حين تتوغل داخل المدينة القديمة بالدارالبيضاء، يفتح لك هذا المكان المنكوب مآسيه، وهو يفصح عن واقع حاله، من خلال الصورة التي تشكلها شهادات العشرات ومئات العائلات بهذه المنطقة. فالمدينة القديمة، التي تضم الآثار الأكثر قدما بالدارالبيضاء تتراجع مكانتها، وهي على هذا الشكل تجعل المواطنين ينفرون منها ولا يرون فيها إلا الصور التي تشمئز منها النفس، كتراكم الأوساخ وانتشار المتشردين بين زواياها• عشرات الساحات الفارغة بالمدينة القديمة، تشكل علامات على ترحيل قسري للساكنة شرع فيه منذ سنوات إلى أحياء أخرى بعيدة بأطراف المدينة..قبل أن يتوقف المشروع، ليرتفع معه واقع الفقر والضيق والحرج الاجتماعي بمدينة تفقد بريقها تدريجيا، في ظل صراع مستمر بين ثقل الماضي وتناقضات الحاضر، بينما تبحث عن نفسها الآن من جديد في السياسات العمومية. ملامح مدينة فزعى ينتظرون جنائز أخرى في كل لحظة وحين، يعيشون في خوف دائم ورعب مستمر..الخراب يتزايد بصورة مستمرة..قصص القتلى الذين قضوا نحبهم تحت ركام الانهيارات تجترها ذاكرة تأبى النسيان، عاشوا بينهم وتقاسموا معهم أوجه مختلفة من حياتهم اليومية..تاريخ «الفواجع» لا زال مكتوبا من خلال أطلال الكثير من الدور التي سقطت وقتلت، ومثيلات لها منتشرة في كل درب وفي كل زاوية، يحتمي بها المئات من العائلات تعودوا النطق بالشهادتين كلما آووا إلى أفرشتهم، يواجهون بها الموت وهم مضطرون إليه، لأنهم ببساطة لا يملكون مكانا آخر يذهبون إليه. من ذا الذي يمكن أن يطفأ نيران الغضب، داخل صدور دختلها «ثورة» مطلبية مسعورة تأخذ في الانفعال شيئا فشيئا..كلما شيعوا قتلى المنازل المنهارة، يرون في ذلك قضاء وقدرا، وكثيرا من إهمال الدولة.. إنهم ينتظروا أن يعمروا بيوتا أخرى يتنفسون فيها الحياة بعد سنوات طويلة من الانتظار..بعيدا عن سكن الموت بمدينة «الرعب»، التي تحتضن قصصا مخيفة عن الذين قضوا نحبهم والذين ينتظرون.. هكذا تبدو المدينة القديمة اليوم، مدينة يمتزج فيها الحزن بالقهر، حين تمر في شوارعها وتجوب عيناك في أرجائها تتسابق الأسئلة إلى ذهنك في محاولة لفهم وتفسير كل ركن مر ناظرك عليه، وكلما اقتربت من الإجابة عما يدور في خاطرك تدفقت في ذهنك أسئلة أخرى... منازل متآكلة تطغى عليها الرطوبة بشكل تختنق معه الأنفاس إلى جانب ظلام الغرف الضيقة، ممرات وعرة، شقوق في كل مكان، رائحة نتنة، ومنعرجات مخيفة..،غرف تغزوها الشقوق ومراحيض مشتركة يستعملها أزيد من 18شخصا، وسط مساكن صغيرة مكدسة وضيقة ك «علب السردين» أشبه بالجحور والقبور الصامتة، تتزاحم فيها أسرا بكاملها، يحيون فيها حياة البؤس والعوز والفاقة، في صورة معاناة من نوع خاص، لا تخطئ مظاهرها العين.. تختفي هذه «المعازل» التي تحمل ملامح سكن تستوطنه أسرا سحقتها الظروف المعيشية، (تختفي) وتتيه وسط مواقع أثرية وحضارية مرتبطة بتاريخ المنطقة، التي تتعايش فيها كل المتناقضات الاجتماعية. في صورة تشكل عنوانا لصعوبة الحياة داخل مدينة عتيقة تتجلى ملامحها في مؤشرات مزعجة غيرت كثيرا من خارطة المدينة، وجغرافية هذه الأحياء بحكم الثقل السكاني الذي يوجد بها، وضغط المشاكل الاجتماعية المتراكمة التي يقع عليها..البحر والمقاهي المجاورة ملجأ لمن لا سرير له ليلا بين قائمة عائلته الطويلة، حيث تتحول الأزقة رغم ضيقها إلى حاضنة الأطفال والشباب... تلك هي ملامح مدينة بلا «ظلال» تقيها هجير القسمة الجائرة والموازين المختلة. رائحة الموت.. لم يكن حادث مصرع 9 أشخاص جراء انهيار منزلين بزنقة سيدي فاتح ودرب المعيزي مؤخرا، (لم يكن) الأول من نوعه، لكنه كان الأكثر إيلاما بعدما أودى ضمن هؤلاء القتلى بحياة 4 أطفال في عمر الزهور، وفتاة لم تتجاوز 18 سنة من العمر. ليفتح ذلك مجددا ملف البيوت والمباني الهشة التي ظلت خارج جغرافية الحكومات المتعاقبة واهتماماتها، وهي بيوت على حافة الانهيار، تطبعها العشوائية والرطوبة الخانقة وانتشار النفايات والفئران.. كان نزولنا الميداني إلى المدينة للإطلاع عن كثب والالتقاء بالناس وتلمس الواقع الذي يعيشونه، وأثناء تجولنا في المدينة وتحديدا في الأحياء المنكوبة التي أصبحت في أماكن عديدة بقايا مباني أو أطلال متراكمة فوق بعضها، مشاهد من الأسى والألم، أناس يعيشون في «خيام بلاستيكية»، وبعضهم يعيش بين الخراب، يسكنون في أماكن يمكن أن تكون مقبرة لهم.. من الذي يرغمهم على ذلك؟؟..، ألف حكاية وحكاية لأولئك الناس عن معاناتهم وإصرارهم على البقاء في منازل يطاردهم فيها الموت. واستفهامات كثيرة تتركها صورالمدينة العتيقة، تتعدد بتعدد ظروف الأسر التي تستوطن الفضاء بين ركام الانهيارات التي تتكرر، حول تدبير معاشهم اليومي، وقضاء مصالحهم الخارجية، وتمدرس أطفالهم وعلاقاتهم الاجتماعية. وفي الصورة، أكوام من بقايا بنايات سكنية لم تستطع الصمود فهوت بمن فيها من السكان، وبعض ضحايا الانهيار ممن غادروا المستشفى ينتشرون في فضاء الشارع قبالة إدارة المعرض الدولي بالدارالبيضاء، اختفت كسورهم في جبس طبي، ومن أنهكهم الألم منهم، يرقدون على فراش المرض داخل خيام بلاستيكية تأوي من سبق وأن هدمت منازلهم في سنوات سابقة، فيما عائلات تكتوي بنار التشرد في العراء. بينما ترى الخوف والرعب في عيون من لا تزال بيوتها المتآكلة قائمة بين أشلاء وبقايا البنايات المهدمة، تحت التهديد المستمر بانهيار وشيك في كل لحظة وحين..، لا يختلف في تفاصيله عن سلسلة الانهيارات التي عرفها الحي طيلة السنوات الماضية، فيما الاختلاف يسجل فقط في عدد الضحايا التي تخلفها الانهيارات المتجددة كل سنة. في حين تلاحق تهديدات بالإفراغ ساكنة مجموعة من ساكني المنطقة، في محاولات لاستئصال هذه الأسر من مساكنها. وبعد أن شهدت على وجودها هناك سنوات، أصبحت محور قضايا مفتوحة بمختلف محاكم المدينة، حركت تفاصيل ملفاتها المثيرة احتجاجات واسعة من قبل المتضررين، من دون أن تجد طريقا للخلاص. أحكام بالإفراغ تبدو في شكلها قانونية، لكن ما يثير الاحتجاج حولها هو أنها لم تأخذ بعين الاعتبار الواقع الاجتماعي للأسر المتضررة، التي يهددها التشرد.. معاناة وقهر مركب في تفاصيل معاناة رحلة يومية امتدت لسنوات، وقفت «التجديد» في زيارة ميدانية لعين المكان، على أن أزيد من 5000 أسرة يشربون من مياه لا تأتيهم إلا عن طريق «الكرابة» الذين يطرقون أبواب منازلهم لبيعها لهم، أو عن طريق التنقل إلى «السقاية» من أجل جلبها مباشرة..في ظل تعقيد مشكل تزود أحياء المدينة القديمة بالماء من خلال ربط العداد المائي بمساكنهم. على امتداد هذا الحيز الجغرافي الممتد بالمدينة القديمة ينتشر «الكرابة» بين أزقة ودروب المدينة، تراهم من العاشرة صباحا إلى ما بعد العصر من كل يوم يزاحمون النساء والرجال والشباب في ملأ الأواني القصديرية من «سقاية» تشكل مصدر تزود السكان الذين لا يتوفرون على عداد مائي بالماء الصالح للشرب، ومورد رزق لفئة من «الكرابة». أصوات العربات المختلف يختلط بزحام أزقة أحياء المدينة القديمة وتلوثها وضجيجها المعتاد، ويرتفع شيئا فشيئا في الطريق المؤدية إلى المساكن التي تعتمد على شراء الماء، حين تنادي من أعلى المسكن في زنقة بوخويمة على «الكراب»، سيدة مسنة تجاعيد وجهها توحي بما قضته من سنوات في ذات المكان، وهي تطل برأسها من النافذة، «بوشعيب، طلع عفاك شي جوج طواروا ديال الماء»، تلمع عينا بوشعيب وهو ينوء بحمل القنينات القصديرية ويقاوم ثقلهما بألم دفين ليغيب فترة في ظلام الدرج، قبل أن ينكشف عنه ضوء شمس باهت بسطح المنزل وهو يفرغ «الطواروا» في برميل تختزن فيه السيدة الماء للاستعمال بالأغراض المنزلية. بعد ذلك يعود بوشعيب وقد تصبب العرق على تقاسيم وجهه المكدودة بأجر زهيد وإن كان لا يتجاوز درهما ونصف فهو ينسيه التعب والمعاناة، وعلى الرغم من تواضع كسبه تلمع ابتسامة عريضة لحظة جر عربته مرة أخرى، حيث الإصرار على التقدم في منعرجات لا حدود لها.. والمخاطرة بصعود أدراج ضيقة مظلمة لحمل قنينات الماء إلى طالبيها أينما وجدوا في طبقات مساكن تقليدية بطبعها وشكلها، مقابل مبالغ زهيدة لا تتعدى 80 سنتيما لقنينة من سعة لترين أو ثلاث لترات. تشير الإحصائيات الرسمية إلى وجود حوالي 25 حيا و25 نقطة تزود بالماء الصالح للشرب، بمعدل سقاية في كل حي من هذه الأحياء، يؤكد ل «التجديد» منتخب بمقاطعة سيدي بليوط، أن ما يقارب 50 ساكنا تقريبا من مجموع ساكنة كل حي، لا تتوفر مساكنهم على عداد مائي، رغم التسهيلات التي سبق وأن وفرتها البلدية في هذا الشأن، من خلال تجربة ما سمي ب «الخط الأزرق»، والتي بموجبها أصبح متاحا للساكنة توفير عداد مائي بمنازلهم مقابل ثمن رمزي لا يتجاوز 60 درهما في الشهر، لكن التجربة لم تجد استجابة من الساكنة المعنية. وتتمة الصورة، تكشفها دراسة رسمية تشخيصية للوكالة الحضرية بمدينة الدارالبيضاء، عن وضعية المدينة القديمة، وهي تفصح على أن أغلبية المنازل في وضعية غير لائقة وتفتقر لأبسط التجهيزات الضرورية، وتظهر في التفاصيل، أن 20 في المائة من ساكنة المدينة لا يتوفرون على الماء الصالح للشرب، و6 في المائة منهم لايتوفرون على الكهرباء، بينما 6.6 في المائة من هذه المنازل تنعدم بها شبكة الصرف الصحي. أقسام الإيواء المؤقت.. والأمل المنشود تتسارع الآن أمام حصيلة خراب المدينة القديمة الثقيلة، الخطى وتتعدد مساراتها في سبيل البحث عن مخارج لأزمة لطالما استعصت على كافة محاولات الحل..، مدارس مهجورة تأوي قاطني البيوت الآيلة للسقوط..، لن تستقبل الأقسام التلاميذ، ولكن ستعوض تلاميذ هجروا هذه المدارس التي أغلقت بالمنطقة، أسرا حملت إليهم رسائل سلطات المدينة خبر الإخلاء، وعلى وجه السرعة حماية لهم من خطر الموت..كان الرفض والتردد في البداية..ثم لم تلبث قاطرة الانتقال أن تحركت، لقد قرروا الرحيل..والمأمول أنهم بالأقسام سيجدون أملا في حياة أطول.. مع إطلالة فجر الثلاثاء الماضي كان عشرات الأفراد يجتهدون في حمل أثاث غرفهم إلى الأقسام المخصصة لإيوائهم..وهم يسابقون «طيف» الموت» الذي لا زال يحوم فوق منازل المدينة، حتى لا يتكرر المشهد ذاته لأناس عاشوا هنا منذ مدة، كانوا يؤمنون بأن البيت وطن لا يجب مغادرته، فوجدوا بين الخيارات أن الموت في البيت أرحم من هجرة غاب فيها بديل أكثر أمنا لأفراد أسرهم. سلطات المدينة تؤكد أن الإجراء آلية مؤقتة في انتظار ترتيب الاجراءات القانونية المرتبطة بإسكانهم في مشاريع السكن الاجتماعي...والقائمون على تدبير الشأن المحلي يتمنون على أن يظل الوضع مؤقتا، وينتظرون ضمانات عن مدى نجاعة الامتحان الذي دخلت فيه الحكومة الجديدة عبر مسؤولي وزارة الداخلية الإقليميين برفقة المسؤولين المحليين بالدارالبيضاء. مشروع نموذجي لترميم المعالم التاريخية تتواصل الأشغال في إطار مشروع إعادة تهيئة وتأهيل المدينة القديمة للدار البيضاء، الذي يجمع بين إعادة تأهيل العمران والبنيات التحتية? والتأهيل السياحي والثقافي? وإعادة هيكلة التجارة والخدمات? وتوفير مخطط للتنمية الاجتماعية يحسّن ظروف عيش بساكنيها? ومخطط للتنمية المعمارية يرقى بالمدينة القديمة التي تضم الآثار الأكثر قدما بالدارالبيضاء إلى مستوى المدن العتيقة التي تواكب سيرورة التحديث وتحافظ في الوقت نفسه على موروثها وأصالتها ومعالمها التاريخية. ويهدف هذا المشروع الذي يمتد إنجازه على ثلاث سنوات «2011- 2013»، إلى رد الاعتبار لهذا الفضاء التاريخي الأصيل الذي يعد القلب النابض والتاريخي للعاصمة الاقتصادية للمملكة المغربية بما يمكنها من استعادة توهجها ويضمن الحفاظ على الذاكرة التاريخية العريقة للمدينة. ويندرج الذي أعطى الملك محمد السادس، انطلاقته سنة 2010، في إطار الجهود الرامية إلى التصدي إلى الاختلالات الكبيرة والمشاكل التي تؤثر سلبا على صورة المدينة العتيقة والمعيش اليومي للسكان.