يمكن تحديد أسباب فشل هذه التجربة فيما يلي : أولا عدم القدرة على استخراج مناهج الاستدلال العقلي الموجودة في النص الديني نفسه بدل البحث عنها في التراث اليوناني أوعند فلاسفة الأنوار، ما جعل الدعوة إلى العقلانية لا تنفذ إلى أعماق المجتمع، بل بقي مجالها التداولي ضيقا، فضلا عن صياغتها بمفردات معقدة وأسلوب أكاديمي لم تواكبه نهضة علمية، كما حصل في أوروبا، تستفز العقل الجمعي من أجل احتضانها، بل القوالب الفلسفية المادية التي صيغت في أحضانها العقلانية، كانت على العموم غريبة عن ثقافة المسلمين (الذين يومنون بالغيب ويقيمون الصلاة)، وشوشت هذه الأطروحة على محاولات الإصلاح التي قام بها الفلاسفة المسلمون في التوفيق بين العقل والنقل، وعلى رأسهم شيخ الإسلام ابن تيمية الذي بيّن أن كثيرا من القياسات العقلية ومناهج الاستدلال العقلي لدى فلاسفة اليونان ومن تأثر بهم من العقلانيين المسلمين، إما فاسدة أو موجودة في النص الديني على أكمل وجه، وتبعه في ذلك الشيخ محمد عبده الذي اجتهد في التوفيق بين معطيات الحضارة الغربية وأسس الحضارة الإسلامية. ثانيا الحرب التي أعلنها دعاة المشروع الليبرالي الحداثي على الدين، دون القدرة على نقض أسس المرجعية الإسلامية، فقد اجتهد غلاة المشروع الحداثي الليبرالي في نقد القرآن والسنة من أجل تقويض أركان الدين باعتباره أحد المعوقات البنيوية في وجه التقدم، فتارة يتهمون القرآن بأنه نص غير كامل أو خضع للتحريف، شأنه في ذلك شأن الكتب المقدسة السابقة، وتارة يتهمونه ب"التاريخانية" أي انه نص تاريخي كباقي نصوص التاريخ، وتارة يربطونه بأسباب النزول لا يتجاوز معالجة قضايا الحقبة والبيئة التي نزل فيها، وتارة يطعنون في إعجازه، أما السنة فلا يعترفون بمناهج الجرح والتعديل وعلم مصطلح الحديث الذي تميّز به المسلمون ومكنهم من نخل الصحيح من الضعيف؛ ويركزون في فترة الخلفاء الراشدين على الصراع الذي دار بينهم والاقتتال بين الصحابة، ويقرؤونه على ضوء الصراعات السياسية بين الفرقاء التي عرفتها وتعرفها سائر المجتمعات البشرية، وهم في ذلك كله عالة على المستشرقين الذين ينظرون بخلفية صليبية للثقافة الإسلامية. ثالثا عدم التزام التيار الحداثي بالمبادئ التي دعا إليها، فحارب التعددية الثقافية والتعددية السياسية والصحافة الحرة وإبداء الرأي، وكلها فروع للديمقراطية التي تغنى بها، بل فتح السجون والمسالخ للتيارات السياسية المخالفة، وعلى رأسها حركة الإخوان المسلمين، رغم أن هذه الأخيرة لم تدع للعنف ولم تتورط في أحداث عنف إلا ما لفقته المخابرات الحداثية لما يسمى بالتنظيم الخاص التابع للحركة، وحتى لو حصلت بعض الأحداث المنفردة كرد فعل على همجية النظام البوليسي، فإنها لا تستدعي اعتقال عشرات الآلاف وكل ذلك التعذيب والنفي والقتل لمدة لا تقل عن نصف قرن. رابعا انهزام الدولة العلمانية الحديثة أمام الصهاينة، عدو الأمة الجاثم على صدرها منذ أزيد من ستين سنة، والجري وراء السراب بالدخول في مفاوضات مذلة، والتماهي مع المشروع الأمريكي في المنطقة، وخيانة الثورة، واستهداف المقاومة منذ بدايتها، فبعد عودة مقاتلي الإخوان من معركة 48 بفلسطين التي سطروا فيها بطولات هائلة، وبلوا البلاء الحسن في مقاتلة اليهود، بدل أن يستقبلوا استقبال الأبطال، تمّ اعتقالهم وإيداعهم السجون المصرية مباشرة بعد رجوعهم، كما يحكي عبد الحكيم عامر في مذكراته. خامسا عجز المشروع الحداثي عن الاستقلال عن الدوائر الغربية، ما جعله عرضة للاختراق من منظمات سرية تخريبية، وتبنيه لمفاهيم عن الحرية صادمة للشعور العام، مثل الدعوة للعري، وحق الشواذ في ممارسة أنشطتهم في العلن، وحق العاملات في الجنس أن تحتضنهم الدولة وتنظم شؤونهم،وتنظيم المهرجانات الفنية والسينمائية المنافية للذوق العام، ورفض أي تدخل لعلماء الشريعة في قضايا الشأن العام؛ كل ذلك وغيره جعل التيار الحداثي الليبرالي مقطوعا عن جذوره، غريبا عن مجتمعه الأصلي، الشيء الذي دفع به إلى مزيد من الارتماء في أحضان الأجنبي الذي استغله بدوره لتنفيذ مخططاته في ضرب استقلال الأمة وعرقلة نهوضها وترسيخ تبعيتها وتخلفها العلمي والتقني. سادسا عجز المشروع الليبرالي الحداثي عن تقديم أجوبة لمعالجة إشكالية الفقر والتبعية والأمية والتخلف العلمي والتكنولوجي. ----- * فلسفة المشروع الحضاري بين الإحياء الإسلامي والتحديث الغربي : د.أحمد محمد جاد عبد الرزاق.( الجزء الثاني: ص.535.المعهد العالمي للفكر الإسلامي).