بطلة فيلم ما، في السينما العربية، تمثل دوار إغراء، لباس كاشف، حركات مثيرة.. ينتهي الفيلم، يبدأ الجدل الإعلامي، بين من يصف المشاهد ب" الإباحية" فيندد و ينكر ، وبين من يصف المشاهد ب " الإبداعية" فيشجع ويدافع. الأول سمى المشهد بعلامة إسمية " الإباحية " و الثاني سماه " بالإبداعية ". شاب، على قناة عربية ما، يبوح بأسراره الجنسية، و يدعو إلى احترام مثل هذه الميولات ، و الاعتراف بها.. ينتهي البرنامج، يبدأ الجدل الإعلامي، بين من يعتبر تصريحات الشاب "شذوذا" ، فيدعو إلى محاسبة البرنامج، وبين من يدافع على هذ الشاب ويعتبر تصريحاته تدخل في إطار " حرية التعبير" . فالأول سمى بوح الشاب بعلامة إسمية" الشذوذ" و الثاني سماه " بحرية التعبير". مجموعة من الشباب، خرجت في مسيرة احتجاجية سلمية تندد بظلم و استبداد الحاكم و تطالبه بالإصلاح.. يبدأ النقاش، بين من يصف مسيرة الشباب ب " حركة فتنة"، فيحذر منها، و من يصفها ب "حركة إصلاح " فيدعو إلى تعزيز نشطائها. حركة مسلحة في فلسطين، تقذف صواريخها في الأرضي المحتلة.. هناك من يصف العملية " بالإرهابية و التخريبية " فيدينها، و هناك من يصفها " بالمقاومة و الجهاد" فيباركها. دولة ما، تنفق الأموال الطائلة على تنظيم المهرجانات الفنية، فتستقطب العشرات من الفنانين العرب و الأجانب.. قبل المهرجان وبعده، يشتد النقاش، بين من يصف الحدث بمناسبة " تبذير المال العام" فيندد، و بين من يصفه بمناسبة " تنموية و سياحية " فيبارك. هذه خمسة أمثلة، من مجالات مختلفة، الأول فني، و الثاني شخصي، و الثالث سياسي، و الرابع صراع مسلح، و الخامس مالي. و في كل مجال، هناك صراع في توصيف الأعمال و السياسات ب " علامات إسمية" معيارية، هي مفاهيم و مصطلحات تنتمي إلى مرجعية معينة. هذه العلامات هي "قيم" يزن بها كل طرف، ما يراه ويفكر فيه، فتقييم مشهد واحد، ينتج أحكاما قيمية متضادات، إباحية يقابلها إبداعية، الشذوذ يقابله حرية التعبير، حركة فتنة تقابلها حركة إصلاح، التخريب يقابله الجهاد، التبذير يقابله السياحة. نطرح السؤال الآتي: لماذ نقيم سلوكا واحدا بتقييمات مختلفة تصل إلى درجة التناقض الصارخ؟ إن هذه الأحكام القيمية المتضادة تصدر عن فاعلين يجمعهم وطن واحد و مجتمع واحد..، لكن مرجعيتهم القيمية مختلفة. نعم التعدد و الاختلاف سنة كونية و مجتمعية لا راد لأمر نواميس الله تعالى، بل إن في التعدد، استمرارية للحياة و معرفة أعمق بكل معانيها، لكن هل من المعقول أن نختلف في القيم الكبرى التي تشكل أرضية تعايش الإنسان و ضمان حفظ نظامه من الهلاك المادي و المعنوي؟ من الغريب أن يقع الاختلاف؛ هو حول قضايا كبرى، قضية المال و الأرض و العرض و العدل و الخير و الجمال و الحق و الحرية ..، فحينما يشتد الخلاف حول هذه القضايا الإنسانية الكبرى، يبدو وكأن المختلفين حطموا كل مرجعيتهم بما فيها؛ الإنسان كمرجعية مشتركة، فيصبح الإنسان مهددا في كل مكوناتهم الوجودية، و هذا وصلت إليه تيارات مابعد الحداثة، ففي التشكيل المعرفي المادي في الغرب، تتعدد تعاريف الأسرة، فمثلا؛ الأصل هو القول؛ إن رأيت زوجا مع زوجته و أبنائه سميتهم بعلامة إسمية هي " الأسرة "، لكن في هذا الغرب المادي، زوج إن كان ذكرا أو أنثى، و زوجة إن كانت ذكرا أو أنثى مع أطفالهم، يضعون لهم علامة إسمية هي " الأسرة "، وقد يصل الأمر إلى تعريفات جديدة للأسرة؛ امرأة تعيش مع كلبها يسمون هذا العيش أسرة !. و لك أ ن تتأمل في القاموس المصطلحي الصهيوني، ففي الأصل مثلا؛ سكان بلد ما، احتلت قوات مسلحة أرضهم، فحملوا السلاح لمواجهتها، هذ المشهد علامته الإسمية عند كل إنسان الفطرة هو " الدفاع عن النفس"، لكن العقل الصهيوني سيعيد تعريف هذا الاسم؛ قوات مسلحة، دخلت إلى بلد ما، إن واجهتها معارضة مسلحة، فأبادتها، فهذا "دفاع عن النفس"، فيصبح للاسم الواحد العشرات من التعريفات !. وهذه أخطر معركة يعيشها الإنسان المعاصر، إعادة تعريف مصطلحات القيم الكبرى انطلاقا من الواقع المتغير، بعيدا عن كل مرجعية إنسانية نهائية، عرفت قيم الإنسان الكبرى بتعريفات لا يطرأ عليها تغير الزمان و المكان، فالعدوان على شعب ما مدان فطريا، لا يقبله الملحد و المؤمن.. و لذلك في المنظور الإسلامي؛ إن الله تعالى حينما علم آدم الأسماء، علمه كل الأسماء، وليست فقط الأسماء المادية، كما جاء عند بعض المفسرين، بل حتى الأسماء الإنسانية الفطرية، علمه معنى الإحسان و الحياء و العدل و الجمال و الصلاح ..، وسياق الآية يدل على ذلك، لأن الملائكة احتجت على الاختلال القيمي " أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء"، فكان آدم خليفة، بما تعلمه من القيم الكبرى التي تحفظ نظام الأرض و الأنفس. فهذه المرجعية الفطرية الآدمية، عرفت أسماءها/ مصطلحاتها، وبعد استيعاب الإنسان لها، يحقق مناطتها في الواقع، وليس الواقع من يتحكم فيها. إن الاختلاف و الخلاف في هذه القيم الكبرى، منذر بانتحار الإنسان، و أي حديث عن تعددية قيمية في هذا الإطار، مجرد وهم ، إنما السبيل هو العودة إلى مرجعية الفطرة الأولى، المحترمة للتعدد في إطار وحدة القيم الكبرى. [email protected] موقع الكاتب