قالت الأستاذة بشرى المرابطي، باحثة في علم النفس الاجتماعي، إن الاعتقاد في العين لا يرتبط فقط بالمغاربة بل هو إرث مشترك بين الشعوب والحضارات منذ أقدم العصور، وأوضحت في حوار مع «التجديد» أن الشخصيات الأكثر اعتقادا في تأثير «العين الشريرة» تشترك في أعراض من قبيل ضعف التحليل العقلي والمنطقي وسرعة تصديق الآخر والقابلية للإيحاء، والشخصيات التي تتصف بالاعتماد والإسقاط والتبرير كآلية دفاعية. وأكدت المرابطي على التنشئة الاجتماعية مهمة جدا في خلخلة العديد من المقولات السلبية وإعادة تصحيحها وبنائها بناء إيجابيا، مشيرة إلى أن التربية على القيم ينبغي أن تركز على المستويات الثلاث القيم الروحية والعقلية ثم تقوية المسؤولية الذاتية في الفرد. ✹ «العين» و»التقواس» مصطلحات أصبحت جزءا من الثقافة المغربية، ما هي دلالة المصطلح؟ ✹✹ مفهوم العين هو الاعتقاد بوجود طاقة أو شحنة مدمرة تقذفها النظرات الحاسدة لأشخاص ذوي عيون شريرة وملامح خاصة، تحديدا العيون السوداء والحواجب السوداء أيضا الملتقية في الوسط والتي يصطلح عليها عند المغاربة ب «لَََََحْوَاجَبْ مَكْرُونين» أو الناس «لمْحَوجْبين» إذ يرسل أصحاب هذه المواصفات الجسدية كل أنواع المصائب التي قد تصل إلى حد الموت، إن المغاربة يتمثلون العين كنظرة شؤم، نظرة شريرة تكشف حسد صاحبها فهو يقينا لايحب الخير للآخرين أو كما يقال «عندو القلب ما مَزَيَانَشْ»، فالنظرة إلى الآخر صاحب المواصفات سالفة الذكر كمصدر للشر يندرج في إطار ثنائية الصراع الذي عرفته البشرية وهي ثنائية الخير والشر. ✹ كيف تفسرين انتشار هذا الاعتقاد في صفوف المغاربة على اختلاف مستوياتهم الإجتماعية والثقافية؟ ✹✹ الاعتقاد في العين، كما أشرت سابقا، لا يرتبط فقط بالمغاربة بل هو إرث مشترك بين الشعوب والحضارات منذ أقدم العصور، فقد انتشر هذا الاعتقاد لدى الرومانيين والمصرييين والفارسيين والبابليين والهنود واليونانيين والفنيقيين والأمازيغ والعرب وغيرهم من الشعوب، فما يسمى «يد فاطمة» مثلا هي قطعة معدنية تجسد كف إنسان بأصابع ممتدة ومتماسكة، والتي وجدت ضمن اللقى الأثرية في موقع شالة باعتباره أحد المخلفات الشاهدة على التواجد الروماني والذي امتد إلى القرن الثالث قبل الميلاد، فتواجد هذه القطعة الأثرية تعزز أطروحة أن الاعتقاد بوجود العين يضرب بجذوره في أعماق التاريخ ومن ثم فالإنسان المغربي عرف تاريخيا الاعتقاد بالعين من خلال تراكم العديد من الحضارات المعتقدة بدورها في العين والتي حينما انتقلت إلى المغرب وقع تلاقح لهذهالثقافات. وفي هذا السياق أبدع المغاربة الكثير من الأشكال لصد هذه العين فبالاضافة إلى «يد فاطمة» التي نسميها «الخميسة» أو «الخمسة» والتي تتخذها النساء للزينة في حليهم كما توضع في يد الرضيع أو في بعض الأحيان في شعره لأنه ينبغي أن تكون مقابل أعين الزوار حين يزورون هذا الرضيع، أيضا هناك حلية عبارة عن «عين الإنسان»، وبالتالي فتلك العين التي تصدر عن الأشخاص لها عين صادة لها هي تلك الحلية. هناك أيضا صفيحة الأحصنة يتخذها المغاربة ويعلقونها إلى الآن في المدن القديمة وحتى الحديثة، يضعونها وسط باب المنزل المواجه لكل الزوار، فكما أن الحواجب تكون في مركز العين أو في وجه الإنسان فكذلك هذه الأشياء تتخذ بشكل مباشر في تقابل معها، طبعا هناك أنواع من البخور التي يتم الاعتقاد فيها مثل «الملح» و»الشبَة» و»الحَرْمَل» وهناك من يضيف «القزبر حْبُوب»، وهذا الأمر ينتشر حتى في الأوساط المتعلمة اعتقادا منهم أنهم لا يمارسون سحرا ولا شعوذة. كما يستعمل «اللدُون» وهو معدن حينما يوضع على النار فإنه يذوب وشدة الذوبان مرتبطة بجودة المعدن والظروف المناخية التي أحاطت به، فإذا انتفخ وهو من طبيعته الانتفاخ يقال لذلك الشخص الذي يبحث عن سر حالة العياء التي يعانيها اعتقادا منه أنها العين يقال «إنك مْعَين» ولذلك يرش بكثير من أنواع البخور. ✹ هل للعين فعلا تأثير على حياة الناس خاصة وأن المغاربة يستقون هذه الفكرة من مرجعية دينية؟ وكيف نفسر بعض الحوادث التي ترتبط بنظرات أشخاص بعينهم؟ ✹✹ الثقافة باعتبارها معطى مركب تتشكل عبر التاريخ من إنتاج الإنسان، وحينما يصدر هذا الإنتاج عن الذات الفاعلة ترتد إليه مرة أخرى كفعل إكراه وإلزام مجتمعي ضاغط حيث تعمل على تمريره إلى الأجيال من خلال ميكانيزم الاستدماج والتكيف وهو آلية معروفة في السوسيولوجيا وعلم النفس الاجتماعي. ورغم أن الدين له قوة على فكر الأفراد، إلا أنه مع الزمن تعمل الثقافة على إعادة إنتاجه في إطار ذلك الكل المركب، لذلك فالدين هو جزء من الثقافة وهو ما يفسر أن طريقة تعاطي المسلمين في عدد من القضايا والمواقف قد يختلف باختلاف المجتمعات الإسلامية كقضية المرأة مثلا، كما أن بعض المواضيع قد تعتبر لدينا طابو ولدى غيرنا من الشعوب الإسلامية ليست كذلك، نحن نحرمها ثقافيا انطلاقا من الدين والآخر يبيحها ثقافيا انطلاقا من الدين، لذلك العلاقة بين ما هو ديني وما هو ثقافي متداخلة كثيرا ونحن نفضل أن يكون المدخل لتحليل المجتمعات ليس المدخل الديني ولكن المدخل الثقافي. ولتفسير الأحداث المرتبطة بالعين، لا بد من الانطلاق من القواعد الأساسية لعلم النفس المعرفي في كون الاعتقاد يؤثر على المشاعر وهذه الأخيرة توجه السلوك، فحينما يعتقد الإنسان في العين فإن نظرته تجعل فكرة العين بكل تداعياتها السلبية مسيطرة على الدماغ وتشعره بالقلق والخوف كحالة وجدانية مُوجهة، وبعد ذلك يتم توجيه الجسم ووظائفه الحركية إلى القابلية للعطب. مثلا السقوط والمرض أو عطب في السيارة فهذه الأخيرة قد تتعطل في أية لحظة بسبب وجود عطب فيها، ولكن نظرا لهذه الفكرة المسيطرة على الدماغ والتي تؤثر على الحالة الوجدانية المُوجهة للسلوك، فإنها عندما تتوقف ذات لحظة فإن صاحبها يتذكر مباشرة أنه قبل توقفها نظر إليه شخص ما بالمواصفات التي تكلمنا عليها نظرة غير مريحة، ولم يطمئن إليها وبالتالي كانت نتيجته توقف السيارة، فهذه الأحداث التي تقع لكل الناس في كل بقاع العالم يربطها الشخص بما سبق، وهذا الأمر يعمل على تدعيم وتعزيز فكرة العين مرة أخرى ليصبح الأمر في إطار حلقة نسميها علاقة تأثير وتأثر، وكلما اعتقد الشخص في العين كانت له القابلية للإصابة بعطب ما وكلما أصيب بأعطاب عززت مرة أخرى فكرة الاعتقاد في العين. ✹ ما هي المواصفات النفسية للشخص الذي يفسر كل ما يصيبه سوء بالعين الشريرة؟ ✹✹ نجد الاعتقاد بالعين لدى الكثير من الشخصيات التي تشترك في الأعراض التالية: أولا ضعف التحليل العقلي والمنطقي ونقصد هنا منطق السببية، ثانيا سرعة تصديق الآخر في كل ما يمكن أن يسمعه ونحن نعلم أن العين يمكن أن تنتقل من شخص لآخر وبالتالي تشكل مقولة مجتمعية شكلها الإنسان ليس كتابة وانما شفاهة. العرض الثالث هو القابلية للإيحاء، ورابع هذه الأعراض أن هذا الاعتقاد يظهر لدى الأشخاص الذين يتصفون بالاعتماد والإسقاط والتبرير كآلية دفاعية للاوعي في تكسير العجز الذاتي، والعرض الآخر اعتبار الذات محور الاهتمام والنظر إلى الآخر على أنه الأضعف وبما أنه لا يمكن أن يصل إلى مستوى تلك الذات فإنه يلجأ إلى بعض السلوكات المضرة بذلك الشخص. وعموما يمكن القول أن هذه الأعراض توجد لدى الشخصية الهستيرية والشخصية الاعتمادية والشكاكة والنرجسية وحتى الشخصية المتمركزة حول ذاتها. ✹ ما هي عواقب الايمان الزائد بالعين على الصحة الفردية والاجتماعية للفرد؟ ✹✹ ما يمارسه المجتمع بمقولاته حول العين وتحديده للسمات المادية والجسدية التي لا تقبل أي تراجع للأشخاص المرسلين للعين الشريرة يجعل هذا الشخص المعني بهذه المواصفات يعاني إكراها مجتمعيا أو تداعيات نفسية تلزمه اتخاذ العديد من التدابير لتفادي اتهام الآخر منها عدم إطالة النظرة للآخر، والتقليل من مدة زيارة الناس خشية أن يقع لهم أي مكروه فيكون موضع اتهام، أيضا يتفادى التهنئة في الأيام الأولى للمولود لأن هذا الأخير معرض دائما للأذى من طرف «الذين يعينون»، فالأشخاص ذوي الحواجب بمواصفات معينة هم متهمون بالضرورة إلى أن تثبت براءتهم، ناهيك عن القلق الدائم الذي يصاحبه والذي قد يضعف من ثقته النفسية لأن شعوره بالنبذ من طرف الآخرين مستمر، كما أن المجتمع بدوره يتخذ مسافة تجاهه عنوانها الكبير الحيطة والحذر، ولذلك فالشخص «الذي يُعتقد أنه يرسل هذه العين الشريرة» لا يُؤتمن على الأسرار من طرف المجتمع ويتفادى المحيطون به إعلامه بالأخبار والمستجدات خشية ألا تتم تلك الأحداث أو تتوقف في بدايتها، إذن يتم الابتعاد عنه ومن ثم فهو يعاني من ضعف شبكة العلاقات. بالنسبة للأشخاص الذين لديهم القابلية للإعتقاد بالعين فهؤلاء في العموم تجدهم دائما لا يثقون في الآخر وبالضرورة فهم أنانيون لأن من مواصفات هذه الشخصية الأنانية وحب الذات، المستوى الثاني ضعف الانتاجية لدى هذه الفئة، لأن الإنتاجية مرتبطة بالإقرار بالمسؤولية الذاتية والقدرة على الإنتاج في حين أن الإنتاجية تضعف لأن الآخر يعتبر مشجبا يتم تعليق كل السلبيات عليه. وعلى مستوى آخر فهؤلاء لا يمكنهم أن يُبدعوا بشكل كبير حتى وإن كان الإضطراب الذي تعاني منه هذه الشخصيات متوسطا وليس حادا، حيث يكون أفق الاشتغال والعمل بالنسبة لهم ضعيف، وبالتالي يبثون نوعا من الرعب والقلق والنفور في المحيطين به، وبالتالي نصبح في مجال محيطي يطبعه الشك والارتياب وعدم الاطمئنان. ✹ هل لديكم مقترحات من شأنها أن تحمي الانسان من السقوط في هذه الأفكار؟ ✹✹ أهم هذه المقترحات تتمثل في التربية على القيم على اعتبار أن التنشئة الاجتماعية مهمة جدا في خلخلة العديد من المقولات السلبية وإعادة تصحيحها وبنائها بناء إيجابيا، فأنا أقول أن التربية على القيم ينبغي أن تركز على المستويات الثلاث: القيم الروحية والعقلية ثم تقوية المسؤولية الذاتية في الفرد خاصة الأطفال، وحينما نتحدث عن القيم الروحية والبعد العقدي بمعنى أن الخير والشر هو نتيجة إرادات الأفراد وليس معطى إلهيا، فإذا كان الله جل وعلا منح بعض الأفراد كما يعتقد المجتمع إمكانية إلحاق الأذى بالآخر فهذا ظلم، والظلم في العقيدة يتنافى ومفهوم الالوهية، إذن هذه من الأشياء الثابتة أن }ما أصابكم من خير فمن الله وما أصابكم من شر فمن أنفسكم{ وأن يوم القيامة }فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره{، فالله عز وجل حرم الظلم على نفسه وجعله بين الناس محرما، وانطلاقا من البعد المتعلق بمواصفات الإله العادل الحكيم فلا يمكنه أن يؤذي الناس من خلال بعضهم البعض ولا يمكن أن يهب أشياء سلبية «عين شريرة» لأشخاص ويوم القيامة يحاسبهم، على أية حال هذا النقاش كان في تاريخ الفكر الاسلامي حول مفهوم الألوهية وتناوله الفقهاء، ولذلك أكدت على أهمية التربية على القيم الروحية في هذا البعد أي الربوبية والالوهية. المستوى الثاني: التربية العقلية وأعني بها تربية الأطفال على التحليل المنطقي والعقلي للأشياء، فكل مقولة بالمعنى الديكارتي هي قابلة للشك ما لم نتوصل إلى اليقين، وكل ما نسمعه من المجتمع لا يمكن أن نسلم به بل ينبغي أن نعود مرة أخرى إلى ذواتنا وإلى المحيط الأسري لنفكك هذه المسلمات المُجتمعية ونتأمل طبيعة العلاقة السببية. المستوى الثالث: المسؤولية الذاتية أي أن نربي الأبناء على المسؤولية الذاتية وألخصها في سؤال حظ الفرد مما وقع له، مثال السيارة إلى أي حد كانت هذه السيارة في سلامة تامة ولم تكن معرضة للعطب، بما أن هذا الاحتمال كان واردا فهو قد يحصل في أي لحظة من اللحظات، فالإنسان قد يقع من فوق السلالم بسبب طبيعة الحذاء أو طبيعة الأرضية، هكذا ينبغي أن نحلل الأشياء وبالتالي نربي الطفل على حظ مسؤوليته في أي واقعة وعوضا أن نلقي اللوم على الآخر نلقي اللوم على الذات، لأن طبيعة الثقافة المغربية قائمة على الاسقاط واللغة باعتبارها تمظهرا أساسيات من تمظهرات الثقافة يغيب فيها ضمير الأنا الدال على المسؤولية الفردية.