ربما يبدو أن المواجهة الأولى على أرض الكونغرس الأميركي بين الإدارة الجمهورية الحاكمة والمعارضة الديموقراطية انتهت مبدئيا لصالح الإدارة وفريقها الحاكم. الديموقراطيون تقدموا بمشروع قرار يعارض توجه الإدارة إلى إرسال قوات إضافية إلى العراق. القرار بحد ذاته، فيما لو صدر، لم يكن سيلزم الإدارة بالتراجع. ففي نهاية المطاف يظل الرئيس الأميركي متمتعا بسلطات استثنائية بصفته القائد الأعلى للقوات المسلحة. والقرار حظي بموافقة 49 من أعضاء مجلس الشيوخ مقابل معارضة 47. مع ذلك سقط مشروع القرار ولم يتم تمريره لأنه في تلك الحالة تحديدا كان يستلزم اغلبية خاصة من ستين عضوا. من الناحية الإجرائية إذن نجحت الإدارة وفريقها من الحزب الجمهوري في إجهاض الرفض الديموقراطي لإرسال قوات إضافية إلى العراق. لكن من الناحية الموضوعية، وفيما هو تحت السطح، يبدو هذا الانتصار التكتيكي للإدارة أقرب إلى الهزيمة منه إلى الانتصار الخالص. فالمعارضة الديموقراطية أعلنت استمرارها في الإصرار بطرق أخرى على إعادة طرح موضوع العراق داخل مجلس الشيوخ مرات ومرات، فضلا عن ملاحقة الإدارة بجلسات استماع متتالية طوال العمر السياسي المتبقي للإدارة في السلطة.هو انتصار أقرب إلى الهزيمة مع إدراكنا للحقيقة الحاكمة الأولى التي سيطرت على سلوك إدارة جورج بوش منذ أحداث 11/9/2001. حقيقة تجاوز تلك الأحداث فورا بالقفز إلى الأمام من خلال حرب عالمية أعلنتها تحت شعار مراوغ ومطاط هو الحرب العالمية على الإرهاب. حرب ذهبت أميركا خلالها إلى احتلال أفغانستان عسكريا، ساحبة خلفها تاليا مشاركات من الدول الأعضاء في منظمة حلف شمال الأطلسي، وبعدها حرب أخرى لاحتلال العراق، مع التحرك أخيراً لتصعيد المواجهة ضد إيران، بما يجعلنا أمام احتمال حرب ثالثة قد لا تأخذ بالضرورة شكل الغزو العسكري ولكنها في الوقت نفسه تستخدم القوة العسكرية لإحكام الحصار ضد إيران إقليميا. التوجه الجديد للإدارة اضطر قادة عسكريين أميركيين، سابقين في معظمهم، إلى التحذير علنا من حرب أميركية ضد إيران، خصوصا بعد تصعيد الوجود العسكري الأميركي بمنطقة الخليج والزعم بأن هذا التصعيد مقصود منه أساسا طمأنة دول الخليج وتهدئة مخاوفها من إيران. في السياق نفسه تابعنا كوندوليزا رايس وزيرة الخارجية الأميركية وهي تجيء إلى المنطقة لتعقد اجتماعا طارئا مع وزراء خارجية دول مجلس التعاون الخليجي زائداً مصر والأردن، والعنوان المطروح أميركيا هو إقامة تحالف من «المعتدلين» في المنطقة ضد ما تعتبره واشنطن خطراً إيرانياً.الكلام الأميركي عن خطر جديد من إيران على المنطقة - لا يبدو أن الإدارة الأميركية تتوقع من أهل المنطقة الاقتناع به أو مسايرته. فالصدام الأميركي مع إيران والرفض الأميركي لنظامها الحاكم قائم ومستمر منذ سقوط شاه إيران ونظامه في 1979. وخلال 27 سنة استخدمت السياسة الأميركية حججا شتى للتخويف من إيران في المنطقة، بدءا من خطر «تصدير» الثورة الإسلامية، إلى اعتبار إيران جزءا من «محور الشر» إلى تلفيق خطر مستجد من قدرات إيران النووية - مع أنها سلمية بالأساس ولم تقدم أميركا في أي وقت دليلا على العكس. وفي ذهاب أميركا إلى أفغانستان عسكريا حصلت على تعاون غير مباشر من إيران. لكن بمجرد أن استقر الغزو عاد الاستعداء الأميركي ضد إيران إلى سابق عهده. وبعد أن استهلك التخويف الأميركي من إيران النووية نفسه أخذت واشنطن تستغل الخلافات المذهبية في المنطقة.ومنذ خطابه الأخير عن «حالة الاتحاد» كرر الرئيس جورج بوش تحذير شعبه علنا من: «إننا نواجه خطرا متزايدا من المتطرفين الشيعة الذين لا يقلون عداء لأميركا وهم مصممون أيضا على السيطرة على الشرق الأوسط» مضيفا إن «كثيرا منهم يتلقى توجيهاته من النظام الإيراني الذي يمول ويسلح الإرهابيين من أمثال حزب الله، الذي يأتي في المرتبة الثانية بعد القاعدة من حيث إزهاق أرواح الأميركيين». الرئيس الأميركي يرى إذن أن «المتطرفين السنة والشيعة وجهان مختلفان للتهديد الاستبدادي نفسه فأيا كانت الشعارات التي يهتفون بها وهم يذبحون الأبرياء فإن لديهم الأغراض الشريرة نفسها. إنهم يريدون قتل الأميركيين وقتل الديموقراطية في الشرق الأوسط والحصول على الأسلحة لكي يقتلوا بمعدل أكثر بشاعة».الحديث الأميركي المستجد عن «خطر شيعي» يهدد المنطقة - ملازم للخطر الإيراني - يبدو مزدوج الهدف. فمن ناحية هو موجه إلى الداخل الأميركي حيث الإدارة مستمرة في انتحال مبررات جديدة لاستمرارها في احتلال العراق بحجة أنه إذا تراجعت القوات الأميركية قبل ضمان أمن بغداد فإن: «المتطرفين سيسيطرون على الحكومة العراقية من كل الاتجاهات. ومن الممكن أن نتوقع معركة ملحمية طويلة بين المتطرفين الشيعة مدعومين من إيران والمتطرفين السنة مدعومين من القاعدة ومؤيدي النظام السابق. ومن الممكن أن تنتقل عدوى العنف لتمتد عبر حدود العراق وأن تجر المنطقة كلها إلى الصراع». في الداخل الأميركي يريد الرئيس جورج بوش أن ينتحل لقواته في العراق مهمة حماية العراق والمنطقة كلها من «معركة ملحمية» ستصبح خطرا على الأمن الأميركي والمصالح الأميركية في المنطقة. أما في منطقتنا نحن فالتحذير الضمني واضح وخلاصته إن «معسكر المعتدلين» العرب إذا لم يحتشد ويسارع بالاصطفاف وراء المشروع الأميركي في العراق سيصبح هو ذاته مهدداً بالانجرار إلى تلك «المعركة الملحمية» ذات البعد الطائفي والمذهبي.من المثير للتأمل هنا أن أميركا في توجهها نحو مشروعها الامبراطوري في المنطقة، وعنوانه احتلال العراق، رفضت في حينه وبقوة أية نصائح تحذيرية من نفس هؤلاء «المعتدلين العرب». في حينه ركبت أميركا رأسها ورفضت كل معارضة لغزوتها العراقية. هي لم ترفض فقط معارضة فرنسا أو الصين أو روسيا أو وكالة الطاقة النووية. لقد رفضت أيضا معارضة مصر والسعودية وسورية وتركيا لمبدأ الغزو بحد ذاته، وكل لأسباب مختلفة. في حينه اعتمدت أميركا فقط على الولاء الأعمى من توني بلير رئيس وزراء بريطانيا وما أسماه دونالد رامسفيلد وزير الدفاع وقتها دعم «أوروبا الجديدة» التي جعلت أميركا غير محتاجة إلى دعم «أوروبا القديمة».حين نعود الآن إلى الوراء إلى تلك الأسابيع الأولى عقب احتلال العراق في نيسان (ابريل) 2003 ستدهشنا لهجة الانتصار والغطرسة التي كان يتحدث بها كل فريق المحافظين الجدد في واشنطن، داخل الإدارة وخارجها، ابتداء من ريتشارد بيرل إلى بول وولفويتز إلى فؤاد عجمي إلى الصحف المعبرة عن مصالح المجمع الصناعي البترولي العسكري. في جانب أول كان المحافظون الجدد يعتبرون أن غزو واحتلال العراق ليس فقط مهما بحد ذاته تدشينا لمشروع امبراطوري متسع، ولكنه أيضا سيصيب قلوب وعقول حكام عرب عديدين بالرعب أمام سطوة القوة الأميركية بحيث يأخذ كل حاكم عربي العبرة لنفسه في التو واللحظة مسلماً مقدرات بلاده لأميركا بلا جدل ولا مناقشة. في هذا الجانب لم تصح توقعاتهم إلا في حالة واحدة فقط هي حالة ليبيا. لكن العقيد معمر القذافي لم يكن في أي وقت يؤخذ بجدية في العالم العربي. فهو في الغالب الأعم مرفوض عربيا سواء وهو يناطح الهواء أو وهو يرفع الراية البيضاء.في جانب آخر كان المحافظون الجدد في واشنطن ينقلبون على بريطانيا أيضا، التابع المطيع لكل ما هو أميركي. فمن البداية أعلنوا أن احتلال أميركا للعراق يجب أن يكون في اللحظة نفسها انقلابا على نظام إقليمي كانت بريطانيا مهندسته الأولى في أيام سطوتها في المنطقة. بهذا المعنى فإن أميركا في مشروعها الامبراطوري ليست مضطرة إلى المحافظة على الصيغة العراقية كما قررتها بريطانيا في عشرينات القرن العشرين. العراق دولة مركزية موحدة؟ وفيها نسيج اجتماعي وطائفي متنوع ؟ لا... لا... لم يعد هذا لازما لأميركا. العراق دولة مصطنعة ولا بد من إعادتها إلى مكوناتها الأولى: أكراد وعرب... سنة وشيعة... جنوب وشمال... مع الاحتلال الأميركي أو ضده... مع وضع اليد على البترول وتفكيك الدولة المركزية والعودة إلى مرحلة القبيلة والعشيرة والطائفة والمذهب من دون التصرف كعراقيين، وإنما فقط كرعايا يسعى كل منهم إلى رضاء ومباركة السيد الجديد في هذه البلاد. أميركا هي السيد الجديد وستبقى في العراق لأمد طويل مقبل. ومن الآن حتى ذلك الوقت لكم مشاكلكم مع بعضكم البعض ولكن ليس معنا بالمرة. نحن الذين سنرجح بين وقت وآخر هذا الطرف أو ذاك بناء على ما نقرر نحن أنه في مصلحة هذا العراق الجديد.في العراق الجديد وضعت أميركا كل القنابل الزمنية التي يمكن تفجيرها عند الطلب. في الشمال مثلا هناك أكراد اكتسبوا على الأرض كل مكونات الدولة المستقلة بمجرد أن يناسبهم ذلك. هناك سلطات جمركية مستقلة وعلم ونشيد ولغة وحدود وبرلمان وحكومة ذاتية وسلطات كافية لإعطاء امتيازات التنقيب عن البترول لشركات أجنبية وميليشيا خاصة وقدرة على التغيير السكاني لمدينة بحجم كركوك بغطاء مسبق من دستور قررته أميركا للعراق. ومؤخرا جرى ترحيل الآلاف من العرب العراقيين إلى خارج كركوك بغطاء ملفق من المادة 140 من الدستور ومن دون أن تعترض سلطات الاحتلال الأميركي على تلك «الجراحة» السكانية.هذا يعيدنا إلى المناورات السياسية بين الإدارة والمعارضة داخل الكونغرس الأميركي. فالتحرك الديموقراطي لمراقبة الإدارة ومحاسبتها عن «الوضع العراقي» جعل هذا الوضع يصبح لأول مرة جزءا أساسيا من النقاش السياسي العلني والمفتوح. إنه نفس النقاش الذي استمرت الإدارة تمنعه من الحدوث منذ البداية. وفي سبيل ذلك كانت الإدارة تمارس حلولا بوليسية في الداخل وعسكرية في الخارج لإرغام معارضيها على الصمت والتقوقع خوفا من اتهامها بعدم الوطنية.انفتاح الوضع العراقي على النقاش الداخلي الأميركي سيطلق سلسلة من التداعيات ربما تنتهي إلى مراجعة وإعادة تقييم المشروع الامبراطوري الأميركي من أساسه. وإلى أن يحدث ذلك تحاول الإدارة تأجيل هذه المراجعة وترحيلها إلى الإدارة التالية، جمهورية كانت أو ديموقراطية. لكن حسابات المنظرين السياسيين في واشنطن لا يسعفها الواقع على الأرض في العراق، والمنطقة بكاملها، بما يجعلنا أمام وضع يزداد تدهورا يوما بعد آخر.وفي اللحظة الراهنة تظل الأولوية الملحة عربيا هي عدم الانجرار إلى هذا الفخ المستجد، فخ استبدال المواجهة مع الاحتلال الأميركي بمواجهة بين السنة والشيعة أو بتعبير جورج بوش «المعركة الملحمية» المستجدة.* كاتب مصري حركة القوميين العرب