جدلية الوحي والرأي منذ القديم وإلى اليوم يمتلئ تراثنا العلمي والفكري بمناقشات نظرية وتطبيقية حول المسألة المعبر عنها بمصطلحات متعددة من قبيل: النقل والعقل، الرواية والدراية، الأثر والنظر، النص والمصلحة. هذه الثنائيات تتداخل وتتقارب أحيانا حتى توشك أن تتطابق، وتختلف وتتباعد أحيانا أخرى، ولكنها في العمق تحوم حول شيء جوهري وأساسي مشترك بينها، وهو موقع الإنسان وقواه الإدراكية فيما أنزله الله له من رسالة وكتاب ومن شريعة وخطاب، وكيف ذلك وما حدوده؟ وقد اخترت أن أعبر عن هذه المسألة بما هو مذكور في العنوان أعلاه دون غيره من التعابير المستعملة وحتى الشهيرة منها، مثل (العقل والنقل)، لما وجدته في هذا الاختيار من دقة ووضوح ونفاذ مباشر إلى جوهر القضية. فالمسألة إذن هي مسألة علاقة الوحي بالرأي، ومنزلة الرأي من الوحي، وهل الوحي يغني عن الرأي، وهل الرأي يستغني عن الوحي؟ وإذا كان لابد منها معا فكيف يتعاملان؟ فأما أنه لابد منهما معا في كافة شؤون الحياة الدينية والدنيوية فأمر لا يمكن تصور غيره إلا بكثير من التعسف والمكابرة، ويشبه بعض العلماء هذا التلازم بين الوحي والرأي (أو بين النقل والعقل حسب العبارة الأشهر) بتلازم العين والنور وضرورتهما معا للإبصار. فالعين مهما كانت سليمة تامة النظر، فلن ترى شيئا بدون نور. وكذلك النور مهما كان ساطعا قويا، فلن يجدي شيئا ولن ينتفع به أحد دون عيون مبصرة. والعين ترى قليلا أو كثيرا، رؤية جيدة أو رديئة، بقدر سلامتها من جهة وبقدر درجة النور الذي تتحرك في نطاقه وتعتمد عليه، وكذلك النور لا يكون نفعه وجدواه إلا بقدر ما وجد من عيون سليمة صافية. ومن طرائف الأمثلة التي تحضرني في هذا السياق ما سمعته منذ سنين طويلة من أستاذنا الدكتور عبد السلام الهراس حفظه الله حينما قال لي، ونحن نتحدث فيما يعانيه بعض الدعاة والجماعات من نزاعات وخصومات، "إنهم يقرؤون القرآن بعيون مريضة معمشة فيبدو لهم قوله تعالى {واعتصموا}: واختصموا". وهكذا فعند فقدان العيون المبصرة السليمة يصبح القرآن الكريم مصدرا للاختصام بدل الاعتصام. ومن هنا لا يستغرب أن يقول الله تعالى عن كتابه العزيز {يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا} بينما هو في الأصل محض الهداية {إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم}. فالانتفاع بالوحي لا يكون إلا بالرأي السديد المسدد، والرأي لا يتحقق له السداد والأمان إلا بالوحي، وبنور الوحي وهذا ما عبر عنه الإمام الشاطبي بقوله (الأدلة الشرعية ضربان: أحدهما ما يرجع إلى النقل المحض، والثاني ما يرجع إلى الرأي المحض، وهذه القسمة هي بالنسبة إلى أصول الأدلة، وإلا فكل واحد من الضربين مفتقر إلى الآخر، لأن الاستدلال بالمنقولات لابد فيه من النظر، كما أن الرأي لا يعتبر شرعا إلا إذا استند إلى النقل) (الموافقات 3/41). وقبل الشاطبي نجد الإمام الغزالي يقول >وأشرف العلوم ما ازدوج فيه العقل والسمع واصطحب فيه الرأي والشرع... فلا هو تصرف بمحض العقول بحيث لا يتلقاه الشرع بالقبول، ولا هو مبني على محض التقليد الذي لا يشهد له العقل بالتأييد والتسديد" (المستصفى ص 4). والحقيقة أن ما نقلته عن الإمامين الغزالي والشاطبي إنما هو تعبير من حيث المبدأ عما عليه جماهير العلماء من مختلف المذاهب وإنما يبقى التفاوت والخلاف في درجة إعمال الرأي مع الوحي وحدود ذلك وشروطه. وقد شذ عن هذا التوجه العلمي العام التيار الظاهري الذي حاول إلغاء أي دور للرأي والنظر والتدبر في فهم نصوص الدين والبناء عليها وعلى نهجها. وإنما قلت التيار الظاهري دون المذهب الظاهري لأن المذهب والانتساب الرسمي إليه قد انقرض، وحتى حينما كان له وجود معلن وصريح، لم يكن يتجاوز بقعة هنا وبقعة هناك، سواء في الزمان أو في المكان، لكن النزعة الظاهرية وجدت قبل داود الظاهري (ق 3ه) وبعد ابن حزم الظاهري (ق 5ه)، بل توجد وتنتعش في زمننا هذا، وإن لم يعترف أصحابها بأنهم ظاهريون، ومنهم دعاة وزعماء في الدعوة والجهاد. العلامة ابن حزم رحمه الله وهو الإمام الأكبر للمذهب الظاهري عرَّف الرأي بقوله "والرأي ما تخيلته النفس صوابا دون برهان" وبعده عرَّف الاستحسان وهو ضرب من ضروب إعمال الرأي بأنه "هو ما اشتهته النفس ووافقها، كان خطأ أو صوابا" (الإحكام 1/45). وإذا كان تعريف ابن حزم للرأي والاستحسان، لا علاقة له بتاتا بالرأي الذي يتحدث عنه ويعتمد عليه جمهور العلماء، فإنه على الأقل يكشف جانبا من الاستعمالات والنزعات التي قد يسميها أصحابها رأيا وفكرا وعقلا! وإذا كان العلماء قد ميزوا بين الرأي المحمود والرأي المذموم، وبين الرأي المأخوذ والرأي المنبوذ، فإن جوهر القضية يصبح هو هذا التمييز ومعاييره، فإلى الحلقة المقبلة بحول الله تعالى. أحمد الريسوني