إن استقراء تجارب العنف المسلح على المستوى العالمي التي خاضتها منظمات سياسية متنوعة النزعات العقائدية والاتجاهات السياسية، وتجارب العنف المسلح التي خاضتها الحركة الاسلامية المعاصرة ضد الانظمة الحاكمة، وضد الاحزاب المنافسة (علمانية وإسلامية) وضد المجتمع الاهلي، يظهر بما لا يقبل الجدل ان العنف المسلح وسيلة فاشلة في العمل السياسي، سواء في ذلك باعتبارها وسيلة للتعبير عن الرأي السياسي والحصول على شرعية الوجود في المجتمع، او باعتبارها وسيلة للانتصار السياسي على الخصم. الامثلة على ما ذكرنا في الحركة الاسلامية وغيرها كثيرة. واذا استعرضنا تجارب العنف المسلح التي خاضتها الحركة الاسلامية في العقود الاخيرة، ضد الآخرين وضد بعضها البعض فسنرى ان العنف المسلح لم يؤد الى أي انتصار سياسي حقيقي. في كل هذه التجارب فشل العنف المسلح في تحقيق اي انتصار للاسلام وللمشروع الاسلامي الكلي على مستوى العالم الاسلامي، او الجزئي في بلد الحركة الاسلامية التي تمارس العنف المسلح. بل لقد فشل هذا الاسلوب في تحقيق اي مكسب دعائي او تعبوي ذي شأن. ولم يقتصر الامر في عاقبة هذا الاسلوب على الفشل وعدم الجدوى، بل تعداه الى إنزال أضرار فادحة بالمشروع الاسلامي الكلي والمشروع الجزئي، نذكر بعضها: 1 تهمة الإرهاب لقد ألصق هذا الأسلوب بالإسلام وبالحركة الاسلامية تهمة (الارهاب)، وأحيا التهم القديمة عن انتشار الاسلام بالسيف، وعن عجز المسلمين وتخلفهم في بناء العلاقات وتكوين القناعات ب(الحوار) في الوقت الذي تترسخ على مستوى عالمي فكرة التغيير بالحوار وبالتراضي وبالاساليب الديمقراطية. والاسلام بريء من التهمتين، فهو يحرّم الارهاب والغيلةحتى في حال الحرب، وهو يحمل أعظم وأوسع دعوة للحوار عرفها تاريخ البشرية. وقد مكّن هذا الاسلوب خصوم المشروع الاسلامي من المسلمين والاجانب من تقديم تصور مسبق للرأي العام العالمي عن (النظام الاسلامي) المفترض تطبيقه لو نجحت الحركة الاسلامية في تولي السلطة في هذا البلد الاسلامي او ذاك، فخلقوا حالة من العداء والرفض النفسي والعاطفي للحركة الاسلامية وللمشروع السياسي الاسلامي، بل لقد عبّر هذ العداء عن نفسه ازاء المسلمين في ظل الانظمة القائمة. 2 إرهاق المجتمع الأهلي لقد أرهق هذا الأسلوب المجتمع الأهلي وحمّلة أعباء ثقيلة نشأت من الوفاء للحركة الاسلامية التي يواليها، او على الاقل لا يعاديها، ومن ضرورات الامن وحاجات الحياة اليومية التي يوفرها له النظام العام لحياة المجتمع الذي يتعرض للتصدع والاهتزاز او الانهيار نتيجة لاستخدام العنف المسلح ضد النظام الحاكم الذي لا يتمتع عند المجتمع الاهلي بالاحترام والقداسة. وهذا في حالة استخدام العنف ضد النظم. وأما في حالة استخدام العنف ضد مؤسسات المجتمع الاهلي وضد الاحزاب المنافسة، فنعتقد ان الاضرار السياسية أكبر وأفدح. ومن البديهي ان المجتمع الاهلي هو (الامة) التي يعتبر تلاحمها مع (التنظيم) أساس القوة والنجاح والاستمرار، ولن يتمكن (التنظيم) من تحقيق اي نصر دون تلاحم (الامة) معه. واذا حقق التنظيم النصر فان من الصعب الاحتفاظ به لانه سيضيع او يحبط في عزلة الامة عنه، واذا احتفظ بالنصر في حكم دولة، او السيطرة على منطقة او حي او مدينة فانه لن يتمكن من ذلك الا بالقمع الذي يوقع الحركة الاسلامية في فخ أسلوب الطاغوت. 3 عزلة الحركة الاسلامية عن المجرى السياسي العام لقد كان هذا الاسلوب أحد الاسباب التي حالت دون تمكن الحركة الاسلامية من الدخول في تحالفات سياسية جبهوية مع القوى السياسية الاخرى في مواجهة الانظمة. كما عمّق الفجوة السياسية والانسانية بين الاسلاميين وقاعدتهم الجماهيرية وبين القوى الاخرى وقواعدها، وخلق جوا من الحذر الشديد عند جميع القوى السياسية الاخرى، نشأ من الاعتقاد بأن الاسلاميين لا يؤمنون بالتعاون مع غيرهم، ولا يؤمنون بشرعية التعددية الحزبية والسياسية، ولا يؤمنون بحق المخالفة والاختلاف، ولا يؤمنون بالمشاركة في الحكم مع غيرهم اذا تمكنوا من الانفراد به ولو بالقوة. وهذا ما جعل الحركة الاسلامية، في كثير من الحالات، معزولة عن المجرى السياسي العام في بلدها... 4 التحالفات مع الأنظمة لقد دفع هذا الاسلوب بالحركة الاسلامية الى ارتباطات وتحالفات مع أنظمة ذات سياسات خاصة بها ناشئة من أوضاعها الدولية والاقليمية، وهي تحمل السمات السياسية نفسها للانظمة المراد محاربتها. وسبب ذلك ان العمل المسلح يحتاج الى أموال كثيرة وسلاح وخدمات اخرى لنقل الاشخاص والسلاح. والمصادر الذاتية لأي تنظيم تعجز عن توفير الاموال اللازمة، فيضطر هذا التنظيم او ذاك الى الاتصال بهذه الدولة او تلك لتقديم التمويل والتسليح والخدمات الاخرى. واهداف الدول الممولة مختلفة. فقد تكون لها أهداف سياسية ضد النظام المستهدف بأعمال العنف، او ضد بعض الاحزاب والجماعات السياسية في تلك الدولة لمستهدفة، او لأن الدولة الممولة تدفع عن نفسها العنف او التشهير السياسي بتمويل وتسليح أعمال العنف في منطقة اخرى، او لتظهر بمظهر الدولة القادرة على التحرك في المجال الاقليمي، وانها ذات (وجاهة) دولية، او لأهداف أقل نظافة او اكثر قذارة مما ذكرنا، كما في دفع هذا التنظيم الاسلامي او ذاك الى التحالف مع حزب علماني ضد تنظيم إسلامي آخر بهدف محاربته ومقاتلته. وهذ الارتباط يجعل الحركة الاسلامية تناقض نفسها، حيث انها تحارب موقعا غير إسلامي او مناهضا للمشروع الاسلامي بالتعاون مع موقع مماثل او اسوأ من الموقع الذي تحاربه. وهي ليست في وضع يمكنها من التحكم في هذا الارتباط، بل هي أسيرة له لأنها لا تملك القدرة على جعله دائما إلا بالمزيد من الارتهان للجهة الممولة والداعمة التي ما ان تشعر بعدم الولاء حتى تقطع دعمها وتمويلها. 5 الشرذمة والتفتيت إن هذا الاسلوب، بما يقتضيه من ارتباطات مالية وسلاحية وغيرهما، قد فتح مجالات واسعة داخل قيادات كثير من التنظيمات للتعامل المستقل والجانبي من قبل بعض هذه القيادات مع الدولة نفسها و دولة اخرى، او مركز نفوذ وقوة آخر اقليمي او دولي لتحقيق مكاسب مادية (فردية) او لتحقيق نفوذ متميز داخل التنظيم. وهذا ما ادى في حالات كثيرة الى ما يسمى (صراع الاجنحة الحركات الانقلابية داخل الاحزاب/ مراكز القوى). ويؤدي ذلك الى شرذمة التنظيم وتفتيته. هذه هي بعض آثار استعمال العنف المسلح. وهذا العرض للوازم العنف المسلح وآثاره على المجتمع الاهلي وعلى الحركة الاسلامية نفسها يكشف عن ان الامر لا يقتصر على عدم الجدوى، وانما يتعداه الى الإضرار بالمشروع السياسي من حيث ما يسببه من هدر للامكانات وتوليد للعقبات، والإضرار بالسمعة المعنوية للاسلام والمسلمين. دفاع عن أسلوب العنف المسلح، وردّ وقد يقال في الرد على ما ذكرنا في الدفاع عن استعمال هذا الاسلوب: انه حقق للحركة الاسلامية (حضورا سياسيا) على الساحة، و(انتزع الاعتراف بها) باعتبارها قوة سياسية ذات شأن، ومن دون ذلك ما كانت الحركة الاسلامية لتحقق لنفسها هذا (الحضور) ولتحصل على هذا (الاعتراف). ولكن هذه الدعوى غير صحيحة. فما البرهان على ان العمل السياسي السلمي الواعي القائم على الحكمة والموعظة الحسنة، على المستوى الشعبي وتعبئة الجماهير، والتعاون مع القوى ذات الاهداف المشتركة ولو بصورة جزئية، لا يؤديان الى (الحضور) السياسي، والى (اعتراف) المجتمع والنظام والقوى السياسية الاخرى بالحركة الاسلامية. اننا نؤكد ان العكس هو الصحيح استنادا الى التجارب الكثيرة للحركات السياسية الاخرى في جميع أنحاء العالم، وللحركة الاسلامية في تجربة تكونها ونشوئها. قد يكون العمل السياسي السلمي بطيئا في تحقيق النتائج، ويقتضي بذل جهود اكبر وتضحيات اكثر، ولكنه يؤدي بالتأكيد الى نتائج اكثر ثباتا وأسلم عاقبة. ان استخدام العنف المسلح قد (يسرّع) الاعتراف والحضور السياسي، و(يسرّع) بروز القيادات ووجاهتها السياسية، ولمعانها في وسائل الاعلام. ولكن ذلك كله يحصل على حساب سمعة الاسلام وفرص المشروع الاسلامي في النجاح، وسلامة العاملين والمجاهدين، وبثمن باهظ من الدماء والممتلكات. ان العنف المسلح يحقق (فائدة) واحدة، هي انه يجعل من الحركة الاسلامية (مشكلة) للنظام الحاكم وللحزب المنافس. وهذا صحيح بلا شك. ولكن علينا في البحث عن الجدوى السياسية ان نرى الواقع من جميع وجوهه. واذا فعلنا ذلك فسنرى الوجه الآخر او البعد الآخر لأسلوب العنف المسلح، وهو انه في الوقت نفسه يخلق (مشكلة) للمجتمع الاهلي، ويلقي عليه أثقالا وتكاليف لا يستطيع تحملها. فالمجتمع الاهلي قد يستطيع وقد لا يستطيع، ولكنه على اي حال لا يريد ان يضرب الحركة الاسلامية دفاعا عن نفسه حين يتسبب استخدامها للعنف في الإضرار باستقراره ونظام حياته، ولكنه يرفض العنف ويدينه، ويرفض تحمل تكاليفه المادية والسياسية والمعنوية، ولذا فانه يلتزم نتيجة لذلك موقفا متحفظا او سلبيا صامتا من المشروع الاسلامي برمته. ويقف محايدا إزاء ما تتعرض له الحركة الاسلامية من مآزق ونكبات. هذا بالاضافة الى ما يسببه العنف المسلح للمجتمع من دمار للممتلكات العامة والخاصة، وتشريد وتهجير للسكان، وقتل وجرح للكثيرين بسبب الطبيعة الفتاكة للأسلحة الحديثة، والوضع التنظيمي للسكان ومؤسسات المجتمع الحديث الذي يجعل من مؤسسات الخدمة العامة في المجتمع أهدافا سهلة التخريب، فلا يقتصر التدمير على الهدف المراد ضربه وانما يتعداه الى المجتمع ومؤسساته... استبعاد تام ان هذه النتائج السلبية على الحركة الاسلامية وعلى المجتمع الاهلي المسلم، لاستعمال اسلوب العنف المسلح الذي رأينا أنه لم يؤد الى أي انتصار سياسي حقيقي، تثبت عدم الجدوى السياسية لهذا الاسلوب، بل ثبت انه مضر بتكوين الحركة الاسلامية ومسيرتها ومشروعها السياسي. وهذا يقتضي من الحركة الاسلامية ان تستبعده من العمل السياسي، ولا تتخذه أسلوبا ومنهجا في العمل بوجه من الوجوه، وذلك استنادا الى المعيار النفعي مع صرف النظر عن مشروعيته او عدم مشروعيته من الناحية الفقهية. وحتى لو فرضنا جدلا انه يحقق بعض المكاسب السياسية، فانها بالتأكيد لا تتناسب مع الأضرار والخسائر التي يسببها للحركة الاسلامية، وللمجتمع الاهلي المسلم، وللمشروع الاسلامي. من كتاب فقه العنف المسلح في الإسلام الصادر عن المؤسسة الدولية للدراسات والنشر، 2001