الرأي المأخوذ والرأي المنبوذ إذا كان تعاملنا مع الوحي واستعمالنا له ولنوره لابد فيه من الرأي، وكما قال الشاطبي، فإن "كل واحد من الضربين مفتقر إلى الآخر، لأن الاستدلال بالمنقولات لابد فيه من النظر، كما أن الرأي لا يعتبر شرعا إلا إذا استند إلى النقل" (الموافقات 3/41) فما هو هذا الرأي الذي تصل قيمته ووظيفته إلى هذه الدرجة؟ أولا: الرأي الذي يتحدث عنه العلماء ويعتمدونه في المجال الشرعي، هو الرأي الذي تشبع بمضامين الوحي واستنار بأنواره، من عقائد ومقاصد وأحكام وقواعد. وهو الذي يدمن النظر في نصوصه والبحث عن فصوصه... وليس هذا من باب التحكم والمصادرة على أصحاب الرأي وحرية الرأي. وإنما هو من باب البدهيات العلمية والمسلمات العقلية. فهي التي تقضي بأن من يخوض ويجتهد في مجال ما فيجب أن يكون خبيرا به راسخا فيه وليس متطفلا عليه. وإذا كان هذا بدهيا ومسلما في كافة العلوم والمجالات، فهو في أمر الدين آكد وأوجب. فمن لم تكن له بالدين ونصوصه خبرة ولا بصيرة، ولا رواية ولا دراية، ولا عدة ولا آلية، ثم قام يفسر ويعلل ويفتي ويؤول، فهو إلى أهل الشعوذة أقرب منه إلى أهل العلم والرأي. وقديما شنع ابن الجوزي على بعض الفقهاء وهم أبناء الشرع ومنه وإليه واعتبر أن انشغالهم وإغراقهم في حفظ الفروع الفقهية والتمادي في الإفتاء بها والتخريج عليها، مع الجهل بنصوص الشرع أو الغفلة عنها، هو نوع من تلبيس إبليس، وسطر رحمه الله هذه القاعدة العلمية الذهبية الفقه استخراج من الكتاب والسنة فكيف يستخرج أي الفقيه من شيء لا يعرفه" (تلبيس إبليس ص 114). ثانيا: الرأي المقصود، والرأي المأخوذ، إنما هو الرأي الذي يتسلح بمناهج البحث والدراسة وقواعد العلم والنظر، ومعلوم أن القواعد المنهجية، منها ماهو مشترك بين جميع العلوم، ومنها ماهو مشترك بين بعضها، ومنها ماهو خاص بكل علم وبكل مجال معرفي. فهي مثل وسائل الإثبات القانوني القضائي. فهناك وسائل وقواعد تصلح للإثبات (أو النفي) في جميع المجالات وجميع القضايا، من جنائية ومدنية وتجارية وأسرية، ووطنية ودولية... وهناك ماهو صالح ومعتمد في بعضها دون سائرها. وفي جميع الحالات لا يسع قاضيا أن يصدر حكما ولا أن ينظر في قضية أصلا، دون قواعد ومبادئ معتمدة، وهكذا في كل رأي وكل حكم مضمن إثباتا أو نفيا أو تحسينا أو تقبيحا أو ترجيحا. فالرأي الذي لا يستند إلى مبادئ وقواعد، ولا يتعزر بوسائل الإثبات والترجيح، إنما هو مذهب فرعون الذي حكى الله تعالى عنه أنه قال (ما أريكم إلا ما أرى) فهو صاحب رأي، ولكنه رأي فرعوني لا يحتاج إلى دليل ولا يتوقف على إثبات. فكل من يرى رأيا لا لشيء إلا لأنه هكذا يرى، وهكذا يريد، فهو على مذهب فرعون، ولو كان مفكرا أو فيلسوفا أو مجددا أو مجتهدا، وهو كما قال تعالى: (وكذلك زين لفرعون سوء عمله وصد عن السبيل). فكثير من الناس زينت لهم أمور، وتعلقت بها نفوسهم، وركنت إليها أمزجتهم، فصاروا يتبنونها ويجندون لها ثقافتهم وعقولهم، يعتبرونها اجتهادا وفكرا ومذهبا وعلما وحقا. والأمثلة تتزاحم في ذهني بالعشرات، ولو استرسلت في التفكير فيها لأصبحت بالمئات... وأقرب مثال إلى ذهني وإلى ساعتي هذه، هو يوم 10 أكتوبر الذي جعله بعض الناس يوما عالميا لإلغاء عقوبة الإعدام، وقد قرأت وسمعت في صحفنا وتلفزتنا لهؤلاء المدافعين عن حق الحياة، المناهضين لعقوبة الإعدام، لأنها تسلب الحق في الحياة! فيا عجبا ويا أسفا ويا حسرة على العباد، كيف تقلب الحقائق وتزين الأباطيل! كيف أن أهم إجراء وأهم تشريع أجمعت عليه شرائع الأرض والسماء من أجل حفظ الحق في الحياة وتأمينه وتحصينه، وهو عقوبة الإعلام، لم يبق له من معنى إلا أنه يسلب الحق في الحياة. فيجب محاربته وإلغاؤه وتخصيص يوم عالمي وأيام غير عالمية لمحاربته وتضليل الناس في شأنه. إذا بقي لهؤلاء المفكرين والمثقفين الإنسانيين والحقوقيين الغيورين، إذا بقي لهم شيء من العقل والعلم والمنطق، فأنا أسألهم سؤالا واحدا (من بين أسئلة أخرى مثله) وهو:حينما يتم إلغاء عقوبة الإعدام، في أي بلد، أو في العالم، هل تكون النتيجة العامة هي زيادة حفظ الأرواح أم زيادة إزهاق الأرواح؟ إذا كان ما تنادون به يقلص إزهاق الأرواح ويحفظ الحياة لعدد إضافي من الناس فقد أحسنتم وأنصفتم ونعم الرأي ما رأيتم، وكلنا معكم. وإذا كان العكس هو الصحيح، فإنما أنتم تناضلون لفائدة الإجرام والمجرمين، وضد الحياة وضد الحق في الحياة، وبئس الرأي ما ترون وبئس العمل ما تصنعون. تصحيح وتوضيح تلقيت من الأخ الفاضل الدكتور عبد العزيز بوبكري رسالة تضمنت بعض الملاحظات حول الحلقات الماضية من أوراق التجديد، وأود بعد شكره والتنويه بمبادرته، أن أصحح وأوضح مايلي: 1 استشهادي (في الحلقة 3) بقوله تعالى (يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا) باعتبار أن الضمير يعود على القرآن الكريم كان خطأ. والصواب هو ما نبهني عليه الدكتور بوبكري، وهو أن الضمير يعود في أظهر الأقوال وأصحها على المثل المضروب في القرآن لا على القرآن نفسه. 2 المعنى الذي قصدته من الاستشهاد يبقى قائما وصحيحا، وهو أن بعض الناظرين في القرآن بعيون مريضة وبعقول معتلة وطرق مختلة قد يجعلون منه سبب ضلالهم، ومصدرا للاختصام بدل الاعتصام. وهذا المغزى يمكن اقتباسه أيضا من قوله تعالى في سورة التوبة (وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيمانا فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا وهم يستبشرون وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلى رجسهم...). 3 الحلقات التي كتبتها تحت عنوان الحركة الإسلامية والمسألة العلمية، كنت أريدها في البداية حلقة أو حلقتين، أبين فيها أو فيهما مدى حاجة الحركة الإسلامية إلى العلم وإلى العناية بالمسألة العلمية، لكن ما إن شرعت في الكتابة حتى تشعبت أمامي الإشكالات والقضايا. ووجدت أن المسألة العلمية لا تخص الحركة الإسلامية وحدها، ولا يمكن عزل الحركة الإسلامية في هذا الموضوع عن غيرها من المشتغلين في العمل العلمي، وفي الحقل الديني والدعوي عموما. ولذلك سرت ومازلت أسير وفق متطلبات الموضوع وتداعياته، أكثر من السير وفق العنوان الأولي، وإن كانت القضايا التطبيقية التي ستعقب هذه المقدمات النظرية، ستكون إن شاء الله تعالى وبعونه أقرب إلى واقع الحركة الإسلامية وإشكالاتها. والله المستعان وعليه التكلان أحمد الريسوني