خصصت أسبوعية (Telquel) ملف عددها للأسبوع الأول من شهر رمضان المعظم لموضوع طالما كان محورا تدور حوله نقاشات نخب مغربية منذ مدة طويلة، ألا وهو علاقة الدين بالدولة. وهل يمكننا نحن المسلمون أن نفصل بينهما كما فصل الغرب بين الدولة والكنيسة. الملف يحمل عنوانا مثيرا، إن لم نقل مستفزا: "أي إسلام نريد؟". وكأن هناك إسلامان يمكن أن نختار من بينها أيها نريد. وليس إسلاما واحدا علينا أن نلتزم بتعاليمه حتى نستحق الانتماء إليه، أو أن نتركه جملة وتفصيلا. ونعلن صراحة موقفنا منه. أما موقفه في هذه الحالة فمعروف. استهل الملف بمقال لإدريس كسيكس يحاول من خلاله أن يحلل واقع علاقة المجتمع والدولة المغربيين بالإسلام، من خلال الممارسة اليومية للحياة. هل هي كما يدعو إليها الإسلام، أم هي غير ذلك. ويلاحظ الكاتب منذ البداية بأن شهر رمضان يغير من مظاهر الحياة الاجتماعية للمغاربة لدرجة أن الأجنبي لو زار المغرب لأول مرة في رمضان فإنه سوف يظن أن المجتمع المغربي مجتمع جد متدين. ولكن الواقع ليس كذلك، فأغلب الذين يصومون، إنما ينخرطون في نسق حياة عام. أو يتظاهرون بالصيام. وهناك كذلك الذين يصومون فعلا. إن التوافق على الفراغ الذي يعم الشوارع قبل المغرب. هو توافق خادع في الحقيقة، وأغلب من يلتزمون بذلك إنما يفعلون حسب ما يذهب إليه الكاتب انضباطا للقوة، أكثر مما هو انضباط للإيمان والاقتناع. والدليل على ذلك يقول الكاتب، هو أن اليوم الرمضاني الورع سرعان ما يليه ليل صاخب واحتفالي تمتزج فيه الأجساد والألوان لدرجة أن الانتشار الليلي في الشوارع يتحول أحيانا إلى تهتك مبالغ فيه. إن مغرب الوجهين هذا هو بدون نقاش يقول الكاتب مغرب مثير. ويذهب الكاتب إلى طرح سؤال آخر. يتعلق بقدسية شهر رمضان التي يجب حسب رأيه أن تدعونا إلى التفكير في مكانة الإسلام في مجتمعنا. وفي تعسف، يقرر أن المغرب أصبح محاصرا بين ناري العولمة والإرهاب؛ فالمغرب الذي ظل دائما يردد اختياره للانفتاح والحداثة، وذلك من خلال الهدف المعلن لاستقبال عشرة ملايين سائح سنة ,2010 ومن خلال اتفاقات التبادل الحر مع كل من أوروبا وأمريكا، يجد نفسه أكثر فأكثر استعدادا لاستقبال خطاب أصولي راديكالي. ويرى الكاتب أن المغرب الرسمي يمارس ازدواجية في التعامل. فهو من جهة وخصوصا بعد 16 ماي أخذ يبحث عن طريقة لشجب وإدانة الاستعمال المتعسف للإيديولوجية الدينية في العمل السياسي من خلال الضغط على حزب العدالة والتنمية. ومن خلال تحريك مشروع مدونة للأسرة مضمونها مستلهم في عمقه من التراث الإسلامي، ولكن مقاصدها ومآلاتها النهائية هي حداثية بشكل صارم، تسعى إلى إحداث شرخ داخل مجتمعنا الأبوي. ويستشهد الكاتب بأقوال بعض المفكرين مثل المؤرخ مصطفى زكري الذي يقول: «في كل مرة كانت تقوم فيها محاولات تجاوزات من جهة تقابلها ردود فعل للمحافظين أو الأصوليين، فإن النظام ومن يمثلون الدين (العلماء) كانوا يتدبرون الموقف لجعل تصور إسلامي منسجم مع الظروف الزمنية، هو الذي يسود» وهو ما يعتبره هذا الخبير تكيفا مع الزمن، كان يتم في الغالب دون ضغوط كبيرة. أما اليوم فإنه يعتبر أن الأمر: «لم يعد يتعلق بتجاوزات ولكن بتبعية، فالمغرب أصبح ضعيفا وبعيدا عن أن يكون مستقلا في قراراته». والنتيجة هي أن هامش المناورة لديه فيما يخص موقع الإسلام ومكانته. أصبح هامشا ضيقا. ولكن بما أن المأزق يتمثل في ضرورة التحديث دون توهان في فقدان الهوية الثقافية يفسر محمد الطوزي فإن المغرب الرسمي قد اختار أن: «ينخرط في العالم محافظا على تميزه الخصوصي، ولكن كذلك دون انكفاء على الذات». وهذا ما يعطي في نهاية المطاف من طرف الدولة تقوية لدور الإسلام كعامل يعطي الشرعية للسلطة الملكية. ولكن في المقابل، كما يفسر وزير الأوقاف أحمد التوفيق في الدرس الحسني الأول «إسلام لا يدوس على صلاحيات الدولة العصرية». وينتقي الكاتب من درس الوزير ما يلي: «هذا يمكننا من أن نؤسس لمبدإ الحرية، على أساس أن لا إكراه في الدين، وأن نوسع من دائرة الحرية الفردية». هذا يقول كاتب تيل كيل له اسم واحد العلمنة (sécularisation) صحيح أنها آخذة في التدفق بقوة ولكن بقدر. ويتساءل صاحب المقال عن رأي العلماء في كل هذا؟ ويجيب بنفسه: «إنهم على ما يبدو قد أخذوا على حين غفلة، وفوجئوا بسير الأمور. إن هذا يدعوهم إلى الاكتفاء بدور الموجه، ويمكنهم من عرض اقتراحاتهم على أنظار أمير المؤمنين. (بمعنى أنه لم يعد لهم، وبالتالي لم يعد من خلالهم للإسلام، دور المرجع). ولكن المشكل الذي يثيره محمد الطوزي هو أنهم إنما «يمتثلون ولاء وليس اقتناعا». وهذا الأمر حسب الكاتب يظهر أي إسلام تريد الدولة المغربية أو على الأقل الإسلام الذي تسمح لها الإكراهات الداخلية والخارجية، بوضعه موضع التطبيق. إذن فالدولة حسب ما تذهب إليه تيل كيل، في تقديم محللها قد اختارت الفصل تدريجيا. ولكن حتى في هذا الاختيار الذي لم يتم إلا في أماني بعض نخبنا، فإن هناك حسب قول كسيكس تخوفات على مآل تدبير هذه العصرنة والتحديث الذي هو في بداياته. ويستشهد هنا بقول المفكر محمد الصغير جنجار الذي يقول: «إن عجلة التحديث قد انطلقت في دورانها، ولكن يجب أن نعلم أنه بقدر درجة الحداثة التي ندخلها وبقدر محاربة الأمية، التي ننجزها، بقدر ما يبحث أفراد الشعب عن استرجاع تراثهم الديني وبقدر ما يصبحون أكثر تشبثا في هذا المجال». ويضيف السيد جنجار محذرا: «لقد عرفت إيران قيام ثورتها في اللحظة التي كانت تنتهي فيها من إتمام عملية التحديث والعصرنة». ويخلص كاتب المقال، بعد إثارة رهانات العولمة إلى وجوب أن يقوم الاقتصاد بسد ثغرات الفوارق الاجتماعية، ووجوب انخراط العديد من الأطراف في العمل الاجتماعي حتى يصبح الشأن الروحي والديني شأنا فرديا أكثر مما هو جماعي وحتى تتجذر العلمنة رويدا رويدا داخل الواقع. المغرب.. مختبر لإسلام عصري؟ ويتضمن ملف تيل كيل مقالا حول المدونة الجديدة للأسرة بقلم يونس العلمي الذي استهل بحثه بنقل تعليق لأحد الشباب عن المدونة الجديدة: «أنا لن أتزوج أبدا! وانتهى الأمر. فأنا ليست لدي الرغبة في أن أرى زوجتي بمقدورها أن تدخل الرجال إلى البيت دون أن يكون لي الحق في فعل شيء... ويعلق الكاتب على هذا القول بأنه يؤشر على الانزعاج الخفي الذي يحس به الرجال أمام المدونة الجديدة». ويرى الكاتب أن مشكلة المدونة الجديدة تكمن في التطبيق . إذ أن هناك مشروعين مجتمعيين يختلفان تمام الاختلاف؛ بل هما يوجدان وجها لوجه. مشروع رجعي ومذل يتشبث بالمدونة القديمة، في مواجهة مشروع مجتمعي يدعو إلى التوازن وإلى الاحترام (احترام المرأة واحترام الزوجين...) والمتمثل في المدونة الجديدة. إننا نمر بفضل النص الجديد من أبوية شرعية إلى أبوية ثقافية سوف تتلاشى هي الأخرى مع الزمن كما تلاشت في دول أخرى في شمال البحر الأبيض المتوسط. ويعزو الكاتب تأخر حدوث هذه الثورة إلى غياب الشجاعة أمام الشأن الديني لدى السياسيين، فكان لزاما أن يقوم النظام بنوع من الإصلاح الديني عن طريق تجفيف خطاب العلماء من جيل علال الفاسي، حتى يمكن إعطاء دفعة إيجابية نحو مغرب حداثي. ويرى الكاتب أن الأمور تحولت بسرعة من وضع مسدود لم يستطع تجاوز تحفظات المتدينين إلى هذا النص الحاسم في جرأته، إلى أنه لم يكن ممكنا فتح باب الانتقاد للوصول إلى إسلام عصري مع الاستمرار في النظر دائما في إطار الشريعة والسنة، وإلى أن أحداث 16 ماي قد أثرت سلبا على موقف الحركات الإسلامية وأسكتتها تماما. بل إن حزب العدالة والتنمية الذي كان يحمل خطابا مؤسلما أخذ ينساب داخل المجتمع المغربي أصبح فيما يبدو وكأنه قد تجاوزه الزمن. واختار النظام أن يكون الحامل الوحيد للخطاب الإسلامي؛ ليس فقط للاستفادة من الأصالة من أجل الوصول إلى الحداثة، ولكن كذلك لتنويع مصادر هذه الأصالة. إن مشروع المدونة الجديدة يقول الكاتب يضع الملك أمير المؤمنين في وضعية العالم الأول للبلاد، وهي وضعية يضيف الكاتب تحتاج، في زمن يشهد مدا إسلاميا قويا إلى دعم القوى الغربية الصديقة، ذلك يوضح صاحب المقال أن السبب الآخر الذي يفسر الإسراع بهذا الإصلاح يجد مبرره في الضغوطات الدولية. ففي سنة 2002 كانت المتخصصة في التواصل الأمريكية شارلوت بيرز. قد كلفت من طرف الإدارة الأمريكية بمهمة العمل على فهم أسباب كراهية العالم العربي لأمريكا. وكانت زيارتها الرسمية الأولى إلى الرباط. وانصبت محاوراتها مع المسؤولين المغاربة على التربية وعلى مضمون النظام التعليمي المغربي. وفي هذا الإطار يمكننا أن نحلل التغييرات التي حدثت بعد ذلك في مناهجنا المدرسية. وقد دعت العرب جميعا قبل أن تستقيل ويتم تعويضها بالسفيرة السابقة في المغرب ماركريت تاتويلر إلى التفكير في إصلاح الخطاب الديني الذي يدرس في المناهج التعليمية. وسوف تأتي الصفعة الثانية من فرنسا على يد وزير الداخلية نيكولا ساركوزي عندما أطلق النار على الاتفاقية المبرمة بين المغرب وفرنسا سنة 1971 حول المدونة الشخصية للمغاربة المقيمين في فرنسا. بل إنه هدد بإلغاء هذه الاتفاقية إذا لم يتم إدخال إصلاحات عليها لجعلها تنسجم مع قرن الأنوار على حد قوله. فهل كان من قبيل الصدفة أن يتزامن الخطاب الملكي في افتتاح البرلمان الذي أعلن فيه عن الإصلاحات مع زيارة الرئيس الفرنسي جاك شيراك؟ وفي الوقت الذي تعلن فيه كل من الجزائر ومصر عن قرب إصلاح مدوناتها الشخصية هل إن المغرب في طريقه ليصبح مختبرا لإسلام حداثي مدعوم من طرف الغرب؟ أي مثالا للعالم العربي الذي سيصبح استقراره مطلبا إجباريا للولايات المتحدةوفرنسا؟ إبراهيم الخشباني