في مسيرة الحكومة الاحتجاجية، رفع الوزراء لافتات كتب عليها»القانون»، وفي مقابلها مسيرة شعبية رفع المحتجون فيها لافتات كتب عليها «الحقوق» ! هذا التصوير الكاريكاتوري الغرض منه تقريب صورة تداول شعارات «الحقوق» و»القانون»، وهو تداول كثيرا ما يضع المفهومين في حالة تناقض وتنافر في المغرب. لقد أثير جدل كبير في الآونة الأخيرة في عدة ملفات تقابل فيها مفهومي الحق والقانون وجها لوجه، وظهر المفهومان بثقلهما السياسي والقيمي في محطات دالة في حالة من التناقض والتنافي تؤكد وجود خلل كبير في التعاطي مع الموضوعين. و لعل أبرز الملفات التي ظهر فيها ذلك الخلل هو الجدل الذي عرفه المغرب حول الحريات الفردية، والذي تسلح فيه البعض ب»الحق» في الدعوة إلى الإفطار العلني في رمضان، وفي الدعوة إلى رفع الحظر القانوني عن تداول الخمور، كما رفعت شعارات حرية التعبير، بصفتها أحد أسمى الحقوق، ولكن بلا حدود في قضايا الصحافة سواء في تعاطيها مع الإسلام ورموزه أو في تعاطيها مع قضايا سياسية وطنية ... و تمت مواجهة تلك الدعوات، من بين ما ووجهت به، بقاعدة «الالتزام بالقانون». نفس السيناريو تكرر، قبل ذلك وبعده، في محطات أخرى دالة، أهما محطة خروج «حركة 20 فبراير»، حيث خرجت الحركة لتمارس الحق في التظاهر وفي حرية التعبير، ووجهت بخطابات رسمية تثير قانونية مسيراتها على أساس غياب الترخيص لها. كما ظهر التقابل بين المفهومين باستمرار في نضالات حاملي الشواهد المعطلين في مواجهة المنع الأمني لتظاهراتهم، حيث أن الحق في العمل والحق في التظاهر والاحتجاج هو ما يدفع به هؤلاء مقابل دفع السلطات بضرورة احترام قانون التجمع والتظاهر. و لم تقتصر تلك المقابلات بين الحق والقانون على ما ذكر من أمثلة بل نجدها في كل محطة تواجه فيها الإدارة والسلطات بمطالب المواطنين. ورغم أن الحسم في قضايا فلسفية وسياسية كبيرة مثل أيهما أسبق، الحق أم القانون؟ و أيهما أسمى الحق أم القانون؟ و أيهما يخضع للآخر الحق أم القانون؟ مهم للغاية ويخلص إلى أن الحق هو المصدر وهو الأسمى و أن القوانين ليست أكثر من قواعد تنظيم وحماية الحقوق أو هكذا يجب أن تكون، رغم ذلك فإن من الأهمية بمكان التنبيه إلى أن مشكلة التقابل المخل بين المفهومين في الصراع لا يرجع فقط إلى عدم استحضار ذلك الحسم النظري في العلاقة بين الحق والقانون، بل في وجود انحرافات في الاستعمال السياسي لكلا المفهومين. ففي كثير من الحالات نجد أن ثقافة الحقوق لا تروج على أساس توعوي مسؤول بل على أساس تعبوي واحتجاجي، مما يسقط المطالبة بالحقوق في زلات كثيرة لعل أخطرها المنحى الطوبوي الذي نجده لدى دعاة الحريات الفردية الذين ينتهون إلى المطالبة برفع كل القيود التي تمنع الأفراد من التصرف وفق رغباتهم وأهوائهم دون قيد ولا شرط ! ومقابل الثقافة الحقوقية المبنية على أساس التعبئة والتجييش نجد ثقافة السلطة التي حولت القانون في كثير من المحطات والمناسبات إلى عصى و فزاعة ترهب بهما المواطنين، ويصل الأمر حد التسبب في الاحتقان وتهديد الأمن و الاستقرار العامين. وكأمثلة على الانحرافات السياسية للتعاطي مع مفهومي الحق والقانون، نجد أن مفهوم الحق في بعض القضايا يتداول، من جهة أولى، بشكل إقصائي ملتبس، كما هو الشأن في كثيرا من مطالب الحريات الفردية والتي لا تكتفي بالمطالبة بإلغاء كل القوانين التي تحد من أشكال خاصة في ممارسة الحريات الفردية، بل تلغي حق الجماعة، التي يفترض أن القانون هو أسمى معبر عن حقها ومصلحتها، بدعوى أنها ليست سوى مجموعة أفراد! ورغم أن تغيير القوانين يخضع لآليات مؤسسية في كل دول العالم، إلا أنه من الناحية العملية رأينا كيف دعا دعاة الحريات الفردية في محطات خاصة، إلى ممارسة نوع من «العصيان المدني» لتغيير بعض القوانين مثل الدعوة إلى الإفطار العلني في رمضان، ضدا على القانون والجماعة والدولة معا. ومن جهة ثانية يستعمل مدخل الحق لتبرير انتهاك القانون في كثير من الحالات، لعل أخطرها ما يتعلق باحتلال المؤسسات العمومية أو تخريب الممتلكات، أو مواجهة رجال السلطة في ملف البناء العشوائي مثلا و في غيره. لكن نفس الانحراف نجده في الخطاب والممارسة الرسميين في تعاطيهما مع ملفات خاصة، ففي الوقت الذي تطالب فيه السلطات المتظاهرين مثلا باحترام القانون بالحصول على الترخيص لتظاهراتهم ومسيراتهم، فهي لا تسلم هذه التراخيص أبدا، اللهم في حالات لا تتعلق بالاحتجاج على السياسات العمومية، مما يجعل الحق في التظاهر رهينة مزاج السلطة ومقاربتها السياسية للأوضاع. و نكون بذلك أمام وضع تنتهك فيه السلطات الحقوق باسم القانون. بل الأدهى من ذلك أن السلطات، وهي تحارب العمل السري والغير قانوني كما هو الشأن في كل الدول، ما تزال تحرم كثيرا من الجمعيات من الترخيص لها بل و من وصل إيداع ملفاتها أحيانا، وهناك جمعيات كبيرة وذات تأثير واسع تشتغل في وضع لا تتمتع فيه بحقوقها في استكمال شخصيتها القانونية، لنكون أمام عملية إجهاز واضح على حقوق لا تمس الجماعة و لا الدولة ولا القوانين القائمة بشيء، بقدر ما تخضع لمقاربات سياسية المفروض أن تزول اليوم بشكل كلي. و رصد صور خلل التقابل السلبي بين الحق والقانون في الصراع والتدافع في المجتمع يؤكد أننا بصدد ثقافة خطيرة تنتشر في المجتمع تنطوي على مفارقة مدمرة، حيث تكون المطالبة بالحقوق بانتهاك الحقوق نفسها، والمطالبة بتطبيق القانون بانتهاك القانون نفسه. إنه لا يمكن في ظل استمرار هذه الثقافة المدمرة الاستبشار بدولة الحق والقانون، حيث أن الثقافة السليمة للحق والقانون هي من أهم دعاماتها الأساسية. و بما أن الخلل تشارك في تكريسه كل من السلطات وفعاليات في المجتمع المدني بل ونشطاء حقوقيون، فإن الحاجة ماسة، من جهة أولى، لمزيد من الضغط على السلطات لاحترام الحقوق والقوانين وسن تشريعات واضحة وملزمة في هذا الصدد، ومن جهة ثانية لفتح نقاشات عمومية توعوية تجعل مناضلي «الحق» يتصرفون بمسؤولية.