طيلة 28 سنة عرفت العلاقات المغربية الجزائرية توتراً أثّر على مسيرة اتحاد المغرب العربي وأصابه بالإعاقة والشلل. وكان وراء هذا التوتر موقف الجزائر الغريب من قضية استرجاع المغرب صحراءه الغربية من الاستعمار الإسباني سنة .1975 وكان المفروض أن تهلّل الجزائر (بلاد المليون شهيد) لهذا المكسب الكبير وتباركه، وأن تعتبر أنه مكسبها الوطني الذي لا يقل عن مكسب تحرير أرضها من الاستعمار الفرنسي. لكن السياسة الجزائرية اتجهت في منحى آخر، وتعاملت مع قضية تحرير المغرب صحراءه بموازين سياسة توازن القوى التي هي إحدى خصائص الدول الامبريالية العظمى. ولعلها طرحت السؤال: من الذي يجب أن ترجح كفته من بين أطراف المغرب العربي ليقود اتحاد المغرب العربي، ويتحكم في صيرورته ومصيره؟ والمغرب والجزائر هما القوتان الرئيسيتان في المنطقة. وانتهت إلى وجوب انتهاج سياسة تحقق لها الرجحان المنشود. وما تزال إلى الآن رهينة هذه السياسة، وتتحرك الجبال ولا تتحرك بعض الرؤوس. حقق المغرب تحرير صحرائه باستعمال مختلف آليات التحرير التي اعتمدتها الجزائر نفسها لتحرير أرضها بالمقاومة المسلحة، والتفاوض في إفيان مع المستعمر الفرنسي. وحرر المغرب صحراءه بزحف المسيرة الخضراء السلمية على الصحراء، والتفاوض مع الدولة الإسبانية المحتلة، والتوقيع على المعاهدة الثلاثية المغربية الإسبانية الموريتانية بمدريد سنة .1975 وكان إمضاء إسبانيا يعني اعترافها بإنهاء الاحتلال، وتسليمها الأرض المغتصبة لأهلها ومالكيها. وقبل زحف المسيرة التاريخية على أرض الصحراء المغربية استعمل المغرب آلية قانونية لإثبات حقه التاريخي فوق أرضه، واستصدر من محكمة العدل الدولية قراراً يقضي بأن الصحراء مغربية ارتبطت عبر القرون بولائها لسلاطين المغرب، والتزم سكانها ببيعتهم، ولم تكن قط أرضا مواتا أو خلاءً لا مالك لها. وبادرت الدول الثلاث الموقعة على معاهدة مدريد إلى إيداع وثيقتها لدى منظمة الأممالمتحدة لتأخذ، علما بأن قضية تصفية تحرير الصحراء من الاستعمار تمت بالطرق القانونية المعتادة. لكن الجزائر وحدها رفضت أن تعتبر هذه الإجراءات كافية لتوفير شروط تحرير الصحراء، وأعلنت أنها ما تزال في نظرها قضية استعمار في حاجة إلى التصفية، ونادت بالدعوة إلى تمتيع الشعب الصحراوي (أي شعب؟) بحق تقرير المصير الذي يعني عندها تمكين جبهة البوليساريو من الاستقلال بالصحراء لتصبح دويلة تابعة، وبيْدقا يُحرّك في لعبة توازن القوى بينها وبين المغرب. كنا نفهم اتجاه الجزائر في هذه الوجهة لو كان البوليساريو الذي تدعمه حركة مقاومةٍ للاستعمار الإسباني يعمل فوق أرض الصحراء ويسقط فيها الشهداء، ويقلق راحة المستعمر. لكن لا أحد علم أو سمع بوجود حركة مقاومة صحراوية أسسها البوليساريو أو سجل لها نشاط معارضٌ قبل أن يحرر المغرب أرضه سنة .1975 هكذا تم افتعال قضية تصفية الاستعمار في الصحراء دون التأمل في عواقب هذا الافتعال على تطور علاقات البلدين الشقيقين، وبدون حساب لتداعيات هذا المنهج الخاطىء على حاضر اتحاد المغرب العربي ومستقبله. إن أغلبية أعضاء ما يسمى بجبهة البوليساريو لا ينتمون إلى إقليم الصحراء المغربي، بل إلى أقاليم المغرب غير الصحراوية، وفي طليعتهم المدعو محمد عبد العزيز رئيس الجبهة الموهومة الذي وُلد بمدينة مراكش عاصمة الجنوب المغربي، وما يزال والده مقيما بها يتبرأ من ولده المتمرد على وطنه، والعاصي لوالديه. ولا وجود لأعضاء جبهة البوليساريو فوق أرض الصحراء التي افتكها المغرب من أضراس الاستعمار الاسباني السابق، بل أقامتهم الجزائر فوق أرض تيندوف المغربية التي انتزعها الاستعمار الفرنسي من المغرب وضمها إلى الجزائر بعد أن أدمجها في التراب الفرنسي ضمن ما أدمجه من التراب المغربي الواقع في الحدود الشرقية، فالسياسة الفرنسية استهدفت دائما تقليص حجم خريطة المغرب (بلاد الحماية التي لم تفقد شخصيتها القانونية الدولية) وضمّ أجزاء منها في الحدود الشرقية إلى الجزائر المغلوبة على أمرها والتي أدمجتها فرنسا في ترابها باسم المقاطعات الفرنسية الثلاث، يقيناً منها أن الوضع المغربي تحت الحماية الفرنسية مؤقت، وأن الوضع الجزائري تحت الاستعمار الفرنسي مستمر ودائم. كان من المنتظر الموعود به من لدن حكومة الجزائر المؤقتة حتى قبل استقلالها أن يسترجع المغرب أراضيه الطبيعية التاريخية التي ألحقتها فرنسابالجزائر وأن تباشر الجزائر اصلاح ما أفسده الاستعمار، لكنها أعربت عن رغبتها في أن تحتفظ بالحدود الموروثة من هذا الاستعمار، ورضي المغرب وتنازل عن أراضيه لنزع فتيل التوتر بينه وبين جارته وشقيقته، ولأنه كان يراهن على ترسيخ الاتحاد المغاربي الذي سيتجاوز الحدود الضيقة ليصبح فضاء متكاملا أكثر رحابة وأوسع أفقا وأقوى إمكانيات. وتم الاتفاق على ذلك في قمة تلمسان (الجزائر) التي انعقدت يوم سابع مايو ,1970 وحضرتها بوصفي وزير خارجية الملك الحسن الثاني كما حضرها السيد عبد العزيز بوتفليقة بوصفه وزير خارجية الرئيس الجزائري الهواري بومدين. على أرض المغرب السابقة وفي مدينة تيندوف التي كانت تابعة قانونيا وإداريا للمغرب إلى موعد اتفاق تلمسان أقامت الجزائر نكاية بالمغرب فلول جبهة البوليساريو، ووضعتها في مخيمات مزرية، وسقتها، وأطعمتها، وكستها، ومولتها، وسلحتها، وزكت لدى الدول خرافة الجمهورية الصحراوية، ودعمتها لدى الأممالمتحدة، ونطقت باسم حكومتها المزعومة في كل ناد ومحفل. وكل ذلك مخالف لما نص عليه بيان قمة زرالدة (الجزائر)، وما جاء في الميثاق التأسيسي لاتحاد المغرب العربي في أعقاب الإعلان بمراكش عن تأسيسه من وجوب امتناع الدول الأعضاء عن دعم ومساندة كل حركة انفصالية تعمل للمس بالوحدة الوطنية الترابية لهذه الدول. لعل غلاة سياسة حبس المغرب في قضية الصحراء المفتعلة وسعيهم المستمر الى فصلها وإقامة دولة تابعة فوق ترابها يراهنون على أن يجعلوا منها دُمَّلا عاتيا (gangrène) ينخر جسم المغرب ويؤذيه ويشل حركة تنميته بما يجعله غير قادر على أخذ مكانه في ميزان توازن القوى الذي تقوم سياسة الجزائر حيال الصحراء على حساباته. فماذا جنى المغرب على الجزائر لتعاقبه شرا على ما أسدى الى جزائر الثورة المكافحة من سند ودعم وإيواء لقادتها وزعمائها فوق أرضه؟ في هذه الأجواء القاتمة انطفأت شمعة اتحاد المغرب العربي الذي كان أمل الجماهير المغاربية خاصة في الجزائر والمغرب وتونس. وها هو اليوم يقدم عن نفسه صورة شبح متآكل مرعب، مظهره المزعج هو التسابق الى التسلح. فضد من تتسلح الجزائر؟ ألا تكفي فترة 28 سنة بلغها عمر هذا التخبط في سياسة توازن القوى؟ ألا ينبغي أن يقوم قادة المغرب العربي باستخلاص العبرة من الحصيلة السلبية التي حصدتها الجهود أيام الاستعمار وبعده لإقامة صرح الاتحاد المغاربي بعيدا عن الحسابات الضيقة التي آن الأوان لتجاوزها؟ لايُتصور في عالم السياسة الجديد أن ترتكب النظم السياسية خطأ حافلا بالمخاطر على مصالحها ثم لا تتراجع عنه، وتظل تراوح مكانها ومواقفها ولاتراجع تصوراتها. إن هذا النوع من السلوك يعتبر في علم الطب النفساني مرضا يستعصي على العلاج، يصاب المريض به بفقد الذاكرة، ويبقى مشدودا الى لحظة تاريخية لا تختزن ذاكرته غيرها، ولا يتحدث إلا عنها. هذا النوع من الانحباس في لحظة تاريخية تمتد بلا نهاية أطلقت عليها قديما عبارة اليُوشَعية، نسبة الى النبي يُوشَع بن نون، طبقا لما جاء عن أخباره على لسان أحبار اليهود من أن الله أوحى إليه وهو في سن الثمانين أن يبعثه رسولا الى قومه. فقال: ياربي إني كبرت ولن أتمكن قبل وفاتي من تبليغ هذه الرسالة. لكن الله ألح عليه، فرغب إلى ربه أن يوقف له الشمس، ليكون يومه طويلا لاتعقبه ليلة. ويقول أحبار اليهود إن الله استجاب له إلى أن بلغ الرسالة على امتداد سنوات لم يعقبها ليل إلى أن توفي وهو ينشر الدعوة. هذا النوع من السياسات الجامدة في لحظة معينة لا تنفتح على مراجعة الذات من أجل التغيير أسميها السياسة اليُوشَعية. وكلي أمل أن يعمل على وضع حد لهذه اليوشعية صديقي وأخي الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة الذي امتدت علاقاتي به طوال سنوات، ويبادر إلى تحقيق الوئام بين الجزائر والمغرب لفائدة المصالح العليا المشتركة خصوصا وهو صاحب مشروع الوئام الوطني الجزائري فلم لا يحقق مشروع الوئام المغاربي؟ ويرفع يد الجزائر عن الصحراء المغربية التي تؤكد الجزائر أنها غير معنية بها، لتترك مباشرة حلها إلى الشرعية الوطنية المغربية، وأن يرد على التحيات الطيبات التي يتوجه بها إليه وإلى الجزائر الشقيقة جلالة الملك محمد السادس بمثلها أو أحسن منها. إن ملك المغرب إذ يوالي مساعيه لإصلاح ذات البين إنما يسعى إلى تحرير منطقة المغرب من التوتر لإتاحة فرصة إنعاش الاتحاد الذي يوجد بسبب قضية الصحراء المفتعلة في حالة اختناق. وهذا هدف مشترك بين الجارتين ينبغي التسارع إلى تحقيقه. وأعتقد أن الرئيس بوتفليقة وهو المكافح المجاهد مؤهل بجميع المقاييس لإنجاز لحظة التصالح الجزائري المغربي التي سيكتبها في سجل منجزاته. فإلى ضميره الوطني أتوجه بهذه الدعوة الأخوية وما أظنه إلا مستجيبا لها. عبد الهادي بوطالب