الإنسان يفيض من الأسرة كما يفيض الماء من القِدر، بقدر ما تكون الحرارة قوية بقدر ما يكون الفيضان قويًّا، وبالمثل فبقدر ما تكون أواصر الاجتماع قوية وروابط الزواج حقيقية بقدر ما يفيض الإنسان من قِدر الأسرة لينطلق في الزمان ويمتد في المكان. إن للكلام ضرورته وأسبابه ودواعيه، وله أهميته من وجه إيجابي آخر، لأن الكلام عن الأسرة هو الكلام عن كل شيء، فهو يستبطن المجتمع والأمة والوحدة والقومية والوطنية والدولة مرورًا بالقبيلة والفصيلة والعشيرة... إنه الكلام عن وجود إنسان وعن كل ائتلاف بشري: }لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَ اللهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ{(الأنفال:63). والأسرة هي نواة للتعدد والتوالد، هي خلية تكوين الإنسان وتشييده وإعداده، بل هي أساس صناعة الإنسان، «ما من مولود إلا يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أويمجسانه» (رواه البخاري). الفرد والأسرة الإنسان يفيض من الأسرة كما يفيض الماء من القِدر، بقدر ما تكون الحرارة قوية بقدر ما يكون الفيضان قويًّا، وبالمثل فبقدر ما تكون أواصر الاجتماع قوية وروابط الزواج حقيقية بقدر ما يفيض الإنسان من قِدر الأسرة لينطلق في الزمان ويمتد في المكان: «تكاثروا تناسلوا فإني مباه بكم الأمم يوم القيامة» (رواه البيهقي). لكن ليس كل كلام عن الأسرة هو كلام إيجابي ونافع؛ فمن الكلام ما كان أزمة، وكلما تركب هذا النوع من الكلام وتعدد كلما تركبت الأزمة وتعددت، ولذلك صح القول أن «من الكلام ما قتل»، }وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ{(البقرة:191). إن أشد ما تعاني منه الأسرة اليوم كثرة «الكلام» الذي يستهدفها؛ كلام اختلط فيه السوسيولوجي بالأنتروبولوجي، والسياسي بالاقتصادي، والأدبي الشاعري المجرد بالفلسفي الأكثر تجريدًا، والأيديولوجي بالسيكولوجي، ثم تحضر إحصاءات وأرقام وجداول وأحكام لا ندري ما مصداقيتها، ووسط هذا كله، تغيب خصوصية الأسرة وتتوارى المشاكل الحقيقية، فتظهر أشباح القضايا للوجود مفتعلة ومختلقة تمامًا، كأشباح مثُل أفلاطون. إن السكوت أمام هذا النوع من الكلام الذي أصبح للأسف فاشيًا وجارفًا، يعطي لهذا النوع من الكلام حجية وصلاحية في أن يروج ويموج، والصمت أمامه بأي مبرر من المبررات يشكل عجزًا، لأن الحقيقة تتوارى وتتخلف، فإذا سكت الذي يعتقد أن رأيه هو الصواب ونطق الذي يعتقد أن رأيه هو الخطأ، فمتى سيظهر الحق؟ وهل كل حق يظهر بالصمت والسكوت؟ مشاكل الأسرة للأسرة مشاكل، ونوع من هذه المشاكل هو مصاحب لكينونتها لأنه لصيق بخصوصيتها، ومن هنا كانت هذه المشاكل من نوع العقبات التي على الأسرة أن تقتحمها، ولا نجعل منها فضاء للمغالاة ولإطلاق أحكام جارفة، إنها في كل أسرة، فهي في أسرة العصر القديم وفي أسرة العصر الوسيط وفي أسرة العصر الحديث والمعاصر، وبكل تأكيد هي في أسرة عصر المستقبل.. إنها عقبة يجب أن تقتحم: }فَلاَ اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ{(البلد:11). أمام هذه المشاكل المفترضة توجد مشكلتان مفتعلة، افتعلها هذا النوع من الكلام الذي نطلق عليه «علم الكلام الأسري»، وهو مزدوج السلبية: الأولى: إنه ولّد خطابات مشحونة بمصطلحات غير مفهومة، كوّنها في سياق وأسقطها على الأسرة ومشاكلها في سياق آخر، فزاد إلى مشاكل الأسرة مشاكل ليست لها على الحقيقة. الثانية: إنه يشكل في مجموعه عقبة كأداء أمام موضوع الأسرة، حيث تصبح أمامنا قضيتان: قضية الأسرة ومشاكلها التي يجب أن تحل، وقضية هذا الكلام المتراكم كيف نتعامل معه. هنا يصبح الخطاب الإسلامي أمام جبهات متعددة: 1 كيف يقدم النصوص الشرعية ذات الأحكام الصافية من دون تحميلات أيديولوجية وتفريغات مذهبية، يأخذ الأحكام من النصوص، والنصوص من المصادر، ويفقه كل ذلك بالأسباب العلمية والطرق المنهجية؟ 2 كيف يقدم الأحكام الشرعية بالتفعيل مما تعاني منه من تعطيل، وذلك على جميع المستويات؟ 3 كيف يذب عن هذه الأحكام السلبيات التي تلصق بها، وينفي النعوت القدحية التي توصف بها، ومن ضمنها أن التشريع الأسري هو سبب أزمة الأسرة ومشاكلها.. وأن الحل يكمن من إيجاد تشريع وضعي؟ 4 ثم كيف يرصد المشاكل الحقيقية للأسرة ويتابعها على كل الأصعدة، وكيف يقدم في نفس الوقت حلولاً إيجابية ونافعة؟ إن الجواب يجب ألا يكون مجزءًا، كل قضية تعالج على حدة، بل يتم في طلقة فكرية واحدة، وهذه الطلقة تحتاج إلى حسن الرصد، وجودة المتابعة، والصبر على المطالعة، ثم الصراحة والوضوح، تلك هي محنة الخطاب الإسلامي الإصلاحي المعاصر. أما الكلام الأسري المفتعل للأزمات فهو خطاب متحرر من كل القيود، لأنه ينظر من كبوة تخصصية وأيديولوجية واحدة، وليس هذا كذاك. إننا نتكلم في هذا الموضوع لأسباب منها: أ أن نكون في مستوى الحدث... فإن الخطاب الإسلامي القديم حول الأسرة لم يكن على هذا الوصف من الحدة والصرامة والصراحة، ولم يكن يتناول ذات الموضوعات التي يتناولها اليوم لسبب واحد؛ هو أن الأزمة لم تكن في الماضي وأصبحت اليوم... فالعلاقة بين الزوجين قد تغيرت كثيرًا عما كانت عليه في الماضي، لم يكن الأقدمون يعرفون هذه المشاكل، لأن الأسرة على العموم كانت مستقرة، كل قد عرف حقوقه وواجباته وفق الشريعة الحاكمة والعرف السائد... وليس بصحيح ما يقال إن جانب الحقوق والواجبات كان مختلاًًّ منذ القدم ولم يعالج إلا في العصر الحديث، وكأن في هذا العصر عقولاً والماضي لا عقول فيه، وفي هذا العصر حقوقًا والماضي لا حقوق فيه... إن الأصل في القضية، هي أن هناك تغيرات هزت المجتمع الإسلامي بكل مكوناته، فاهتزت معه الأسرة بكل ثوابتها ومتغيراتها. لا ننكر أن هناك مساسًا ببعض الحقوق من هذا الجانب أو ذاك، لكنه لم يصل إلى هذه الدرجة الكارثية. ب ضرورة تقديم علاج للمرض العضال الذي ألمَّ بالأسرة اليوم، علاجٍ لا يتم بالكلام المجرد، بل يتوجه صوب صيدلية الإسلام العامرة ليأخذ وصفتين، كل وصفة هي أسلوب علاجي ناجح: أسلوب العلاج لمن وقع، وأسلوب الوقاية لمن لم يقع، و»الفقه الوقائي» هو جانب مهم من الشريعة الإسلامية ويجب أن يفعَل. ج رصد المشاكل وتحقيق الشبهات والرد على البدع والمنكرات التي تمرر عبر الفكر المُفتت لكيان الأسرة، والطامع في النيل من أصولها وخصوصيتها. د محاولة البحث عن مقومات السعادة وتحقيقها للأسرة، فالجانب المفقود في الأسر اليوم هو «السعادة»... فكيف نعيد هذا العنصر إلى الحياة اليومية للزوج والزوجة والأطفال؟ علم الكلام الأسري إن «علم الكلام الأسري» هو خطاب أنثوي بطبعه، لأنه يتمركز حول الأنثى بشكل غريب، ولم ينظر إلى الأنثى في خصوصيتها المتزنة لينصفها من موقع إنصاف الرجل والطفل. فكل حق من حقوق الزوجة والزوج والطفل، يجب أن تتم من موقع النظر في حقوق كل الأطراف لا من موقع طرف واحد. ولا ندري ما الذي هيَّج بعض الخطابات الذكورية عن الأنثى، حتى أصبحت هي الفكرة الأساس لإعادة النظر في كل شيء، لأن كل شيء من التراث الإسلامي حسب هذا التصور كتب بعقلية ذكورية، والعقلية الذكورية طبعت ذكوريتها على كل الإنتاجات الثقافية في الحقل المعرفي الإسلامي: العقيدة والفقه وعلوم اللغة والنحو والفلسفة والتصوف... هكذا تتم العودة إلى الإنتاجات القديمة، فيحصل التكلف في البحث والتفتيش عن نص أو نصين تُبنى عليهما ما يفيد أن الخطاب خطاب ذكوري، وبالتالي فإن هناك ظلمًا للمرأة، فمن اللغة يتصيدون من ألفية «ابن مالك» قوله: «إن أصل التأنيث هو التذكير»، ويتصيدون من الفقه أن الفقهاء والأصوليين سيَّدوا الرجل على المرأة بالولاية والقوامة والتعدد، كما سيَدوه في الإرث بأن ضاعفوا حصته على حصة المرأة ضعفين، وفي السياسة الشرعية لا وجود للمرأة، لأن الشروط التي وضعوها للخلافة هي العقل والبلوغ والإسلام والذكورة، وفيمن سيخلُف النبيَّ صلى الله عليه وسلم لم ينصرف الذهن إلى المرأة، بل إلى الرجل فقط. أما الفلسفة الإسلامية وعلم الكلام، فسجلوا عليهما أن خطابهما يتكلم في كل شيء سوى الأسرة وحقوق المرأة والعلاقة الزوجية... فالمرأة لا وجود لها في الخطاب الكلامي والعقدي والفلسفي القديم، أما الكلام عن «الحب» في الفلسفة وحتى في الشعر العربي، فهو ذكوري المنطلق لأنه يخص الرجل أكثر مما يخص المرأة. ويُتهم الخطاب الصوفي بدوره؛ فالحب والوجدان لا يتوجهان صوب المرأة بل صوب الروح. وهكذا يتكلف الخطاب المتمركز حول الأنثى تأويل النصوص، ويتعسف في قلب الحقائق ليخلص في النهاية إلى أن الثقافة الإسلامية هي ثقافة متحاملة على المرأة، أقصت المرأة بالمرة، وسادت فيها الثقافة الذكورية، وطبعت بجنسية الذكور لتكون النتيجة أن المرأة في الأسرة مظلومة ومهضومة الحقوق، وأن هذا الظلم في هدر الحق سببه الموروث الثقافي، ليكون المطلب في النهاية هو تصحيح مكونات هذه الثقافة وإصلاح مسارها، إنها شبهة من نوع جديد، شبهة غريبة وشاذة لأسباب منها: • إن هذا الكلام كله موجه ولا داعي لتبرير ذلك، فالشواهد والوقائع عليه بالعشرات. • إنها تجاوزت الحد المسموح به في معالجة المشاكل الأسرية، لأنها تمادت إلى التراث والثقافة والهوية والتاريخ والحضارة ...إلخ. • إن تمثلها للتراث هو تمثل ناقص وضعيف جدًّا، يغلب عليه الانتقاء والتجزيء والتأويل المفرط والتحامل. • إن القضايا المستنبطة، لم تتحكم فيها قواعد البحث العلمي، بل سادت فيها الرغبة الأيديولوجية والمقصد التجزيئي التقسيمي، كأن المرأة طرف والرجل طرف آخر، وكأن الأسرة هي خاصة بجانب واحد من دون الآخر. • غياب النظرة التكاملية التي تتجسد في النظرة الشمولية من موقع المصلحة العامة ومن منطلق الأصول والمرجعيات، مما يجعل هذا التصور تصورًا تدميريًّا. لنكف الآن عن مطاردة هذا النوع من الكلام الذي لا يثبت على حال، ولنقل إن للأسرة معنى في الوجود، ولها مقومات ومبادئ تجب معرفتها، والجهل بها يوقع في مثل هذه المخازي. فأما المعنى فهو المفهوم الذي يجب إدراكه؛ إدراكه على مستوى اللغة التي نتخاطب بها، وعلى مستوى الاصطلاح الذي يراد لها. الأسرة لغة من «أسر» وهي الدرع الحصينة، وأسره يأسر أسرًا وإسارة: شده بالإسار، والإسار ما شد به وهو القيد، ومنه الأسير، وفي التنزيل: }نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ{(الإنسان:28)، أي شددنا خلقهم. وأسرة الرجل: عشيرته ورهطه الأدنون لأنه يتقوى بهم. أما المعنى الاصطلاحي فهو لا يبتعد عما جاء في اللغة، فالأسرة من الشدة والصلابة والقوة، ولذلك فهي أقوى ما يكون في المجتمع، وتطلق على عشيرة الرجل الذين هم تحت مسؤوليته من زوجة وأطفال وكل من كان تحت إعالته... وإنما سميت بذلك، لأنه بهم يتقوى وبهم يشتد عوده ويقوم صرحه، ولذلك كان أهل الجاهلية كثيري الافتخار بالعشيرة والقبيلة والرهط والآباء والأنساب... وللنسب دلالته القوية هنا، فهو أساس قيام الأسرة، والأسرة هي التي تدل على النسب الحقيقي للرجل أو المرأة، ولا يوجد في أية أمة، ما يوجد لهذه الأمة من خصوصية في المحافظة على الأنساب. وفي الحديث الصحيح: «ليس من رجل ادعى لغير أبيه وهو يعلمه إلا كفر بالله، ومن ادعى قومًا ليس له فيهم نسب فليتبوأ مقعده من النار» (رواه البخاري)، ولذلك كانت العرب تعول في معرفة الرجل على نسبه فيقولون له: «انتسب لنا حتى نعرفك»، ولذلك يكون من المستحيل طلب النسب خارج الأسرة، فالأسرة حافظة للأنساب بل بها يتم. وفي إطار التماس المعنى الاصطلاحي للأسرة الذي يكاد يغيب للأسف فإن للأسرة معالم يجب تحديدها، ومنها الصورة والسبب والمقصد والغاية والمكونات والثمرات والأصول والمرجعيات. إن الفقه السليم لهذه المعالم من شأنه أن يعطي فقهًا صحيحًا وسليمًا لمغزى الأسرة التي نتكلم عنها. إن صورة الأسرة هو بيت الزوجية، إذ لا توجد أسرة خارج بيت الزوجية. وإن سببها هو الزواج، فلا أسرة بلا زواج، وإن مقصدها هو تكثير النسل، فلا نسل بدون أسرة، وإن الغاية من وجودها هي عمارة الأرض وعبادة الله وهما وظيفتان محددتان لها. وإن مكوناتها هما الأب والأم، لا يجب النظر إلى أحدهما من موقع الآخر، بل النظر إليهما يجب أن يتم من موقعهما كزوجين. وإن ثمرتها الأطفالُ الذين من أجلهم تأسست الأسرة: }وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللهُ لَكُمْ{(البقرة:187). وأما أصولها ومرجعياتها فالقرآن الكريم والسنة الصحيحة وكل ما ارتبط بالشريعة الإسلامية واستوحى منها مثل «مدونة الأسرة» وغيرها. هذه المعالم هي التي تكوّن المعنى الاصطلاحي، لأنها تتدخل في تكوين المفهوم الحقيقي لمصطلح الأسرة. ومعالم معرفتها تغلق الباب في وجه، كما تفتحه في وجه كل فهم سليم وتصور سليم؛ وإلى جانب هذه المعالم فإن للأسرة مقومات ومبادئ. فالمقومات تقوم على مقوّم الزمان والمكان والثقافة والتراث والحضارة والعمران، أما المبادئ فتبدأ بمبدأ التعيين والتمكين والتخطيط والتنظيم والتوجيه والإنجاز.