من حالات النصب والاحتيال الفريدة التي شهدها المغرب، عملية ورطت 120 معوزا على الأقل في قروض «وهمية» تجاوزت قيمتها مليار سنتيم، اتهم فيها منتخبون من بينهم رئيس جماعة قروية بإقليم سيدي قاسم، ويرتقب أن يكشف التحقيق عن حقائق جديدة بعدما استمع قاضي التحقيق مؤخرا لأطر بنكية، «التجديد» كشفت خيوط شبكة النصب والاحتيال، نشرت الخبر يوم الأربعاء 21 مارس 2012، فاعتقل رئيس جماعة «زيرارة» على خلفية الملف بعد يومين فقط من نشر الخبر، ووضعه رهن الاعتقال الاحتياطي بسجن أوطيطا رفقة نائب رئيس جماعة «أولاد نوال»، حيث جرت أغلب عمليات تزوير الوثائق المستعملة في عملية النصب والاحتيال. «التجديد» تعيد تركيب قصة «النصب والاحتيال».. زارت جماعة «زيرارة».. استمعت للضحايا والمشتبه فيهم ولهيئة الدفاع.. وسعت لمعرفة الحقيقة أو جزء من الحقيقة، في انتظار أن يميط القضاء اللثام عن حقيقة شبكة النصب والإحتيال والفاعلون الحقيقيون والشركاء. خليفة القايد وجهه شاحب، ظهرت عليه ملامح الإرهاق والتعب، وهو العائد لتوه من حقول الفلاحة حيث يعتصره الألم على موسم فلاحي قاب قوسين أو أدنى من الضياع لولا لطف الله عز وجل، إنه سعيد الفلاح، أو «لخليفة ديال القايد» كما يلقبه شباب كانوا يسردون ل»التجديد» الطريقة التي أصبحوا بها ضحايا شبكة النصب والاحتيال، إلتقيناهم بدوار «النهضة» بجماعة «زيرارة»، حيث يوجد العدد الأكبر من الضحايا، وهو في نفس الوقت، «دوار رئيس الجماعة». سعيد الفلاح، في عقده الثالث، أب لابنين وبنت واحدة، ظل يسكن مع والده في المنزل العائلي رفقة خمس إخوة وأربع بنات، قبل أن يأذن له والده ببناء غرفة بجوار المنزل العائلي ليستقر أسريا. سعيد الفلاح أو «الخليفة ديال القايد»، ورغم ما أصابه من ألم وحزن بعد تورطه في قرض وهمي بلغ 65 ألف درهم، ظل يبتسم وهو يسرد ل»التجديد» كيف أصبح «خليفة ديال القايد» يتقاضى 7500 درهم، بينما دخله اليومي الحقيقي لا يتجاوز 40 درهم في أحسن الأحوال وبعد طول انتظار في الموقف. يقول سعيد «طلب مني رئيس جماعة زيرارة في شهر يوليوز الماضي بطاقتي الوطنية، اعتقدت في البداية أن هناك فرصة عمل، كنت أعمل في الفلاحة على بعد ثلاث كيلومترات من مركز «زيرارة»، وفي بعض الأحيان ألجأ للموقف بحثا عن العمل»، سعيد يتذكر أن رئيس الجماعة القروية قال له أن هناك معاونة للمعوزين، وأخبره بوجود 64 شخصا سيستفيدون منها، وهو ال65، يضيف قائلا، «أعطيته بدون تردد بطاقتي الوطنية، بعد ثلاثة أيام كلمني في الهاتف وقال لي أنه في انتظاري وسط المدينة، وبسرعة أخذت وسيلة للنقل التحقت به بسيدي قاسم رافقته إلى وكالة بنكية وسط المدينة، دخلنا معا فطلب مني التوقيع على وثيقة للاستفادة من المعونة»، يستطرد قائلا وعيناه لا تفارق آلة التسجيل التي نسجل بها تصريحه، ولسان حاله يقول، «شنو هاد لعجب»، «تسلم رئيس الجماعة مبلغ مالي كبير لم أتمكن من معرفته آنذاك، منحني 1000 درهم وقال لي أن الباقي سيوزع على المحتاجين بجماعة الخنيشات». لم يدرك سعيد الفلاح أنه ضحية عملية نصب واحتيال إلا قبل شهر تقريبا، حيث قدم الدرك الملكي إلى منزله يبحثون عنه، قالوا أنهم يبحثون عن سعيد الكاتب العام في الجماعة أو الخليفة ديال القايد، اختلفت الروايات لكن في النهاية الدرك يبحثون عن سعيد الفلاح بكل تأكيد، أسرة سعيد استغربت في البداية وأنكرت لكنها أخبرت الدرك الملكي بأن سعيد بالفعل يسكن بالمنزل، لكنه ليس موظفا وإنما فلاحا، فذهب الدرك الملكي إلى حيث يشتغل سعيد بمحراثه الخشبي فكانت المفاجئة. يروي سعيد، «طلبوا مني مرافقتهم إلى مقر الدرك الملكي بسيدي قاسم، سألوني عن ما إن كان سبق لي أن أخذت قرضا من شركة للسلفات، أجبتهم بالنفي، وأكدت لهم أنه سبق لي التوقيع مرة واحد فقط في وكالة بنكية، ولم يسبق لي أن وقعت على طلب للقرض، فأخبرت حينها أن شركة للسلفات تشتكي من أنني أخذت 65 ألف درهم قرضا قبل شهور ولم أرجعه بعد، ثم غادرت المركز بعد الاستماع إلى أقوالي وتدوينها في المحضر، فتذكرت حينها يوم قال لي الرئيس هناك 65 مستفيدا من المعونة المالية، كل واحد سيأخذ ألف درهم»، ليعلق أحد شباب الدوار، «رئيس الجماعة كان يتقن التخطيط الخماسي، كل مرة يختلق طريقة لإضفاء المصداقية على عمليته الاحتيالية». تعددت الطرق والنصب واحد الشاب مصطفى، واحد من عشرات الضحايا الذين وقعوا في ضحية شبكة النصب والاحتيال، قصص الضحايا تتشابه كثيرا ولا تختلف إلا في تفاصيل بسيطة من أجل عدم إثارة الانتباه، مصطفى يروي ل»التجديد» أنه قبل خمس سنوات نظمت الجماعة القروية دوريا لكرة القدم في دوار «الكوحل»، بعد الدوري بثلاث أيام طرق رئيس الجماعة باب منزل الأسرة، فتحدث مع مصطفى أمام المنزل وسأله عن رغبته في اللعب في فريق سيدي قاسم لكرة القدم، يقول مصطفى، «قلت له أنه سبق لي أن أبديت رغبتي لكن المسؤولين لم يلبوا لي الطلب، فسكت قليلا ثم قال لي هناك مباراة للتوظيف بالعملة أنا سأسأل عن الوثائق المطلوبة، استعمل هاتفه النقال وجعلني أسمع صوت مخاطبه، سأله عن المباراة فأجابه مخاطبه بالتأكيد على الإعلان الرسمي عن تاريخ المباراة، وقال أن المطلوب فقط نسخة من البطاقة الوطنية فمنحته إياها وبعد خمس ساعات طلب مني انتظاره أمام باب المركز، فطلب مني أن أرافقه فإذا بي أجد نفسي معه في الطريق إلى مدينة فاس، استحييت أن أسأله عن الوجهة، ولما وصلنا لمدينة فاس تركني في السيارة وأخذ معه ملفا ليعود بعد نصف ساعة بدون ملف، ثم توجهنا لمدينة مكناس وكانت الوجهة وكالة بنكية، قال لي أنظر إن بطاقتي الوطنية قديمة وربما لن تقبل في الوكالة البنكية، فطلب مني أن أمده ببطاقتي الوطنية الجديدة، وأن أساعده من أجل جلب أموال له في الوكالة البنكية، وهو ما حدث ووقعت على وثيقة، ومنحني 500 درهم، وقال لي راك خويا وبحال ولدي الكبير، وعلمت بعد ذلك أنه أخذ ستة ملايين سنتيم من البنك، وبنفس الطريقة وبعد سنة اقترض ثمانية ملايين سنتم باسمي، لكنه هذه المرة قال لي أنه نسي البطاقة الوطنية، ومنحني ألفين درهم وطلب مني أن أشتري كرة قدم لشباب الحي لا يتجاوز ثمنها 150 درهم». الضحايا كثر والحالات متشابهة، والغريب في الأمر أن من الضحايا أفراد من عائلة رئيس الجماعة، ومعاقون وشباب لم يتجاوزوا العشرين، وتم تزوير تواريخ ازديادهم، فأصبحوا مهندسين وموظفين بالجماعة، بينما تحولت سيدة تشتغل في التمريض إلى طبيبة. كيف تتم عملية النصب؟ الظاهر من خلال النماذج التي وقع عليها النصب والاحتيال، أن الضحايا يتم استغلالهم فقط عند عملية سحب مبلغ مال معين من وكالة بنكية معينة، لكن التساؤل الذي يطرح نفسه، كيف تتم عملية إعداد ملف القرض لدى شركة للسلفات، والتي تسلم لرئيس الجماعة بناء على الملف شيكا باسم الضحايا. يقول مصدر ل»التجديد»، إن جل ضحايا النصب يعتبرون حسب وثائق إعداد ملف الاستفادة من القرض المالي، موظفون بالجماعة القروية ل»أولاد نوال»، إذ يقع اختيار الضحايا المعوزين فقط والفقراء والذين لم يسبق لهم مباشرة أي معاملة بنكية، ويتم التغرير بهم وطلب بطاقتهم الوطنية على أساس معونة مالية أو وساطة للعمل أو غير ذلك، ثم بعد ذلك يتم استخراج وثائق مزورة من جماعة أولاد نوال، مفادها أن الضحايا، كل على حدة، موظفون بالجماعة ولهم راتب مالي معين يفوق دائما 5000 درهم، كما يتم التزوير في نسخ البطاقة الوطنية، حيث يتم تغيير المهنة والسن إن اقتضى الحال، وبعد ذلك تستخرج شهادة السكنى وشهادة العمل مزورة من الجماعة ذاتها، وكذا الوضعية المالية والإدارية للضحية «الموظف»، ليكون بذلك ملف طلب القرض جاهزا ومكتمل الوثائق، ويقدم إلى شركة السلفات بوكالتها بفاس أو مكناس أساسا، كما يتم توقيع التزوير بملفات طلبات القروض، ليتسلم الرئيس في النهاية شيكا في اسم الضحايا ويستفيد من تسهيلات في المعاملة من طرف مسؤولي شركات السلفات. مسؤولية شركة السلفات؟ أي مسؤولية تتحملها شركة السلفات التي تمنح القروض لعشرات من الأشخاص الذين لم يسبق لأغلبهم دخول وكالات الشركة؟ وحده القضاء الكفيل بالجواب عن التساؤل، لكن على الأقل نطرح عدة تساؤلات بناء على شهادات عدد من الضحايا، أو تصريحات المتهم الرئيسي أمام وكيل الملك وقاضي التحقيق، أو زيارة «التجديد» لوكالتين للشركة، بمدينتين نتحفظ عن ذكرهما . من خلال شهادات الضحايا أو تصريحاتهم للضابطة القضائية، ومعاينتهم للتوقيعات على ملفات طلبات القروض، يتضح أن جل الملفات تضم توقيعات مخالفة للتوقيع الرسمي للضحايا، بل إن الملفات التي يتوفر عليها الدرك الملكي تضم توقيعين مختلفين لنفس الشخص، من جهة هناك التوقيع الموجود بطلب القرض المالي، ومن جهة أخرى هناك التوقيع الموجود على الشيك الذي بموجبه قام رئيس الجماعة بسحب المبلغ المالي المقترض. توجهنا إلى إحدى وكالات شركة السلفات، استفسرنا عن الوثائق المطلوبة لأخذ قرض مالي معين، فأمدتنا المستخدمة بلائحة الوثائق، وتضم، «الوضعية المالية والإدارية للموظف، شهادة العمل، نسخة من البطاقة الوطنية وشهادة السكنى»، هل ضروري حضور صاحب الطلب؟، تجيب المستخدمة، «نعم بالطبع، وبالضرورة إحضار البطاقة الوطنية الأصلية، ثم التوقيع هنا في ملف القرض من طرف المعني بالأمر»، يتساءل أحد الضحايا، ألم يكن من السهل اكتشاف التزوير والنصب والاحتيال من اليوم الأول لتقديم أول طلب للقرض من طرف المتهم الرئيسي؟ على اعتبار أن الملف يضم نسخة من البطاقة الوطنية مزورة والمعلومات المدونة بها مخالفة للبطاقة الوطنية الأصلية. التحقيق والاعتراف.. انطلق التحقيق التفصيلي الخميس الماضي، بعد اعتقال رئيس الجماعة ونائبه وبعد الإستماع لهما من لدن وكيل الملك رفقة أطراف أخرى بينهم أطر بنكية، المواطنون الضحايا يترقبون ويتخوفون من متابعتهم من طرف القضاء، بالرغم من أنهم وقعوا ضحية نصب واحتيال، بينما يقول آخرون أن «القانون لا يحمي المغفلين»، هيئة الدفاع بدورها أبدت اطمئنانها لمسار التحقيق لحد الآن، واعتبر أحد المحامين أن السلطة القضائية تتجه نحو اعتبار أصحاب القروض الوهمية ضحايا وشهود وليس متهمين. من جهة أخرى، وأثناء مواجهة قضائية بين المعتقلين حاليا وأطراف أخرى استمع لها وكيل الملك، اعترف المشتبه الرئيسي في الملف «رئيس جماعة زيرارة»، بتورطه في عملية النصب والاحتيال، كما اعترف نائب رئيس جماعة أولاد نوال بمشاركته في العملية. واستمع أيضا وكيل الملك إلى رئيسي وكالة السلفات بمكناسوفاس، ومستخدمة سابقة بوكالة السلفات بمكناس، قدمت استقالتها بسبب رفضها الاشتغال على بعض الملفات، وتعرضها للعقوبة من طرف المسؤولين المركزيين للشركة بالدار البيضاء، مصادر «التجديد» أكدت أن هناك حديث عن وجود تعاون بين مسؤولي الشركة ورئيس الجماعة المعتقل»، وحين سئل الرئيس عن حقيقة هذا التعاون قال بأنه «تعاون في إطار الشراكة بين الجماعة والشركة»، بمقابل مادي؟، يجيب رئيس الجماعة، «لا لا بدون مقابل». بدورها المستخدمة المستقيلة سئلت بعدما ورد توقيعها بملفات القروض، عن موافقتها على ملفات قروض يقدمها لها رئيس الجماعة فقط، ولا يحضر المعنيين بالأمر ولا تقدم بطائقهم الوطنية الأصلية، فكان الجواب أنها تشتغل بأوامر الرؤساء، وأنها امتنعت أكثر من مرة عن إعداد الملف بسبب غياب المعنيين بالقروض. «اعطيونا خدماتنا» الضحايا ينتظرون والتخوف يزداد، خصوصا بعد توقف الدرك الملكي عن الاستماع للضحايا، ضحايا أصبحوا يتقاضون مبالغ مالية مهمة بالنظر لواقع عيشهم اليومي، تحولوا من فلاحين إلى أطباء ومهندسين وموظفين. الضحايا رفعوا التحدي، وقبلوا بأداء المبالغ المالية التي أخذت باسمهم، لكن بشرط وحيد يتمثل في منحهم المهن التي أسندت لكل واحد منهم في الملفات الموجودة بين يدي القضاء.. ليصبح منهم الطبيب والمهندس..