهوني وكان بهيئة بمراكش وعبد اللطيف السملالي وهو الآن أمين عام الاتحاد الدستوري وكان آنذاك عضو حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية.
بعد مرور ثلاثة أيام قررنا الدخول في إضراب عن الطعام احتجاجا على اعتقالنا وحرماننا من حق التصويت. عندما وصل الخبر لمدير السجن جاءنا مهددا. لكننا أخبرناه بأننا نعتبر أنفسنا على حق وأن تهديده لن يثنينا عن الاستمرار في الاضراب، بعدها سألنا :
بماذا تطالبون ؟
قلنا له بأننا نطالب بحضور وزير العدل أو وكيل الدولة أو المدير العام للسجون. أغلقوا علينا الباب. وكنا نسمع ضوضاء في الخارج : ارتجاج الأبواب الحديدية، صراخ حراس السجن... وفهمنا أن ذلك يدخل ضمن تكتيك التخويف.
كان احد حراس السجن يسمى بلقايد متعاطفا مع حزب الاستقلال فأخبر الفقيه السرغيني الذي كان مناضلا استقلاليا ومرشحا عن حزب الاستقلال في الانتخابات، بأننا مضربون عن الطعام. وبذلك وصل الخبر إلى الكتابة الاقليمية للحزب ومن ثمة إلى الكتابة العامة بالدار البيضاء. فنزل الخبر في الغد في جريدتي العلم والتحرير متضمنا مساندة الحزبين، بعد ذلك زارنا وفد عن الاتحاد الوطني للقوات الشعبية وحزب الاستقلال، يعلن تضامنه معنا ودعمه لنا في معركتنا، ويطلب منا ألا نستسلم. وبقينا مستمرين في الاضراب عن الطعام.
مرت الانتخابات وفاز في آسفي الفقيه السرغيني فقررنا فك الاضراب. مر عشرون يوما. فقدمنا للمحاكمة. افتتحت الجلسة حوالي الساعة العاشرة صباحا. وجه لي التهمة الحاكم المفوض القاضي حاليا . بعد ذاك ترافع المحاميان عبد اللطيف السملالي والزرهوني. ثم جاء دوري للتدخل، حوالي الثانية عشرة، انسحب القضاة للمداولة وبسرعة عادوا إلى قاعة الجلسات، فنطق القاضي بالحكم في حقي بسنتين سجنا موقوفة التنفيذ ومائة درهم كغرامة. أعادونا إلى السجن، تسلمنا ملابسنا وأشياءنا وأطلقوا سراحنا.
انطلاقا من هذه المحاكمة الصورية، ومن التهم التي أصبحت تلصق بالمواطنين بشكل مجاني، والأحكام الجزافية التي تصدر بدون أي سند قانوني وبدون ثبوت التهم، أصبح يظهر أن المستقبل أضحى أكثر إظلاما وأن المغرب سائر في طريق غير مأمون.
بعد انتهاء معركة الانتخابات التشريعية، وقع الهجوم على الكتابة العامة للحزب من طرف النظام. وكان ذلك في 16 يوليوز 63. فاعتقلت قيادة الحزب. واتسعت دائرة الاعتقالات. وأغلقت مكاتب الحزب على الصعيد الوطني. وبدأت المحاكمات الصورية، حيث وجهت تهمة المؤامرة للمناضلين. فأصبح الجو السياسي بالمغرب مكهربا. وكان هذا كافيا ليؤكد دون أدنى شك بأن المعركة ستدوم طويلا، وأن أوفقير قدم الدليل على أن المغاربة لن ينعموا بالديمقراطية ولا بصياغة الدستور. وبفعل هذه الأحداث بدأ سؤال يطرح علي بإلحاح وهو ما العمل ؟ ..
وأصبح المغاربة كما لو كانوا في غرفة مملوءة بالدخان لكنها بدون باب ولا نوافذ وهم يبحثون عن كيفية الخروج. حيث أغلقت كل أبواب الحوار ولم يعد مجال للتفاهم. وأصبح كل واحد ينتظر دوره في الاعتقال.
في 14 مارس 1964، إذا لم تخنني الذاكرة، نطق بالحكم في حق المناضلين المعتقلين. في ذلك اليوم على الساعة الرابعة صباحا، سمعت في جهاز الترونزيستور إذاعة شريط مسجل بين الفقيه البصري وأوفقير، وبالتالي الحكم بالإعدام على مجموعة من المناضلين، كالفقيه البصري وعمر بن جلون ومومن الديوري...
كان يوم 14 مارس 1964 بالنسبة لي منعرجا خطيرا ومهما في حياتي السياسية. حيث اتخذت قرار العمل في ظل السرية. وكان هذا اختيار لا يمكن تفاديه لأنه أصبح ظاهرا بما لا يدع مجالا للشك أن المغرب سائر في طريق المواجهة المفتوحة بحيث أن أي شخص يمكن أن يتقصدوه ويلفقوا له أي تهمة ليتخلصوا منه. وقد كنت مستهدفا من طرف عناصر المخابرات منذ الاعتقال الأول الذين يأتون بشكل يومي إلى المدرسة لاستفزازي، فصرت أنام الليل قليلا وأخرج ثم أعود وأترقب موعد اعتقالي بين الفينة والأخرى.
في تلك الليلة كتبت استقالتي من المدرسة، وفي الغد أي 15 مارس 1964. بعد تناولي وجبة الافطار، جمعت حوائجي وتوجهت إلى المقتصد لكي أبلغه باستقالتي. وأنا أشعر بتقة كبيرة في النفس وبمعنويات مرتفعة، أحسست حينها أنني أدشن لحظة مصيرية في حياتي. عندما دخلت عند المقتصد قلت له بدون مقدمات : أطلب منك أن تعفيني من عملي... أجابني : هذه مفاجأة. لماذا أقدمت على هذا القرار ؟ قلت : لأسباب قاهرة فطلب مني أن أتريث ولو لمدة 24 ساعة على أن أتراجع. رفضت تم ودعته. و سافرت عند ابنة خالتي بالدار البيضاء. قررت أن أختفي هناك عن الأنظار وأن أقطع كل صلاتي الحزبية. وهذا بالطبع تحرسا من زبانية أفقير وجحيمهم. لأنهم إذا ما تمكنوا مني سيكون مصيري أسوأ مما يمكن تصوره.
بقيت في الدار البيضاء طيلة أشهر مارس، أبريل، ماي 1964. وفي 10 يونيو دخل شيخ العرب من الجزائر إلى الدار البيضاء. ولم أكن آنذاك على علم بدخوله.
وقع الاصطدام بينه وبين رجال الشرطة بحي الوزيس بالدار البيضاء، حيث كانت المواجهة بالأسلحة النارية. وقد قتل أربعة من رجال الشرطة قبل أن يفر رفقة إبراهيم الحلاوي. واختبأ بسيدي عثمان رفقة أصدقائه عند احد المخازنية يسمى أزناك من أصل أمازيغي من منطقة دمنات.
وبمجرد وقوع هذه الحادثة عمت حالة استنفار أمني المغرب كله. حيث أقيمت الحواجز الأمنية على مختلف الطرقات. وعلقت صور شيخ العرب في الحافلات والشوارع والإدارات. مع الوعد بالمكافآت المالية والامتيازات لكل من كشف عن مكانه.
في ظل هذه الأجواء بقيت مختفيا، لكن هناك حادث آخر وقع فغير مجريات الأمور. حيث أن محمد مرابطين وهو صديق يتاجر في الدراجات النارية بآسفي، وكان قد جاء إلى الدار البيضاء لكي يتسوق. فتعقبته المخابرات من آسفي إلى الدار البيضاء وعندما هم بالعودة اختطفوه. قرب كاراج الستيام. وقادوه إلى دار المقري. في هذا الوقت كنت قد عدت إلى آسفي، ذهبت لزيارته فأخبروني بأنه سافر إلى الدار البيضاء ولم يعد، بعدها ذهبت لزيارة أخي فأخبرني صهره بأن المخابرات اعتقلت أخوي الإثنين : الحاج علي الذي يشتغل ببنك المغرب وأحمد الذي يعمل في الكراج. وبأن سبب اعتقالهما مرتبط بي. بحثت عن تفاصيل الموضوع وعلمت أن هناك أمر وصل إلى آسفي يقضي باعتقالي، وفي حينه عدت إلى الدار البيضاء.
عندما وصلت إلى منزل ابنة خالتي، وجدتها مرعوبة. تنظر إلي وجسمها يرتعد : قلت لها :
ما بك ؟
بقيت تتلعثم. لتخبرني أن عناصر المخابرات قد زاروها قبل وقت قليل من وصولي. وأنهم كانوا يسألون عني، وعن سفري وموعد عودتي. وأنهم أخذوا حقيبتي وكل حوائجي التي تركتها عندها، وهددوها بأنها إن أخبرتني بزيارتهم لها فإنهم سيعتقلونها مكاني، تركتها وذهبت عند أحد أصهار أخي، وطلبت منه أن يستفسر عن الموضوع. فأخبرني بأن هناك أمر وجه إلى آسفي لإلقاء القبض علي، ثم أرجع نفس الأمر من آسفي إلى الدار البيضاء، وأن البحث جار للقبض علي. الغريب هو أني كنت أسافر بشكل علني في الحافلة وأمر من نقاط المراقبة، لكني بعد ذلك بدأت آخذ احتياطاتي خاصة عندما بلغني بأن هناك فرقة خاصة من رجال المخابرات المتواجدة بآسفي قد جاءت إلى الدار البيضاء للبحث عني لأنهم يعرفونني جيدا.
ذهبت عند ابنة خالتي وقلت لها : أكيد أنهم سيعودون قريبا. إذا سألوك عني قولي لهم بأنني سافرت إلى البلاد. أخذت احتياطاتي، وسافرت بالفعل إلى هناك.
ذهبت أولا إلى خريبكة، ومن هناك ركبت الحافلة التي تمر عبر أربعاء الفقيه بن صالح ومن ثمة عبر طريق واد العبيد ثم بزو ثم فم الجمعة. وكانت المراقبة شديدة في الطريق، مازلت أذكر أن شرطيا صعد إلى الحافة وتوجه نحوي. أخذ يقترب شيئا فشيئا وينظر إلي. ارتعبت، ولم أعد أحس بنفسي، اعتقدت أنه يتقصدني وربما طلب مني أن أدلي بالبطاقة الوطنية وأنا لم أكن أحملها معي. لكن لحسن الحظ استدار فعاد إلى مكانه.
عندما وصلت إلى فم الجمعة، سرت على حافة الجبل إلى أن وصلت بيت أحد الاتحاديين الذي كنت قد تعرفت عليه سنة 1963 بعد الانتخابات، كان فرحه بي كبيرا. اتفقت معه على أني سأقضي الليل عنده إلى حدود الساعة الثالثة صباحا والنهار أقضي في الجبل. وطلبت منه أن يرسل لي الأكل مع الراعي، على أن يضع سلة الأكل عند شجرة خروبة ثم ينسحب، وعندما أتأكد من انسحابه أذهب وآخذ السلة. وحينما يخيم الظلام أعود إلى البيت، بقيت على هذا الحال لمدة ثلاثة أيام. فطلبت من صديقي الاتحادي أن يذهب إلى مكتب تانانت وألا يتحدث إلى أحد، وأن يكتفي بالاستماع إلى ما يقوله الناس. وهذا ما قام به فعلا. لدى عودته أخبرني بأن فرقة من قوات الأمن قد جاءت من الرباط والدار البيضاء وطلبت من القائد أن يزودها بقوات إضافية من المخازنية. وتوجهوا إلى دوارنا. حاصروا بيت الوالد، وأخذوا يرددون بمكبر الصوت :
عبد الرحمن شوجار. سلم نفسك ولا ترغمنا على استعمال القوة وإطلاق النار...
بعد ها كسروا باب البيت واقتحموه بعنف شديد دون أي اعتبار لحرمته ولا لحالة والدي الذي كان طريح الفراش وهو في سن السبعين.. أرهبوا كل من في البيت من كبار وصغار ونساء وأطفال.. لم يسبق لأحد أن عاش واقعة مثل هذه في دوارنا بل في المنطقة باسرها. فتشوا جميع الغرف وهم مدججين بالأسلحة. مسددين فوهات مسدساتهم وبنادقهم صوب كل من يجدوه أمامهم في البيت. عبثوا بكل الأشياء من أواني وأفرشة وألبسة، مزقوا وكسروا... توجهوا إلى والدي وسألوه عني وهددوه بأنهم سيعتقلوه إذا ما أنا جئت لزيارته ولم يخبرهم بذلك.
بعد هذا الحادث، ومنذ ذلك اليوم، اشتد عليه المرض إلى أن توفي على إثره .
مكثت شهرين عند هذا الصديق الاتحادي، أقضي الليل عنده في البيت والنهار في الجبل. لم أستطع التحرك بسبب نقط وحواجز المراقبة الأمنية المقامة في جميع الطرق. إلى أن سمعت في صباح باكر لأحد الأيام وأنا في الجبل، في راديو ترونزيستور أن قوات الأمن قد قتلت شيخ العرب ببلوك سيدي عثمان... بقيت أنتظر أن تزول نقط المراقبة [البراجات] لمدة ثلاثة أيام، بعدها عدت إلى الدار البيضاء. وهنا بدأت محنتي الحقيقية حيث أصبحت متابعا رسميا ومطلوبا للقبض علي لأسباب لا أعرفها، فأنا لم تكن لي أي صلة بشيخ العرب، لكن الصدف هي التي قادت إلى تشابك الظروف..
ظللت مختفيا منذ ذلك التاريخ عند بعض الأصدقاء وفي حالات أخرى أبيت بالحدائق العمومية التي أصبحت مساكن أقطن بها. أما المأكل فما كاينش اللي يعتقك لأن الناس خايفين، في بعض الأحيان آكل قشور البرتقال المرمية في الحدائق. ليس لي من يساعدني، وحتى من يقدم على ذلك فإنه يتعب سريعا. وكل من ذهبت عنده يتهرب مني.
بقيت هكذا إلى أن وقعت أحداث 23 مارس 1965 وبعدها اختطاف المهدي بن بركة، ثم قرار العفو... كل هذه الأحداث عشتها بالدارالبيضاء. وكلما حاولت أن أجد حلا لكي أغادر هذه المدينة إلا ويقع حدث آخر ليزيد من تعقيد الأمور.
استمر هذا الوضع إلى غاية 30 دجنبر 1966 حيث ركبت القطار وكان في نيتي أن أتوجه إلى الجزائر كلاجئ.
وصلت مدينة وجدة. وبدأت أبحث عن منفذ للدخول إلى الجزائر. ذهبت إلى عين بني مطهر التي كانت تسمى في تلك الآونة بردل. بت فيها وسألت بعض السكان :
هل الحدود الجزائرية قريبة من هنا ؟ .
فأخبروني بأنها بعيدة جدا وأن المنفد الوحيد من هناك هو كولومبشار عبر طريق صحراوي طويل، فعدت إلى مدينة وجدة. وفكرت أن أدخل عبر السعيدية، لكني وجدت الحدود مثقلة برجال الدرك وقوات الجيش. فتوجهت إلى مدينة احفير. وقررت أن أعبر منها إلى الجزائر. كان ذلك اليوم الأول من سنة 1967 واليوم الأول من رمضان.
بالنسبة للمال الذي ركبت به إلى وجدة أعطاه لي أخي الذي كان يعمل في الجيش بتزنيت، وعندما وصلت إلى وجدة التقيت رجلا في محطة الحافلات لم تكن لي به أي معرفة مسبقة، فقلت له بأنني لا أملك مالا ولو فرنك واحد، شك أولا في أمري واعتقد بأني أمزح. لكن سرعان ما أخرج خمسين درهما وأعطانيها. وبها ركبت إلى أحفير، ومنها وصلت إلى الحدود.
ما كدت أقطع الأسلاك التي تفصل البلدين، حتى رأيت أحد الفلاحين الجزائريين يلوح لي بعصاه ويصرخ. اقترب مني قليلا وقال : احذر إن الأرض هنا مزروعة بالألغام والقنابل.. والكثيرون ماتوا بسببها ! فناولني عصاه وأمرني بأن أضعها أولا ثم أضع رجلي مكانها، وقف معي حتى قطعت الحدود. وما أن تجاوزت الأسلاك حتى انحنيت وقبلت تلك الأرض ثم التفتت جهة المغرب. سألني الجزائري : وين رايح ؟ قلت له إلى مغنية... التي وصلتها بمساعدة سائق جزائري ومنها إلى وهران ..
بوهران التقيت المرحوم الطاهر جيش أمام مكتب البريد وتوجهنا إلى مكتب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية الذي يعتبر من مكاتب الحزب في الخارج. وجدت هناك عددا كبيرا من اللاجئين منهم بعض الضباط من جيش التحرير من المناطق الصحراوية أتباع بن حمو، ولاجئين آخرين لم أكن أعرفهم. رحبوا بي بحرارة. بعدها التحق بنا الحسين الصغير وهو مقاوم من مدينة الجديدة. هو المكلف بأمن اللاجئين بوهران. ثم جاء الحسين الخطار. سمع خبر وصولي حتى في العاصمة، فجاء عمر القرشي ثم بن سعيد آيت إيدر وسعيد بونعيلات، والقايد حمدون وكان قائدا في الناظور وتحول بعد ذلك إلى الشمال. والقايد بارو والعربي الفيكيكي. وبلفقيه وصهره عبد الله الدكالي.. وعدد من المقاومين الذين يقيمون بالجزائر كلاجئين بعد أحداث 1963.
بقيت مدة في هذا المكتب الذي يعتبر كذلك مقر إقامة بعض اللاجئين. إلى أن جاءني إبراهيم تيزنيتي رحمه الله الذي مات في أحداث مولاي بوعزة. وهو من قادة جيش التحرير في اكلميم مع بن حمو. بعد ذلك أدمج بالجيش النظامي بدرجة نقيب. وكان في وحدات القوات المسلحة المتواجدة بكليز في مراكش، وعندما هرب بن حمو أظن في 1965 تبعه كل الضباط الذين كانوا معه في جيش التحرير بالمنطقة الصحراوية ودخلوا إلى الجزائر كلاجئين، ومنهم السي ابراهيم التيزنينتي الذي كان يتحمل مسؤولية التنسيق بين اللاجئين المتواجدين بالجزائرالعاصمة واللاجئين المتواجدين بوهران. وكان رجل استقامة يتميز بخصال النبل والنزاهة.
في هذه الفترة بدأت تطرح مسألة الانخراط الطوعي في صفوف الفدائيين الفلسطينيين...
بفعل الانقلاب الذي وقع في الجزائر والذي أطيح فيه بالرئيس بن بلة، وتولي الهواري بومدين مكانه ، أصبحت وضعية اللاجئين المغاربة جد صعبة، حيث كان هناك استعداد لدى بعض قادة الجزائريين لتسليمهم للسلطات المغربية. باستثناء المرحوم الهواري بومدين الذي كان يعطف عليهم ويحميهم من هذا الخطر. لكن مع الأسف كان لوزير الداخلية الجزائري المدغري علاقة مع الجنرال أوفقير. وكان هناك استعداد للطرفين بتبادل اللاجئين. في ظل هذه الظروف أصبحنا نجد أنفسنا كلاجئين مغاربة في وضعية جد صعبة. ولم تعد لنا ثقة بالأمن الجزائري. وأصبح من المفروض علينا أن نتدبر أمننا بأنفسنا. وفي هذا السياق طرحت مسألة إمكانية الانتقال إلى بلد آخر غير الجزائر. يضاف إلى هذا الوضع النفسي الذي خيم على اللاجئين المغاربة هناك. حيث كانوا يعيشون حالة فراغ أساسها الموقف الانتظاري الذي ساد منذ 1963 دون أي جديد. وهو ما فرض التفكير مرة أخرى في البحث عن مكان آخر لتجميع اللاجئين وتفعليهم.
شعرت السلطات الأمنية الجزائرية بأننا لم نعد نثق فيها. فبدأت تعمل على مضايقتنا ومن جملة ذلك أنها عمدت في وهران إلى تجميعنا في مكان مغلق [كراج]. واحتجزتنا هناك لمدة ثلاثة أيام. في هذه الآونة غادر الفقيه البصري المغرب إلى فرنسا وكان ينتقلمن دولة إلى دولة أخرى. فقرر اللاجؤون المغاربة انتظار مجيئه إلى الجزائر والاتصال بالنظام الجزائري لحسم مشكلة اللاجئين.
أخبرنا السي إبراهيم التيزنيتي بأن هناك إمكانية للانخراط في صفوف الفدائيين الفلسطينيين. وأن هناك تسهيلات لأخذ جوازات سفر من السفارة السورية. فقررت الالتحاق بالفدائيين بدون تردد . انتقلت إلى معسكر تجميع المتطوعين بالعاصمة الجزائرية وهناك التقيت بوفود من دول عربية أخرى كاليمن ولبنان وتونس.. أي من مختلف الجاليات العربية المقيمة بالجزائر. وكان معي من المغاربة السي عمر القرشي، البركة اليزيد وأحمد بالمنصور، وشخص أمازيغي يدعى موحى، لم أكن أعرف اسمه الكامل أو الحقيقي لأن اللاجئين كانوا يتعارفون بأسماء مستعارة. وكان اسمي المستعار بالجزائر هو عبد القادر، وعندما سأنتقل إلى المشرق سيصبح لي اسم آخر.
انتقلت رفقة المرحوم التزنيتي إلى الجزائر العاصمة.. وتكفل بنا عبد الفتاح سباطا الذي كان لاجئا بالجزائر منذ 1963. وكان مكلفا بمهمة التنسيق بين اللاجئين والسلطة الجزائرية، وهو الذي مهد لالتحاقنا بمعسكر المتطوعين.
قضينا بالمعسكر 45 يوما، كانت كلها نشاطا. تدربنا خلالها على استعمال الأسلحة والأساليب القتالية... بعدها عدنا إلى العاصمة الجزائرية. ومنها إلى وهران حيث اتصل بي السي إبراهيم التزنيتي وأخبرني بأن وجودي بوهران يمثل خطرا كبيرا علي. وذلك راجع إلى توافد المغاربة على هذه المدينة مما يقوي احتمالات تسلل عناصر المخابرات المغربية وسط صفوف المناضلين. إضافة إلى كون العديد من اللاجئين كانوا مجهولين بالمغرب ولم يكن لهم أي حضور سياسي. لذلك قال لي من الأحسن أن أقيم بعيدا عن هذا الخليط لدواع أمنية. فاكترى لي شقة صغيرة استوديو في إحدى العمارات يقطنها سكان جزائريون عاديون. ونصحني بأن أقلص تحركاتي تفاديا للالتقاء بجواسيس أوفقير.
بقيت على هذا الوضع إلى أن أخبرني السي إبراهيم التيزنيتي بان الفقيه البصري يوجد بالجزائر وأنه سيجعلني التقيه. كان ذلك ربما في شهر غشت 1967.
بالفعل التقيت الفقيه البصري بمنزل الحسين الخضار بحي سانت جين بوهران.حضر معنا بعض الاخوة الذين لم تكن لي بهم معرفة. أما الفقيه البصري فكان يعرفني جيدا منذ 1963 وذلك من خلال زياراته الحزبية إلى مدينة آسفي. تحدثنا عن الوضعية بصفة عامة، وعن مسألة أمن اللاجئين بالجزائر وقضايا أخرى. وقدم لنا تقريرا عن حرب الأيام الستة لأنه كان بالقاهرة ودمشق. كان تقريره مؤثرا، لازلت أذكر جيدا عندما وصف مطار مصر بأنه أصبح من جراء القصف الاسرائيلي عبارة عن مزبلة وأن الطائرات أصبحت كعلب سردين مضغوطة. وتحدث عن احتلال الجولان والضفة الغربية. ولم نتناول الوضع بالمغرب. افترقنا ولم يخبرني إن كنت سأذهب إلى الشرق أم لا...
بقيت هكذا إلى أن جاءني ذات صباح المرحوم السي إبراهيم التيزنتي. وكان يبتسم عندما أعطاني جواز سفر سوري وقال : السي عبد القادر تفضل. قلت له : آش هاذ الشي ؟ أجابني سنغادر هذه البلاد وسنحتفظ بذكرياتها. سألته : إلى أي اتجاه ؟ قال : باتجاه دمشق. وغدا سنسافر... وجد راسك.... كان ذلك في شهر غشت أو سبتمبر 1968.
معسكر الزبداني ومواجهة العدو الصهيوني
انطلقنا من مطار الجزائر حوالي الساعة التاسعة او العاشرة صباحا. مررنا عبر روما ثم بيروت، ووصلنا دمشق على الساعة الثانية عشر ليلا. نزلنا بفندق يسمى لاسامير . في صباح اليوم الموالي جاءنا الفقيه الفكيكي أطال الله في عمره رفقة ابراهيم التزنيتي، أخبرني بأنني سألتحق بمعسكر يسمى الزبداني يقع شمال دمشق في الطريق المؤدية إلى لبنان. ويبعد عن الحدود اللبنانية ب 40 كلم. ذهبت صحبة عبد الله المالكي الذي يشتغل حاليا بدار النشر المغربية ولاجئين آخرين.
استقبلتنا القيادة وكانت تتشكل من نقيب يسمى إبراهيم واليوتنون يدعى حسين والملازمين صلاح ومنصور، وضباط آخرين كانوا كلهم تابعين لحزب البعث باستثناء النقيب الذي كان درزيا غير متسيس، آنذاك كانت حكومة نورالدين أتاسي هي التي تحكم.
شرعنا في التداريب وكانت صعبة للغاية. وضاعف صعوباتها عامل الطقس الذي كان باردا جدا. تدربنا على جميع أنواع الأسلحة بما فيها الذبابات البرمائية. وقمنا بمجموعة من المناورات العسكرية. هذا المعسكر كان يتشكل من فدائيين لبنانيين ويمينيين وعراقييين وتونسيين وفلسطينيين وجزائريين ومغاربة ومن جميع البلدان العربية باستثناء دول الخليج التي لم يكن ولا فدائي واحد منها. وكانت هذه ظاهرة غريبة.
كانت فترة التدريب ممتعة جدا. ننظم خلالها ندوات ونعقد لقاءات مع مرشدين سياسيين تابعين لحزب البعث. كان معسكر الزبداني محاذ لجبل الشيخ المحتل من طرف العدو الصهيوني. والوضع به خطير وحساس جدا. خاصة من الناحية الاستراتيجية حيث أن موقع جبل الشيخ مقابل لدمشق العاصمة ويمكن قصفها مباشرة من هناك. كما أن طائرات العدو يمكنها بسهولة أن تلتف من جهة الجبل وتباغثنا. لذلك كانت المخابرات العسكرية السورية تسهر بيقظة وحذر على مراقبة المنطقة من أجل ضمان الأمن.
في التداريب نقوم بالتناوب بمهام ضباط الصف. فكنت أقود الفوج وأحصي عدد المرضى وعدد الجنود الذين هم في إجازة وعندما يأتي الضابط أعطيه التحية وأقدم له هذه المعطيات.
من الذكريات التي مازالت راسخة في ذهني إلى الآن عن هذه الفترة أننا في أحد الليالي وبعدما تناولناوجبة عشائنا وتناقشنا، نمنا. وحوالي الساعة الثانية ليلا أطلقت الفنابل المضيئة في السماء. ثم بدأ إطلاق النار عند بوابة المعسكر وقرب الشامبري. فاستيقظ المتدربون مذعورين بعضهم يحاول أن يرتدي حذاءه بصعوبة، وبعضهم حمل ملابسه وفر هاربا إلى الغابة المحاذية للمعسكر. والبعض الآخر كان يجري بارتباك في اتجاهات مختلفة. أما أنا فلا زلت أذكر أن أول شيء فكرت فيه هو أن أحمل حذائي، وذلك لأني كنت أعرف أن الحذاء مهم جدا. في الغد عندما سيحصوننا يجب أن نكون بأحذيتنا، وبالفعل في الصباح تجمعنا في الساحة أمام الضباط. أحصوا الجنود الذين عادوا إلى المعسكر والذين لم يعودوا. وبعدها بدأ الضباط يمزحون معنا وأخبرونا بأن ذلك الهجوم كان تجريبيا وأنه من تدبيرهم ويقصدون منه اختبار رد الفعل عندنا.
وهناك ذكرى ثانية، حيث أننا كنا في صباح أحد الأيام نتناول إفطارنا على الساعة الثامنة صباحا. وكان ضمن الخطط العسكرية الثابتة للاسرائليين أنهم لا ينفدون غارات بالليل، بل إن هجوماتهم تكون دائما ما بين الساعة السابعة والثامنة صباحا. ونحن في معسكر الزبداني لم يسبق لنا أن تلقينا أي هجمة أو غارة عسكرية، لكن في ذلك الصباح سمعنا دويا كبيرا، وبعدها ظهر لنا سرب من الطائرات الاسرائلية قريب منا. قصف أولا منطقة تسمى إمشالون توجد بها عين مائية وتبعد عنا بخمسين كلم. بعدها التف سرب طائرات العدو من جهة جبل الشيخ واتجه نحو معسكر الزبداني. وعندما وصلوا منطقة تسمى المثلث أقلع الطيران السوري واعترضهم ومنعهم من الوصول إلى المعسكر. وأرغمهم على الانسحاب في اتجاه لبنان. ونظرا للحمولة الثقيلة للطائرات الاسرائلية كان من الصعب عليهم تجاوز ارتفاع الجبل. مما اضطرهم إلى التخلص منها حيث أفرغوا كل حمولاتهم من القنابل قرب قرية توجد بمحاداة الجبل تسمى الباطرونا. كنا نشاهد الانفجارات من معسكرنا والنيران تتعالى من الجبل. في هذه اللحظة تأكدت من فعالية وقوة الطيران السوري.
بقينا في معسكر الزبداني طيلة فصل الخريف والشتاء، إلى أن جاءنا في شهر مارس السي إبراهيم التيزنيتي وأخبرنا بأننا سنغادر المعسكر. وبدأ يستدعي كل واحد منا ويعين له المكان الذي يجب الالتحاق به. وبالنسبة لي ومولاي عبد الله المالكي التحقنا بمنطقة توجد بالأردن تسمى الحراس. وكانت بها قواعد فلسطينية. من ضمنها قواعد تابعة لمنظمة فلسطينية تدعى : (الصاعقة) لها ولاء لسوريا. وهي القواعد التي انتظمنا فيها.
قضينا مدة قصيرة بحراس. وانتقلنا إلى مدينة : (إيربيد) التي توجد على الحدود السورية الأردنية مكثنا فيها يومين فقط. فقررت قيادة (الصاعقة) نقلنا إلى منطقة فلاحية بسوريا تسمى (مزيرين). كان التكتيك الذي يحكم قواعد الفدائيين هو الحركة الدائمة وعدم المكوث طويلا في مكان واحد. وذلك حتى لا يتمكن العدو الصهيوني من ضبط مواقعهم. لذلك غادرنا مزيرين بعد مدة قصيرة من تواجدنا بها. وانتقلنا إلى مكان آخر يسمى (قرية الشيخ مسكين). وما كدنا نستريح من التداريب حتى نقلونا إلى منطقة أخرى توجد بين (واد الركاد) الذي يقع بسوريا وعلى ضفته توجد مواقع إسرائلية للمراقبة، ونهر اليرموك الذي يوجد بالاردن والذي بدوره تراقب اسرائيل من ضفته الأخرى الأراضي العربية. كان موقعنا وسط هذا المثلث حيث يتقاطع واد الركاد بنهر اليرموك في مرتفع قرية (معرية) الآهلة بالسكان. وكان الجيش الشعبي السوري قد بنى بها : (بلوكوزات) تحت الأرض وذلك ليختبئ فيها الفدائيون إذا ما وقع هجوم من قبل العدو.
مكثنا بقرية معرية لمدة. إلى أن جاءنا قائد القطاع بمنظمة (الصاعقة). وأمرنا بتنظيم فرقة ستنفد هجوما على موقع اسرائيلي. وطلب منا أن ندلي باقتراحاتنا وتقديراتنا للوضع. أخبرناه بأننا إذا أردنا أن ننفد هذا الهجوم يجب أن نقطع النهر، وأن مواقع المراقبة الاسرائيلية توجد قبالتنا فنحن نشاهدهم وهم يشاهدوننا.
وطلبنا منه مهلة ثلاثة أيام للرصد، نقوم خلالها برصد تحركات العدو، والمسالك الطرقية المؤدية إلى نقاط مراقبته، وتوقيت استبدال الحراسة، وعدد الزمرة المتواجدة بنقاط المراقبة.. وافق قائد القطاع على اقتراحنا وأمر بتهيئ المدفعية.
صغنا خطة الهجوم على أساس تشكيل ثلاث فرق : فرقة الاقتحام التي ستتقدم إلى نقطة العدو، ثم فرقة الحماية اليمينية واليسارية، إضافة إلى فرقة الهندسة التي تكون في المقدمة وتسبق إلى الطريق التي يأتي منها العدو، حيث ستزرع فيها الألغام وتقطع الأسلاك الترابية الممتدة التي كان يقيمها العدو.
كانت هذه العملية بالنسبة لي ذكرى مؤلمة وفي نفس الوقت مبعث فخر. كنت متخصصا في رماية السلاح الثقيل وخاصة في (تاريوف) وهو سلاح روسي ثقيل يضم شريطا كبيرا يحتوي على 250 رصاصة. وبعدما شكلنا الفرق اسندت لي مهمة حماية الفرقة المكلفة بزرع الألغام وقطع الأسلاك. وكانت أصعب مهمة هي فرقة الاقتحام لأنها ستتقدم عند العدو. وستداهمه في مخابئه.
ألزمتنا القيادة بأن نقتل كل جنود العدو المتواجدين بالموقع. وأن نحضر رؤوسهم أو (الكالونات) أو على الأقل قبعاتهم.
حددنا توقيت العملية، فكانت الساعة الثامنة ليلا كموعد للانطلاق من القاعدة. وقررنا أن ننبطح أرضا بمجرد عبورنا النهر ووصولنا إلى الضفة الأخرى، واتفقنا مع فرقة المدفعية على موعد الرمي التمهيدي الذي يستهدف التكتيك العسكري، وأهميته تكمن في تدمير الهدف قبل تدخل فرقة الاقتحام.
ظهور أبو تخريب واتهامه بالتجسس
عبرنا النهر، وتقدمنا نحن أعضاء فرقة الهندسة أولا. قطعنا الأسلاك، وزرعنا الألغام في الطريق الذي تأتي منه النجدة للعدو. وأخذت الفرق الأخرى مواقعها، وبقينا ننتظر الساعة الثانية عشر موعد انطلاق الرمي التمهيدي. لكن، مع الأسف، وقع مشكل أربكنا، حيث أن المدفعية لم تضبط جيدا موقع الهدف. وعوض أن ترمي (بلوكوزات العدو)، أطلقت قدائفها على مقربة من فرقتنا. عندها أحسسنا بأن العملية فشلت وأن مصيرنا جميعا هو الهلاك.
بعد انتهاء رمي القدائف من طرف مدفعيتنا، بدأ العدو يطلق القنابل المضيئة في السماء. ومن لهم تجربة في التكتيك العسكري يعرفون التوقيت الذي سيرد فيه العدو على الهجوم وكان من المفروض أن الاسرائليين لن يردوا في حينه على هجوم المدفعية، لكن من المؤكد أنهم عندما حاولوا الاتصال هاتفيا بالقيادة ووجدوا الخط مقطوعا فهموا بأننا كنا بقربهم، وهو ما دفعهم إلى إطلاق القنابل المضيئة، فأصبحت المنطقة مضاءة كالنهار وبعد ذلك شرعوا في إطلاق النار بشكل عشوائي.
مبدئيا كنا نعرف أننا فشلنا في إنجاز العملية بفعل خطأ المدفعية، فأصبح هدفنا هو الانسحاب بأقل الخسائر، بقي جميع أعضاء الفرق منبطحا أرضا بدون حركة باستثناء فرقة الاقتحام التي كانت محاذية لمكان العدو الاسرائيلي مما اضطرها إلى الدخول في مواجهة مفتوحة معه. دام هذا الوضع نصف ساعة تقريبا. بعدها بدأ الانسحاب . بطبيعة الحال، في إطار التخطيط للعملية يتم تحديد نقطة الانطلاق ونقطة التجمع، وهي مكان مخالف لمكان الانطلاق يكون مقررا الالتقاء فيه بعد إنجاز العملية. ولا يمكننا العودة إلى نفس نقطة الانطلاق تفاديا لأي كمين قد ينصبه العدو فيها.
بدأنا نتجمع في النقطة المتفق عليها، بعدما قمنا بإحصاء عناصر الفرقة فتنبهنا لغياب رئيسها الذي كان فلسطينيا إسمه أبو تخريب. وكان هو الوحيد الذي لم يحضر إلى نقطة التجمع، فاعتقدنا أنه إما استشهد أو أسر لأنه كان في المقدمة بحكم كونه رئيس فرقة الاقتحام.
عدنا إلى القاعدة حوالي الساعة الثالثة أو الرابعة صباحا، استرحنا قليلا، في الصباح الباكر استيقظنا لأننا كنا نعرف وفق المنطق العسكري أن العدو سيرد بغارة جوية. وسيقصف القاعدة ما بين السابعة والثامنة صباحا. لكن للعدو كذلك حساباته الخاصة، حيث إنه كان يعرف أننا نترقب رد فعله في الصباح، مادمنا قد هاجمنهاه في الليل، لذلك عمل على إرجاء غارته حتى نشعر بالأمان ونعتقد انه لن يهاجمنا، فتكون ضربته قاضية. لم ينفد هجومه في الصباح ففهمنا هذا وعرفنا أنه قد يهاجمنا في الظهر أو في الليل أو في الغد، وذلك حتى يباغثنا.
في الساعة العاشرة صباحا، جاء قائد القطاع ممتطيا سيارة جيب. هنأنا على العملية وتأسف لعدم حضور أبو تخريب. لكنه كان جد متخوفا من احتمال أسره من طرف العدو. فذلك يمثل خطرا كبيرا على الفدائيين، أعطانا القائد تعليمات بالتزام اليقظة والحذر والمراقبة بواسطة الرصد الدقيق لكل تحركات العدو، فحفرنا في القاعدة حفرا للمنظارات. صوبنا عدساتها اتجاه العدو. وبدأت المراقبة المستمرة، كان على كل مراقب أن يقدم تقريرا حول ما شاهده على مدى وقت معين. لم تكن هناك معطيات مؤكدة ماعدا ضبط نقط سوداء قرب البلوكوز...
في المساء أمرنا قائد القطاع بأن نستعد لمغادرة القاعدة جميعا باستثناء فرقة الرصد وعناصر حراسة خفيفة. كانت القاعدة مشكلة من الخيام فوق الأرض التي كنا نستعملها عندما لا يكون هناك أي هجوم، و البلكوزات تحت الأرض نلجأ إليها إذا ما كان هناك تهديد بغارة من طرف العدو الصهيوني.
انتقلنا إلى قاعدة فدائية أخرى توجد شمال قرية تسمى قرية (عبدين) بعيدة عن السكان وتقع في منطقة مشجرة. أي أنها مموهة بالنسبة للعدو، خلدنا للراحة فيها. بعد يومين ظهر أبو تخريب...
قطع أبو تخريب الطريق الفاصل بين قاعدة العدو والنهر زاحفا على بطنه. إلى أن سقط في النهر الذي كنا متجمعين بمحاذاته عند انطلاق العملية العسكرية التي قمنا بها. وجده راع هناك مطروحا على الأرض فأبلغ به القيادة العسكرية التي نقلته إلى مستشفى درعة. حيث خضع لعناية طبية مركزة إلى أن شفي نهائيا، وسلموه بعدها للمخابرات قصد التحقيق معه.
كانت ظروف استنطاقه قاسية جدا حسب ما حكى لي بعد عودته حيث تعرض لأساليب مختلفة من التعذيب الجسدي من بينها فقط الضرب وتشريب الملح.. وكان ذلك بسبب شك المخابرات العسكرية في مسألة اختفائه لهذه المدة وظهوره بعدها، إذ لم يكن مجروحا ولا مصابا لذلك كانت الشكوك تصب في إمكانية اعتقاله من طرف قوات العدو وإخضاعه لعملية غسل دماغ وتجنيده كجسوس ضدنا. لكن التحقيق انتهى بتبرئته فعاد ليلتحق بنا في المعسكر.
بقينا في القاعدة نمارس التداريب العسكرية العادية والتمارين الرياضية ونقرأ الكتب التي كان يزودنا بها المرشدون السياسيون الذين يزوروننا.
استعمل العدو كل الأساليب لاحباط وتحطيم معنويات الفدائيين. حيث كانت في حوزتنا أجهزة راديو ترانزيستور. نلتقط من خلالها إداعة العدو الاسرائيلي، وكان من أخطر معلقيها شخص يدعى أبولبن. الذي كان يطلق سموما من خلال خطابه الذي يوجهه إلى الفدائيين. ويعرف جيدا أن أعمارهم تتراوح ما بين 18 و 36 سنة، لذلك يعزف على وترة طموح الشباب والمستقبل والعيش في رفاهية... يخاطبهم بهذه النغمة : أنتم شباب والحياة تفتح أبوابها كلها أمامكم وأنتم تريدون تدميرها والتضحية بها في مواجهة جيش قوي لا سبيل أبدا إلى هزمه... وعندما ينهي خطابه هذا، كان يشغل إحدى أغاني أم كلثوم، إما الأطلال، أو أنت عمري أو أي أغنية أخرى ذات الشحنة العاطفية لكي يحرك وجدان الفدائيين ويبعث فيهم الحنين إلى عائلتهم. لأن منهم من ترك زوجته أو أبناءه أو أمه.. وبطبيعة الحال إذا لم يكن الإنسان يتوفر على مناعة داخلية لمقاومة هذا الهجوم النفسي الذي يتغيا الاحباط وتحطيم المعنويات، فإنه سيصاب باليأس ويفتر حماسه وينهار...
في أحد الأيام جاءنا قائد قطاع درعة إلى القاعدة، تجمعنا حوله في شكل نصف دائرة. جلس على الأرض مثلنا. لأنه في صفوف الفدائيين لا توجد فروقات وامتيازات. الجميع يجلس على الأرض ويأكل بيده كيفما كانت مسؤوليته ورتبته. بالفعل كانت هناك فروقات من حيث مسؤوليات التسيير والضبط، لكن على مستوى المعاملة والأكل واللباس لم تكن هناك أي تراتبية. أخبرنا قائد القطاع بأنه اتخذ قرار تنفيذ أكبر عملية فدائية ستهز أركان العدو في المنطقة. وقال بالحرف : إن قائد القطاع عبد ربه قرر المشاركة بنفسه في تنفيذ هذه العملية.. حينها ازداد حماس الفدائيين.
كان هدف العملية هو مستعمرة تسمى (جبين) تمثل استفزازا كبيرا بالنسبة للسوريين. لا يفصلنا عنها سوى النهر إذ كانت تقع على ضفته الأخرى. ونشاهد كل ما يجري فيها. استعملتها اسرائيل كأداة للتحدي واستفزاز سوريا. فقامت بتجهيزها بالإنارة والحدائق. واستخدمت الجرارات لحرث الأراضي. كما لو كان العدو يعيش حياة مدنية هانية بهذه المستعمرة ولا يوجد من يقلق راحته ولا من بإمكانه إزعاجه.
قال قائد القطاع بأن خطة الهجوم هذه المرة لن تعتمد أسلوب الاقتحام. بل سنستعمل الهاوونات من عيار 81 و 120. وسنشكل فرقة مجهزة بسلاح يدعى rbg يحمل على الكتف ومنه يطلق القدائف. وستعزز هذه الفرقة من الناحية الهندسية بعناصر مختصة في الرمي و ستكون بمحاذاة الهدف لوحدها ككموندو انتحاري. وأخبرنا قائد القطاع بأنه سيكون ضمن هذه الفرقة، أما الباقي فسيبقى مع المدفعية..
أحضرنا الهاوونات، عينا موقع الهدف على الخريطة. حددنا خطة الرمي، وقررنا عدم اعتماد تكتيك الرمي التمهيدي وإنما الرمي الإحاطي. ويختلف الأول عن الثاني في كون الرمي التمهيدي يقصف الهدف مباشرة، أما الرمي الإحاطي فيقصف الجوانب المحيطة بالهدف أولا والتي تتضمن الطرق والمسالك المؤدية إليه، وبعدها يبدأ في قصف الهدف.
الساعة المتفق عليها لتنفيذ العملية هي العاشرة ليلا، أعتقد أن ذلك كان في شهر شتنبر 1969. أذكر أنه في تلك الفترة بدأ الجو يبرد قليلا، كانت مهمتي في هذه العملية هي تطعيم هاوون من عيار 120. نزلت إلى الحفرة وأخذت أضع عند كل طلقة قذيفة يبلغ وزنها 17 كلغ، في الهاوون.
انطلقت الفرقة التي يقودها قائد القطاع وعندما وصلت العاشرة ليلا بدأت فرقة الرمي الإحاطي في القصف لمدة نصف ساعة تقريبا وهو وقت طويل نظرا لكبر المستعمرة. إلى أن انطفأت جميع أضوائها وعمت حالة ارتباك داخلها.
محمد المبارك البومسهولي
يتبع


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.