دشن اللقاء الملكي مع الرئيس الأمريكي جورج بوش على هامش أشغال الدورة 58 للجمعية العامة للأمم المتحدة، عملية الانطلاق الرسمي لمسلسل المشاورات حول قضية الصحراء المغربية والتي من المفترض أن تكون محطة اشتغال حاسم في مجلس الأمن في الأيام القادمة، ذلك أن القرار الأممي الأخير رقم 1495 والذي أصدره مجلس الأمن في نهاية يوليوز الماضي، عبر عن دعمه لخطة السلام التي أعدها المبعوث الشخصي جيمس بيكر مع تأكيده على أن ضرورة التوافق بين الطرفين لاعتماد الخطة، مع الدعوة إلى التفاوض حولها، ورغم أن بلادنا عبرت عن ارتياحها للقرار مادام تجاوز مسألة النص على فرض خطة السلام، لكن المشكل من حيث الجوهر بقي قائما ولم يقع إلا تأجيله لشهر أكتوبر المقبل، حيث ستنتهي ولاية بعثة الأممالمتحدة المينورسو في نهايته، مما سيدفع بمجلس الأمن إلى الاجتماع من أجل اتخاذ قرار جديد، وهو ما يعني أن المرحلة الحالية هي مرحلة حاسمة مما أعطى لاجتماع الملك محمد السادس مع الرئيس الأمريكي أهمية خاصة. فما هي حدود المراهنة على حصول تحول في الموقف الأمريكي، يراجع المسار الذي ذهب فيه التدبير الأممي لقضية الصحراء؟ وما هي الإمكانات المتاحة أمام الديبلوماسية المغربية من أجل التأثير بفعالية في حصول هذا التحول المطلوب؟ حساسية الموقف الأمريكي لقد كشفت مداولات مجلس الأمن في يوليوز الماضي عن خروج الموقف الأمريكي عن حياده الظاهري وتحوله إلى طرف يعمل على فرض خطة السلام التي طرحها الوسيط الدولي جيمس بيكر، دون أدنى مراعاة للموقف المغربي الرافض للخطة، حيث أن الإعلان عن مضامين مشروع القرار الأمريكي حول قضية الصحراء والذي قدم لمجلس الأمن يوم 12يوليوز شكل مفاجأة غير متوقعة للمغرب، أعادت التذكير بما جرى في ربيع 1979 عندما أوقفت إدارة جيمي كارتر تزويد المغرب بقطع السلاح الضرورية لدفاعاته في الصحراء مما اضطر الملك الراحل الحسن الثاني أن يعلن أن ثمن الصداقة مع المغرب هو استمرار المساعدة العسكرية، ولم يعالج المشكل آنذاك إلا في خريف,1979 بعد أن ظهرت النتائج الكارثية لسياسات كارتر الخارجية في عدد من المناطق، وخاصة في أمريكا الوسطى (السلفادور-النيكارغوا)، ومع تغير الإدارة الأمريكية بعد سقوط جيمي كاتر في الانتخابات الرئاسية وصعود رونالد ريغان في ,1980 تطورت العلاقات بشكل إيجابي أفضى إلى تكوين اللجنة العسكرية المختلطة في بداية .1982 ويمكن القول أن المداولات التي عرفها شهر يوليوز أبرزت حساسية الموقف الأمريكي ومدى استعداده للتحرك الانفرادي في تدبير مستقبل الملف، واستعمال قضية الصحراء المغربية كإحدى الأوراق في الحسابات الاستراتيجية بين كل من فرنسا والولايات المتحدة المتوترة بفعل التناقضات القائمة حول العراق ومخلفات الموقف الرافض لسياسات الاحتلال الأمريكي من جهة أولى، و أداة في خدمة حسابات السياسة العسكرية الأمريكية تجاه الجزائر والتي تعمل على تقوية وجودها العسكري في الجزائر وإنجاح مشروع بناء قاعدة أمريكية في عمق الصحراء الجنوبية للجزائر من جهة أخرى، وهي معطيات ما تزال شروطها قائمة، وتهدد بتكرار نفس الأزمة التي عرفها شهر يوليوز الماضي. ومما زاد من تعقيد الوضعية تبلور مؤشرين سلبيين، الأول غياب حصول تطور إيجابي وازن في العلاقات الإسبانية المغربية بعد تأجيل القمة التي كانت مقررة في بداية شهر أكتوبر المقبل، وفي الوقت الذي ذهب التفسير الرسمي إلى أن الأمر مرتبط بانشغالات مغربية بفعل برنامج الجولة الأسيوية للعاهل المغربي، إلا أن بعض وسائل الإعلام الإسبانية ربطته بقضيتي الصحراء المغربية والهجرة السرية، أما المؤشر الثاني فيرتبط باستمرار الخلاف الجزائري-المغربي، وغياب أدنى تفاعل إيجابي مع الرؤية المغربية لبدء حوار استراتيجي بين البلدين، في ظل استفحال الأزمة الجزائرية الداخلية المتفاقمة بفعل الصراع حول الرئاسة بين كل من الرئيس الجزائري الحالي عبد العزيز بوتفليقة و ورئيس الحكومة السابق علي بن فليس والتي ستجرى في أبريل القادم، فضلا عن التقلبات المتواصلة في مواقف الحكم الجزائري إزاء موضوع العلاقة مع المغرب. تعزز المؤشرات الآفة الذكر، سواء ما ارتبط بالجانب الأمريكي، أو بتطورات الوضع الجهوي والإقليمي، أن الموقف المغربي في القضية مهدد بمزيد من الخسائر إن لم يقع استدراك الوضع وانتهاج سياسية جديدة، تستثمر عددا من الأوراق والأدوات المعطلة من أجل التأثير في ميزان القوى الحالي وتغيير معطياته لصالح تأكيد السيادة المغربية وعدم المساس بالوحدة الترابية مع اعتماد لمشروع حل سياسي وسط، والانطلاق في ذلك من تصحيح اختلالات العلاقات المغربية الأمريكية، وهو ما يمكن اعتبار اللقاء الأخير للملك مع الرئيس الأمريكي نقطة بداية أساسية فيه. أية عناصر في التحرك المغربي الجديد؟ ثمة اتفاق بيم العديد من المتتبعين على أن المغرب يتوفر على عدة عناصر أساسية، يمكن توظيفها الجيد من معالجة الأزمة الحالية، ومن هذه العناصر نذكر: - استمرار جبهة البوليزاريو في رفض الإفراج الفوري والشامل عن الأسرى ولجوئها إلى المتاجرة المنتظمة به، خصوصا عند مشارف كل اجتماع أو جولة أممية تهم مستقبل قضية الصحراء، وكانت آخر محطة تم فيها الإفراج عن مجموعة من الأسرى في غشت الماضي حيث أفرج عن 342 أسيرا مغربيا بتدخل إسباني، مع بقاء 914 أسيرا، في الوقت الذي مكان من المفروض أن يفرج عنهم جميعا بمجرد توقيع اتفاق وقف إطلاق النار في شتنبر ,1991 وقد بلغ عدد المفرج منهم 1343 أسيرا وذلك على دفعات، وبموازاة هناك الانفضاح المتزايد لأوضاع حقوق الإنسان المتردية بمخيمات تندوف. - الفعالية المغربية المتزايدة في مجال مكافحة الإرهاب وتحول المغرب إلى طرف أساسي في الحملة الأمريكية ضد ما يسمى بالإرهاب، خصوصا بعد تفجيرات 16ماي واتساع حملات الاعتقال والملاحقة بالمغرب، بموازاة تعاظم مستوى التعاون الأمني-العسكري المغربي الأمريكي. - التقدم في المفاوضات المتعلقة باتفاقية التبادل الحر، حيث تم عقد ثلاث جولات آخرها بواشنطن، وتبلور دعم من داخل الكونغريس لهذا المشروع، وهي تطورات تمثل أرضية في الحوار مع الطرف الأمريكي، باعتبار العلاقة الوطيدة بين أي تسوية لقضية الصحراء المغربية وبين الاستقرار في المنطقة من جهة أولى، ولأهمية نجاح إبرام هذه الاتفاقية وتوفير شروط تنزيلها السليم باعتبارها نموذجا للتعميم في المنطقة العربية من جهة ثانية، وهي مسألة تساعد على موازنة التأثير الذي يمارسه ازدياد الاستثمارات النفطية الأمريكيةبالجزائر. - تزايد درجة الاستعداد المغربي للعب دور متقدم في المشروع الأمريكي لتسوية القضية الفلسطينية، لا سميا بعد استقبال وزير خارجية الكيان الصهيوني مطلع هذا الشهر بالمغرب، وتوظيف ذلك لحل أزمة العلاقة مع الخارجية الأمريكية والمتوترة منذ ما سمي بالاستقبال الفاتر بالمغرب لوزير الخارجية الأمريكي في بداية أبريل,2002 وهو موقف ظلت عدد من وسائل الإعلام الأمريكي تشير له كعنصر سلبي في السياسة الخارجية المغربية. - تفعيل النشاط الدولي للمغرب خاصة وأن المغرب يشغل موقع رئاسة مجموعة 77+الصين مما يتيح له حضورا دوليا أكبر في ساحة النزاعات والقضايا الدولية. ويمكن القول أن اللقاء المغربي-الأمريكي بنيويورك شكل محطة لاختبار مدى فاعلية هذه العناصر الخمس في تغيير حسابات الطرف الأمريكي، ودفعه نحو مراجعة الاختيار الذي سار فيه، فقد استقطب اللقاء الملكي مع الرئيس الأمريكي يوم 23 شتنبر الجاري على هامش الدورة 58 للجمعية العامة للأمم المتحدة تركيزا إعلاميا، باعتبار أهمية الممثلين للجانب الأمريكي في اللقاء حيث حضر في جلسة العمل التي انعقدت بين كل من الملك محمد السادس والرئيس الأمريكي جورج بوش كل من كولن باول كاتب الدولة الأمريكي في الخارجية وكوندوليزا رايس مستشارة الرئيس الأمريكي للأمن القومي وويليام بيرنز مساعد كاتب الدولة لشؤون الشرق الأوسط وروف كارل المستشار الخاص للرئيس بوش وإليوت أبرامز عضو المجلس القومي للأمن الأمريكي المكلف بشؤون الشرق الأوسط ونيغروبونتي السفير الأمريكي لدى الأممالمتحدة. ورغم غياب نشر أية تفاصيل عن مجريات اللقاء ونتائجه في الوسائل الإعلامية الرسمية، فقد نقلت وكالة رويترز أمس الأربعاء عن مسؤول أمريكي رفيع أن الرئيس بوش طلب مواصلة العمل مع الأممالمتحدة ومع جيمس بيكر متعهدا في الوقت نفسه للملك المغربي بأن لا تفرض الأممالمتحدة والولايات المتحدة تسوية على المغرب مبديا تفهما لحساسية القضية، وهي نتيجة أولية تبعد احتمال حصول تطور سلبي حاد في المدارسة المقبلة لقضية الصحراء المغربية نهاية الشهر المقبل، إلا أنها غير كافية مادام لم يقع الإلغاء الكلي لخطة السلام التي اقترحها جيمس بيكر وتعويضها بمشروع جديد يقوم على خيار الحل السياسي الوسط، وهو ما ستفصح الأسابيع القادمة عن مدى حصول القناعة به. خلاصة... إن العناصر الخمس المثارة آنفا تطرح إمكانيات متقدمة للتأثير في الموقف الأمريكي ودفعه نحو التوازن وعدم الانحياز والضغط من أجل مفاوضات حقيقية بين كل من الجزائر والمغرب لإيجاد مخرج جذري للنزاع، واللقاء الذي تم في نيويورك ينبغي اعتباره مدخلا يحتاج إلى استكمال وجهد إضافي، حيث ينبغي الانتباه إلى حديث سائد يقوم على أن الوسيط الأمريكي جيمس بيكر يرفض أن يفشل في تدبير تسوية نهائية لنزاع الصحراء المغربية، وأنه من أجل ذلك يستثمر علاقته الخاصة بالإدارة الأمريكية الحالية، مادام قد لعب دورا أساسيا في فوز الرئيس بوش بالرئاسة في نونبر,2000 إلا أنه لا يعقل ولا ينبغي أن يكون نجاح بيكر على حساب المغرب وضدا على وحدته الترابية، وهو موقف يتطلب تكثيف الجهد الوطني في المرحلة الحالية، حتى لا نفاجأ بمأزق جديد في المستقبل القريب. مصطفى الخلفي