التركيز على أوجه القصور والاختلال في الجوانب المالية على أهميته، والتي يكشف عنها تقرير المجلس الأعلى للحسابات، لا ينبغي أن يصرف الرأي العام عن ملاحظة ورصد منسوب القيم الحضارية في هذه ألأمة، والتي تعتبر مؤشرات حقيقية لمعرفة مستوى الجاهزية الذاتية للأمة لإنجاز التنمية المطلوبة. في هذا السياق، نتوقف على ثلاث ملاحظات أوردها تقرير المجلس الأعلى للحسابات بخصوص قضية البحث العلمي لدى ثلاث مؤسسات جامعية هي جامعة الحسن الثاني، وجامعة محمد الخامس ، والمعهد العالي للإعلام والتواصل: - الملاحظة الأولى: غياب أي وثيقة تحدد استراتيجية هذه المؤسسات الجامعية في البحث العلمي مشفوعة بخطط سنوية. - الملاحظة الثانية: ضعف شديد على مستوى الإنتاج البحثي، وعدم الاستفادة من البنيات والتجهيزات التي أحدثت لتطوير البحث العلمي، إلى درجة أن أحد هذه المؤسسات، رغم إحداثها لمركز للبحوث والدراسات سنة 1996، إلا أنها لم تنتج أي بحث أو دراسة باستثناء الدراسات التي ينتجها الطلبة لزوما في فترة التكوين. - الملاحظة الثالثة: أن هذه المؤسسات لا تضع وضعية المنجزات بالشكل الذي يمكن الاستفادة منها لاستدراك الخلل وتحسين الأداء وأنها تفتقد لنظام تقييم البحث العلمي. هذه الملاحظات التي تعطي صورة واضحة عن وضعية البحث العلمي في الجامعات المغربية، تطرح علامات استفهام كثيرة، خاصة وأن العديد من الباحثين الجامعيين المغاربة يشتغلون وبكثافة لمصلحة مختبرات بحثية أجنبية، وتضم الجامعات الأجنبية أبحاثهم إلى رصيدها في البحث العلمي، بل إن العديد منهم يشتغلون لصالح مكاتب دراسات أجنبية تعطى لها صفقات إعداد دراسات لصالح قطاعات وزارية ومؤسسات عمومية عديدة. فهل يتعلق الأمر بضعف مستوى البحث العلمي لدى الباحثين المغاربة في الجامعات المغربية كما كان تشخيص الدراسة التي أنجزت زمن وزير التعليم السابق السيد أحمد اخشيشن، أم أن المشكلة تكمن في جوانب أخرى لم تستطع عين قضاة المجلس الأعلى للحسابات أن تبصرها. إن الهجرة العلمية إلى المختبرات الأجنبية، واشتغال كثير من الباحثين المغاربة لفائدة الجامعات ومكاتب الدراسات الأجنبية، يطرح سؤال البيئة المساعدة على البحث العلمي في المغرب، والدافع الذي يجعل الباحث المغربي ينتج الدراسات بعيدا عن جامعته. المفارقة أن نسبة مهمة من ميزانيات مختلف القطاعات الحكومية تتوجه إلى القيام بالدراسات التي غالبا ما تفوز بصفقاتها مكاتب دراسات أجنبية لا تملك سوى أن تستعين بالباحثين المغاربة في أداء مهمتها المؤدى عنها بالعملة الصعبة، ليصب الإنتاج البحثي هؤلاء في رصيد هذه المكاتب دون أن تستفيد الجامعة المغربية منه شيئا، مع أنه كان بالإمكان في إطار المجهود الوطني التنسيق مع مراكز الأبحاث في الجامعات، أن تنشأ مراكز أبحاث كثيرة في الجامعات المغربية، وأن تتحول إلى مكاتب دراسات تحمل الصفة القانونية للمنافسة في طلبات العروض وتعطى لها ألأولوية وذلك حتى يصبح البحث العلمي مواكبا لمتطلبات النسيج الاقتصادي الوطني وملبيا لاحتياجاته. إن أبسط النتائج التي يمكن أن تتحقق بهذا الإجراء البسيط، أن تحدث البيئة المساعدة للبحث العلمي، وأن تتوقف عملية الهجرة العلمية إلى الجامعات الأجنبية، وأن تتمكن الجامعات المغربية من موارد مالية مهمة للارتقاء ببنية البحث العلمي، وأن يتم الاعتماد على الخبرة المغربية، وألا تتكلف الدولة بإهدار رصيد هام من العملة الصعبة، وأن تعود الثقة إلى الجامعة المغربية. إن التشخيص الذي يجعل من غياب البيئة المساعدة على البحث العلمي سببا رئيسا في تراجعه لا يعفي الباحثين الجامعيين المغاربة من المسؤولية خاصة إذا ما توفرت شروط البحث العلمي، وتهيأت الاستراتيجية الوطنية المطلوبة، إذ لا ينبغي أن نغفل البعد الوطني والرسالي في هذه العلمية، لاسيما وأن المغرب يعيش لحظة تحول سياسي ديمقراطي تتطلب قدرا من الجاهزية والتضحية والرسالية لإعادة الثقة في الجامعة وجعل البحث والارتفاع بالبحث العلمي ليكون أداة حقيقية لخدمة النسيج الاقتصادي الوطني.