هناك اليوم ظاهرة تستدعي التوقف عندها لبحث دلالاتها وأبعادها الثقافية والقيمية.فقبل أيامتوفي زيدون عبد الواهب بمستشفى ابن رشد بالدار البيضاء بسبب الحريق الذي نشب فيه عندما حاول نجدة زميل له أضرم النار في جسده كشكل من أشكال الاحتجاج على الحق في الشغل، ونجا زميله من الموت بعد أن تعرض جسده لحروق خطيرة. وبالأمس، أقدم جندي متقاعد على إحراق نفسه أمام مقر عمالة برشيد وذلك احتجاجا على حرمانه من الاستفادة من بقعة أرضية كما تحكي بعض المصادر الإعلامية. كما أقدم مجموعة من المعطلين الثلاثاء الماضي على إضرام النار في أنفسهم احتجاجا على ما أسموه التماطل الحكومي في حل مشاكلهم. وفي اتجاه آخر، بدأت تتنامى اتجاهات احتجاجية أخرى تحتل الملك العمومي، وتهدد بإحراق النفس في حالة إقدام أجهزة الأمن على أي محاولة لإفراغ هذه المؤسسات العمومية. مبدئيا، لا يمكن الاعتراض على الحق في الاحتجاج ما دام يتأطر بالمقتضيات القانونية، فالدستور يضمن حق الاحتجاج السلمي، وهو جزء من الحريات الأساسية للمواطن. لكن يبدو أن الأمر حين يصل إلى هذا المستوى لا ينبغي أن يعالج بإعلان الموقف المبدئي من الحق في الاحتجاج فقط. فالاكتفاء بهذا القدر من الموقف يعني أن المشكلة لا تعني إلا الحكومة وهيئات المعطلين، وأن القوى السياسية خارج الأغلبية الحكومية و مكونات المجتمع المدني هي غير معنية بهذه الظاهرة وتداعياتها الخطيرة. إن الثقافة القيمية التي أصبحت تؤطر التعبيرات الاحتجاجية اليوم أصبحت تفرض أن يتم الالتفات إلى ما هو أكبر من إعلان الموقف المبدئي، و التداعي إلى فتح نقاش عمومي على مستويين اثنين: مستوي سياسي: يتم فيه طرح معضلة التشغيل وتقييم المقاربات التي تم التعاطي بها مع هذا الملف سواء من طرف الحكومة أو من طرف جمعيات المعطلين في مقاربتهم لمعضلة التشغيل. مستوى ثقافي وقيمي: يتم فيه تقييم جملة من القيم التي أصبحت مؤطرة للتعبيرات الاحتجاجية، من قبيل التهديد بإحراق النفس، واحتلال الملك العمومي، وتعطيل المؤسسات العمومية، وغيرها من القيم التي يفترض أن تتحمل قوى المجتمع المدني مسؤوليتها كاملة في فتح نقاش عمومي حول تداعياتها وآثارها. من المؤكد أن هذه القيم جاءت نتيجة لمسار من الاختلالات في مقاربة ملف التشغيل، سواء من طرف المعطلين الذين يحصرون مطالب التوظيف في الوظيفة العمومية أوفي الحوار بين الحكومات السابقة وهيئات المعطلين الذي سقط في سياسة الوعود الكبيرة التي لا تحقق أبدا.ومن المؤكد أيضا أن هيئات المعطلين لم تعد تثق إلا في قدرتها على الضغط والتهديد لتحقيق مطالبها. لكن، إذا كانت الحاجة تدعو الحكومة اليوم لفتح حوار جدي و مسؤول مع هذه هيئات المعطلين يكون مبنيا على سياسة الوضوح، فإن هذا لا يعني أن المجتمع المدني معفي من المساهمة بدوره في حل هذه المعضلة وترشيد التعبيرات الاحتجاجية، وتقييم حصيلة مسايرة القوى السياسية لمنطقها والقيم التي تحكمها. إن الحوار السياسي حول معضلة التشغيل وتقييم المقاربات التي تم التعاطي به معه، مقرونا بحوار عمومي مفتوح يتوجه إلى تصحيح الثقافة الاحتجاجية وترشيدها أصبح اليوم ضرورة لا مندوحة عنها، وهو ورش يطلب من جميع مكونات المجتمع المدني اليوم أن تنخرط فيه، بما في ذلك القوى السياسية المعارضة. إن ترشيد الثقافة الاحتجاجية هي مسؤولية الجميع أغلبية ومعارضة، قوى سياسية ومكونات مجتمع مدني، لأن الخاسر الأكبر من نتائج هذه الثقافة السائدة اليوم هو الوطن.