حينما خاضت شعوب العالم المعاصر حروبها ضد التهميش و الفقر والإقطاع والجهل ، رسم لها مفكروها الإصلاحيين حدود مكامن الأمراض السياسية والأخلاقية والاجتماعية . أهم التجارب التاريخية في الصراع ضد أوكار الفقر والفساد كانت في أوربا الحديثة، وكان رواد المجابهة من الفلاسفة المعروفون بفلاسفة الأنوار، والذين خاضوا حربا ضروسا ضد مؤسسة الكنيسة المصادرة لحرية الأفراد في التفكير والتعبير والاعتقاد ، وضد الأنظمة الملكية الحامية للإقطاع الديني والاقتصادي ، والمصادرة لحرية الشعوب في اختيار الحكام ورجالات المؤسسات السياسية . عنوان فلسفة الأنوار العريض كان حول الطرق التي يمكن أن يربح بها الإنسان حياته الخاصة بعيدا عن إكراهات الحياة العامة ، العدو الأول الذي يتدخل في الحياة الخاصة هو الكنيسة التي بصنيعها هذا تكون قد تجاوزت حدودها وبالتالي وجب إيقاف تأثيرها في حدود معينة . الكنيسة التي طغت على الإنسان في أوربا تحكمها معتقدات وأفكار ، وعلى الفلاسفة في هذا المضمار خلخلة حججها وطرق تفكيرها وإعطاء بدائل جديدة لهذا التفكير المغلق والمتحجر ، وهكذا أخذ الصراع منحى أكثر وضوحا من الصراع ضد المؤسسات السياسية للدول والتي تعتبر الكنيسة أهم ركائزها إلى الصراع ضد الدين الذي تحمله الدولة والكنيسة معا ، كل ذلك مهد لظهور الفكر السياسي العلماني والذي تكمنروحه في استبعادالدين من النشاطات والأفكار السياسية ، وإحلال سلطة القانون والمؤسسات محل سلطة المعتقد والضمير ، ما من شأنه الارتقاء بالإنسان ، وأن يمنح جميع الناس كرامتهم بدل التقسيمات الطبقية التي تصنفهم من الأعلى إلى الأسفل حسب قربهم من السلطة السياسية الحاكمة . ولأول مرة في تاريخ الإنسان الأوربي الحديث يحس هذا الإنسان بإنسانيته وبشريته التيسرقت منه خلال عصور الظلمات ، لتكون النماذج السياسية في أوربا من أرقى النماذج السياسية في العالم والتي على الشعوب التي تعاني نفس المشاكل استيعابها لضمان الاستقرار والحرية والازدهار . العالم الإسلامي في هذه الفترة يعيش عصر ظلمات لم تعقبه حركة للشعوب الإسلامية من أجل تطويق معاقل الفساد والجهل والتسلط . وحدث تناحر بين الدولة الإسلامية الأقوى حينها وهي الخلافة العثمانية والقوميات التي تشكل الدولة والتي دخلت في صراع مع السلطة مثل حركة القوميين العرب في الحجاز والتي ترغب في انتزاع السلطة من المسلمين الأتراك وبالتالي الجلوس على سدة الخلافة الإسلامية ، كما أن القوميين الأتراك يحاولون تدمير دولتهم رغبة في تقليد النموذج العلماني الأوربي باستبعاد الدين في الشؤون السياسية وإقامة أول دولة قومية علمانية في العالم الإسلامي . هذا التناحر استغلته القوى المناوئة للمسلمين لتدعم أطرافا ضد أخرى من أجل إهلاك الرجل المريض وبالتالي السيطرة على العالم الإسلامي ، وبعد تبني فكرة الإستقواء بالخارج سقط العالم الإسلامي ضحية للاستعمار الحديث، لتتأخر مرحلة تحرر هذه الشعوب إلى الضعف ، فبعدما كان العدو هو الأنظمة الاستبدادية المتسلطة أتاها عدو آخر من وراء البحار مسلح بأقوى الترسانات العسكرية في التاريخ البشري ، تبعت عمليات السيطرة والإخضاع موجة استغلال ممنهج للطاقات البشرية والطبيعية والجيوستراتيجية لهذه الشعوب ، مما يؤخر تقدمها قرونا مقبلة عديدة . المرحلة الجديدة كانت من أهم أولوياتها التخلص من الاستعمار وإعادة بناء الدول الوطنية على أسس جديدة يرسم الاستعمار ملامحها وحدودها ، ولأول مرة في التاريخ يفقد المسلمون الدولة الأم التيتجمعهم وتوحدهم وتدرأ عنهم الأخطار ، ليصبحوا دويلات شتى بعد الاستقلال ، دويلات لا حول لها ولا قوة منها اثنان وعشرون عربية . المستعمر لم يخرج فحسب، بل نظم المنطقة وفق آليات تضمن التبعية المطلقة لمستعمراته القديمة له، وهكذا ربى أجيالا تفكر بتفكيره، وتسمع لنصائحه، ليفقد المسلمون بعد ذلك أسس بناء شخصيتهم المستقلة، ومن ثمة اهتزاز بوصلة التغيير والإصلاح. هذه التبعية الممنهجة أعطت أكلها لأكثر من نصف قرن إلى يومنا هذا ، إلى الحد الذي أصبح فيه بعض السياسيين المسلمين يستقوون بالخارج من أجل احتلا ل بلدانهم . أغلب الدول الإسلامية تابعة للغرب الأوروبي والأمريكي ، والشعوب تحكمها أنظمة استبدادية تسلطية تصادر حق الأفراد في العيش الكريم ، وحريتهم في التعبير عن اختياراتهم وتوجهاتهم السياسية . معظم الدول التي أنشأت على أنقاض الاستعمار الحديث تحمل أفكارا غربية اشتراكية وليبرالية ، والشعوبالإسلامية تخوض اليوم صراعها ضد هذه الدول وذلك لتحقيق الحرية والتقدم والرفاه ، وبناء دول قوية يحكمها القانون والمؤسسات . إلا أن الملفت للانتباه أن التيارات السياسية التي تحمل الفكر السياسي الإسلامي هي الأقوى اليوم على الساحة السياسية الإسلامية. خصوم التيار الإسلامي والذين يحملون أفكارا نبتت في أوربا خلال عصر الأنوار ، يرون أنه يحمل فكر الظلمات الذي قوضه فكر الأنوار في أوربا ، مادام يحمل هذا التيار الفكر الديني الذي عانت منه الإنسانية قرونا من الزمان ، ويطالبون باستبعاد الدين عن الأمور السياسية . متزعمي هذه التيارات العلمانية إما يدافعون عن الدول التي تكونت وفق أسس الفكر العلماني ويطالبون بالمزيد من الإصلاح ، أو يعارضونها وذلك لإقامة دول علمانية قوية أكثر ، لكن أغلبها دخل اللعبة السياسية التي رسمتها الدول المستبدة في العالم الإسلامي ، أما الأحزاب العلمانية خارج السلطة فهي صغيرة وضعيفة ولا تأثير لها على الشعوب الإسلامية . الفراغ الذي تركته التيارات السياسية العلمانية ملأته التيارات السياسية الإسلامية والتي تعتبر الأقوى في العالم الإسلامي اليوم . في هذه الدراسة المتواضعة أود تناول آليات إقناع الفكر السياسي الإسلامي المعاصر والذي تواجهه عقبات عديدة ، وسأخص في تناولي هذا دراسة التيارات الإسلامية التي تحمل أفكارا تغييرية ، أما التي تضع يدها في يد السلطات لا يمكن أن تحدث تغييرا مادمت تؤيد أشكال الأنظمة القائمة في العالم الإسلامي ، ولا يمكن لهذه الأنظمة المستبدة أن تعطي هامشا ولو يسيرا لخصومها مادام هؤلاء الخصوم ينقلبون عليها ولو بعد حين . سنكتفي في هذه الدراسة بالحديث عن تجارب حركات إسلامية لها تأثيرها القوي على الشعوب الإسلامية منها: جماعة الإخوان المسلمين في مصر حركة المقاومة الإسلامية حماس في فلسطين جماعة الإخوان المسلمين في الأردن جماعة العدل والإحسان في المغرب بالإضافة إلى إشارات موجزة عن باقي الحركات الإسلامية في العالم الإسلامي . [email protected] mailto:[email protected]