أكبر من مجرد صدفة أن تخرج أزيد من ثمان صحف في يوم واحد وتجعل عنوانها الرئيسي أو عناوين ملفاتها الخاصة، الحديث عن الحريات الفردية وقضية العلاقات الجنسية خارج الزواج بين الراشدين. ففي يوم واحد، خصصت خمس صحف ملفات حول هذا الموضوع بمقاربات مختلفة، فمن «الجنس الحلال» إلى «قصاير العيالات في الليل» إلى «المراهقات الثائرات بلا ربيع» ثم ملف « يعيشون حياة الأزواج بدون عقد زواج»، هذا فضلا عن ملف أعدته مجلة فرانكفونية حول «لماذا الخوف من الجسد» وصفحة خصصتها جريدة فرانكفونية اقتصادية للحرية الجنسية، دون أن ننسى العنوان الرئيس لإحدى الجرائد الوطنية التي خصصته للحديث عن:»من يريد أن يخرج الجنس من قبضة الدين والقانون؟»، ومقالات رأي عبرت عن صريح موقفها الداعم لمشهد مسرحية صادم وحوارات صحفية وإلكترونية تم إجراؤها مع الممثلة البطلة فيها، كما ولو كان الحدث أثار ردود فعل قوية قسمت المجتمع إلى قسمين، الأول مهاجم ومعترض والثاني مدافع عن هذه الحريات منافح عنها! في الإعلام، لا مجال للصدفة، والتقدير المهني صارم لا يعرف العبث، خاصة إذا وقع مثل هذا التواطؤ وبهذا الشكل. يمكن أن تفهم هذه الكثافة الإعلامية إذا كان حجم الحدث كبيرا، أو إذا جر وراءه نقاشا مجتمعيا ساخنا، وصدرت ردود فعل نقلت هذا النقاش من إطاره الافتراضي الوهمي إلى إطاره المجتمعي الحقيقي. لكن من الناحية الواقعية، شيء من هذا لم يحصل، فقد عبرت بعض الجمعيات الحقوقية المعروفة بهذا التوجه عن موقفها، وهذا ليس جديدا بالنسبة إليها، فقد عبرت عنه أكثر من مرة، أما بالنسبة للحدث الثاني، فإن المسرحية التي زاد منسوب الجرعة فيها إلى الوقوع في التطرف الإباحي، فإنها شكلت حدثا نشازا لم يستصدر إلا رد فعل فنانين وانتهى النقاش، لولا حرص بعض وسائل الإعلام الورقية والإلكترونية على إجراء حوار مع هذه الممثلة لأجل الإثارة ليس أكثر. فلا الاعتبار المهني، ولا حجم الحدث في الواقع، ولا حجم النقاش المجتمعي الدائر حول القضية، يبرر هذه الكثافة الإعلامية التي نزلت في يوم واحد في قضية الحريات الفردية والحريات الجنسية، لاسيما في هذه الظرفية السياسية التي يقود فيها الإسلاميون الحكومة، ويتفاعل نقاش سياسي ساخن حول العديد من القضايا التي تخص الحكامة والمال العام. لا ينبغي الاستباق إلى قراءة النوايا، لاسيما وأن بعض الصحف قدمت الموضوع ضمن رؤية متوازنة، حاولت أن تقرب فيها القارئ من الحجج التي يستند إليها دعاة التطرف الإباحي والمستندون إلى المرجعية الدستورية. لكن رغم ذلك يبقى هذا التواطؤ و توقيته مفارقا، يصعب تفسيره بمجرد الصدفة أو التقدير المهني المبني على الحدث وقوته والحاجة إلى المعاجلة الإعلامية له. التفسير الممكن لهذا التواطؤ، خاصة وأن الدعوة التي أطلقت بخصوص الحرية الجنسية ومصدرها وتوقيتها، وكذا توقيت تقديم المسرحية ومكان عرضها، وباستحضار عدم انسياق الحركة الإسلامية في هذه المعركة المفتعلة، التي يريد بها خصومها جرها إلى مربع غير مربعها، كل ذلك لا يستبعد فرضية عودة بعض الجهات لنفس أسالبيها السابقة في افتعال أو توظيف النقاش الهوياتي القيمي، لصرف الرأي العام عن القضايا الجوهرية المتعلقة بالفساد والحكامة والمال العام. لقد رأينا هذا الأسلوب أكثر من مرة، فرأيناه في معركة إصلاح قطب الإعلام العمومي حين تم الدفع بورقة الهوية والقيم الحداثية، واليوم، بعد أن وصل النقاش حول قضية الحكامة والمال العام والفساد هذا المستوى الساخن الذي لم يصل إليه من قبل، تفتعل نفس النقاشات القيمية والهوياتية الافتراضية التي لا قاعدة اجتماعية لها! نخشى أن يكون القصد من تحريك هذه النقاشات، هو توظيف ورقة الفن لصرف الحركة الإسلامية عن أولوياتها، وشغلها بمعارك وهمية تنشأ عنها ظروف تدفع تدريجيا إلى التحلل من الإلتزامات والتعاقدات مع الشعب في الدمقرطة وإدخال الحكامة إلى كل المؤسسات، بما في ذلك المؤسسات الإعلامية والفنية.