يحرك المفكر الأميركى نعوم تشومسكى الساكن من جديد بكتابه «صنع المستقبل» الذى حظي كالعادة باهتمام واسع النطاق سواء داخل الولاياتالمتحدة أو الغرب ككل، وهو يتحدث بضمير المثقف عن شرعية المقاومة لعمليات الغزو والاحتلال وأوهام الإمبراطورية الأميركية، ودور الناخب الأميركي في تغيير ثقافة سادت على مدى عشرين عاما. ويتضمن الكتاب تحليلا ثقافيا سياسيا ثريا للخطاب السياسى للمحافظين الجدد، الذين هيمنوا على إدارة الرئيس السابق جورج بوش، وكانوا وراء سلسلة من القرارات الكارثية لأميركا والعالم. كما يتناول قضايا بالغة الأهمية للعالم العربى على وجه الخصوص، ويحلل طبيعة الدوافع والقوى التى كانت وراء قرارات خطيرة مثل غزو العراق، ويسلط أضواء كاشفة على مواقف قيادات وزارتى الخارجية والدفاع ووكالة المخابرات المركزية. وإذا كان بعض المعلقين والنقاد بالصحافة الغربية من أصحاب النزعة أو التوجهات اليمينية قد تحدثوا عن مخاطر»شيطنة أميركا» واعتبر بعضهم أن تشومسكى وقع فى فخ الشيطنة مثل المحافظين الجدد الذين يهاجمهم بضراوة، فإن هذا المثقف يؤكد بكتابه من جديد مواقفه المبدئية الرافضة لدعاوى الحروب التوسعية والأوهام الإمبراطورية، معيدا للأذهان أنه عارض الحرب الأميركية على العراق منذ البداية. ويسخر تشومسكى من صلف الرئيس السابق جورج دبليو بوش، وهو يتحدث عن صنع الإمبراطورية وفرض الواقع الأميركى بما يتضمنه من حقائق ومعطيات على العالم كله، فالأميركيون هم ممثلو التاريخ وهم الذين يصنعونه كما اعتقد بوش. ويعتبر تشومسكى أن القرار الأميركى بغزو العراق كان واحدا من أسوأ القرارات الكارثية للمحافظين الجدد، بقدر ما كانت الحرب الأميركية على العراق بلا معنى رغم بشاعتها وآثارها المأساوية على جيل بأكمله من الأميركيين أنفسهم. وينتقد تشومسكى فى كتابه الجديد بشدة أولئك الساسة الأميركيين المنتمين للتيار الليبرالى، الذين عارضوا الحرب الأميركية على العراق، ليس بسبب الخطأ المبدئى لهذه الحرب، وإنما بسبب تكاليفها الكبيرة ومخاطرها الجسيمة أو لأن بعضهم اعتبرها «غير ضرورية وغير مضمونة النجاح». ومن هؤلاء الساسة الذين انتقدهم تشومسكى بسبب هذا الموقف الانتهازى وغير المبدئى الرئيس الحالى باراك أوباما والسابق بيل كلينتون، بينما يتعمق فى عملية التحليل لطبيعة الحرب الأميركية على العراق ليخلص إلى أنها تعبر بجلاء عن الإمبريالية بقدر ما تكشف عن جوهر الطابع الإجرامى والشرير لنظام يحلو له أن يضع للآخرين معايير الديمقراطية. ويرى تشومسكى بكتابه الجديد أن أميركا بهذا النظام تشكل فى الواقع العقبة الحقيقية والوحيدة أمام السلام بالعالم، متهما النخبة السياسية المهيمنة على دوائر صنع القرار بواشنطن بأنها تعمد لتعقيد المشاكل بالعالم بدلا من حلها. وهكذا يؤكد تشومسكى أن ما يسمى نزاع الشرق الأوسط من صنع أميركا وإسرائيل، كما أن ما يسمى النزاع الأفغانى هو بالأصل صناعة أميركية خالصة، محذرا من أن واشنطن تسعى وستسعى بالمستقبل لزيادة التناقضات وأسباب الكراهية بين الصين والهند. ويمضى تشومسكى فى عملية التحليل الثقافي السياسى ليقول إن كل هذه السياسات الأميركية تعزز رغبة النخبة الحاكمة، وهى وفق تعبيره كأحد أبرز علماء اللغويات بالعالم «تكريس قوة الشر الأميركية المتفردة» وبما يشكل حالة فريدة بالتاريخ وربما أيضا بالمستقبل. ويحمل تشومسكى تيار المحافظين الجدد -الذى مازال مسموع الصوت حتى بعد رحيل إدارة بوش- الكثير من أوزار الصورة الشائنة للولايات المتحدة بالعالم، رغم أنه يتفق مع ما يقوله هذا التيار من أن أميركا هى مركز العالم. لكن السؤال الفارق «هل أميركا مركز للخير أم الشر؟!» ولعل السؤال الأخطر «ماذا عن المستقبل إن استمر هذا النمط من التفكير لدى النخبة الحاكمة بواشنطن؟».