سيظل الناس زمنا طويلا يبحثون في أسرار عام 2011 وكيف هبت فيه شعوب هبة فاجأت الجميع بما فيه الشعوب نفسها ، لقد قدمت شعوب تونس أولا ومصر ثانيا و ليبيا ثالثا ثم اليمن وسوريا أمثلة نادرة في الثورة الشعبية الناجزة التي تقلب ميزان القوى بالمفهوم التقليدي وتخرج الأمة من ثنائية العنف أو الاستكانة و ثنائية الرضا بالمتاح أو اللجوء لغير المباح . لقد أطاح التونسيون بابن علي وتنحى مبارك أمام ضغوط الشعب المصري وهزم الليبيون – رغم كل شيء– نظام القذافي وفلوله ويستمر الشعبان اليمني والسوري في ملحمة بطولية عز نظيرها في التاريخ .. بل إن ثورات هذه الشعوب تجاوزت حدودها وحركت نتائجها المياه الراكدة في أكثر من موقع ...في المغرب الذي تختبر فيه ثورة الصناديق – على لغة أهل العدالة والتنمية – وهل ستغني وتكفي .. وكثر الحديث عن الإصلاحات هنا وهناك واتخذت إجراءات بزيادة الرواتب و العطايا في البلدان العربية الغنية وهكذا .. وليس متحاملا بالضرورة من يبدي تخوفا على مصائر الثورات أو يشكك في قدرات بعضها على إكمال المسيرة ، فالثورات بعد نجاحها تنتقل من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر ..فترجمة الأهداف الثورية ومعاني التخلص من الاستبداد وإقامة الديمقراطية ودولة الاستقلال الحقيقية في الواقع قد تكون أصعب بل هي أصعب من إقامة الثورة أصلا ، لست من المتشائمين وأعرف أن شعوبا أسقطت عتاة المستبدين وقدمت أرقى الدروس في التضحية والنضال المدني الفعال قادرة بإذن الله تعالى أن تكمل المهمة ، ولكنها الشفقة والشفيق مولع بسوء الظن ... دافع هذا الحديث هو ما وقع في تونس التي ينظر إليها الجميع اليوم بتقدير خاص ويحس أن خلف مختلف محطات تطورها بعد الله وتوفيقه نظر وتقدير وحكمة وتدبير على نحو أنجزت فيه ما يمكن تسميته بالدرس التونسي ... لقد كانت تونس هي البادئة ولا غرو أن تكن أول الحاصدين ، ولكن ما يشاهد من ارتباك وتردد و التباس في الخطاب و الممارسة في تجارب أخرى شمل أهم القوى في تلك البلدان بما فيها القوى المتصدرة والمتقدمة في المشهد السياسي ، يجعل ما وقع في تونس لافتا ويستحق الإبراز لغلبة عناصر النجاح و التوفيق فيه – فيما أحسب والله أعلم - . في البدء كانت ثورة تونس متميزة في سلميتها وشعبيتها ونفاذها إلى تحقيق هدف التغيير ..ومع نجاح الثورة في إعطاء طابع وطني لم تحرف مساره المطالب الاجتماعية والتنموية الموضوعية لبعض الجهات والمناطق ، عبرت أوساط في السلطة خصوصا داخل المؤسسة العسكرية عن مستوى مقدر من مقاومة إغراء القفز إلى السلطة ( لا يعني ذلك تبرئة الجيش بالمطلق ولا غيابه من مواقع التأثير والتوجيه خفية خصوصا فيما بعد نجاح الثورة ).. وفي البدء ورغم الوضع الاقتصادي الذي خلفته الأحداث وزاده ثقلا انكشاف كذبة التقدم الاقتصادي الذي كانت تعرفه تونس .. انتظم دولاب الدولة واستمرت خدماتها عموما ولم ينفرط عقدها كما وقع أو كاد يقع في حالات شبيهة ..ثم جاءت المرحلة الانتقالية التي شهدت أحداثا وصراعات وربما محاولات لسرقة الثورة أو حرفها عن مسارها ..لكن الطابع العام للمشهد ظل مقبولا ومطمئنا ، عاد المعارضون واعترف بالأحزاب وشهدت البلاد حراكا إعلاميا وسياسيا واسعا أكد خلاله التونسيون على قطيعة حقيقية مع دولة اللون الواحد ونظام الحزب الواحد ونمط الاختيار الواحد ...حاول البعض أن يصوغ الساحة صياغة استقطابية بين إسلاميين وعلمانيين وكان بعض العلمانيين متحمسا لذلك ساعيا إليه ليخوف من خصومه ويكسب تعاطف الخائفين منهم- ولم تخل الساحة الإسلامية بدورها من صوت مقابل بل إن مشاهد تطورت و سلوكيات ظهرت في جامعات وفي بعض المناسبات تغذي هذا الاستقطاب وتعبر عن قصور بين في النظر والتفكير .. ولكن أهل العقل والحكمة رفضوا هذا الاستقطاب رغم الاستفزاز المتكرر في حقهم – حالة حركة النهضة – ورغم تشويههم واتهامهم في توجهاتهم العلمانية – حالة المؤتمر من أجل الجمهورية – ورغم الضغط عليهم والسعي لفرض موقف وموقع محدد عليهم – حالة التكتل من أجل العمل والحريات - ..وهكذا أنجز التونسيون مرحلة انتقالية صعبة ساعدهم عليها جيش يتحكم في نفسه ونخبة مهما تصارعت فإنها تضع لذلك حدا ..وحركة إسلامية ذات إرث معتبر في الانفتاح والمرونة ...وقوى علمانية تقدر العواقب ولا تمتهن إلغاء الآخر ..... جاءت الانتخابات التي فازت بها حركة النهضة بقيادة الشيخ راشد الغنوشي وكان من أوائل المعترفين بفوزها المهنئين لها – من خلال الاعلام على الأقل – منافسها الأبرز الحزب الديمقراطي التقدمي بقيادة الثنائي ميه اجريبي ونجيب الشابي . كان مفهوما أن يتنافس الناس في الانتخابات وإن لم يكن مقبولا أن يوظفوا لذلك كل الوسائل –ساغت أو لم تسغ - ولكن كان جميلا أن يعبر الجميع - وهو ما وقع تقريبا – عن روح ديمقراطية عالية لم تشوش عليها بعض الاستفزازات المحدودة . إلى هنا ظل التونسيون في الصدارة في مادة الدرس الديمقراطي الثوري ..فهم أول من قام بالثورة وهم أول من وضع أسسا لانتقال ديمقراطي توافقي وهم أول من نظم انتخابات حرة بعد إزالة الاستبداد وهم أول من تعاطى مع نتائجها بروح ديمقراطية عالية ..لكن الدرس سيتضح أكثر ويصبح بالغ الأثر بعد الانتخابات وذلك من خلال محطتين مهمتين : الأولى: الحرص على التوافق ، والسعي للشراكة من البداية إذ كان واضحا أنه لا مستبعد إلا من يستبعد نفسه وأن العقل السياسي لدى المنتصرين - وهم في هذه الحالة حركة النهضة أساسا – عقل استيعاب و انفتاح وليس عقل احتكار و إلغاء . وهكذا تبلور من البداية أن الأمور تتجه لائتلاف سياسي بألوان فكرية متعددة ...فيه الإسلامي و فيه القومي اليساري و فيه اليساري الديمقراطي ...وطبيعي أن تأخذ الأطراف المؤتلفة وقتا حتى تتفق في البرامج و الرؤى كما في الحصص و المواقع .. ومريح أن تتوصل لذلك في تقاسم دلالته الرمزية تفوق دلالته العملية فالرئاسات الثلاث بين الأحزاب الثلاثة ولا عبرة بالفوارق الكبيرة في الأصوات وعدد النواب ، تلك الفوارق التي ستستدرك بتوازن في الصلاحيات وتخير في الوزارات ...فجاء مصطفى بن جعفر الطبيب الرزين إلى رئاسة المجلس التأسيسي وجاء المنصف المرزوقي الطبيب المقاوم إلى رئاسة الجمهورية وكان نصيب المهندس الوازن حمادي جبالي رئاسة الحكومة وكان لافتا هنا الموقف الذي اتخذه الشيخ راشد الغنوشي بعدم قبوله منصبا في الدولة منفذا ما وعد به عند عودته إلى تونس من منفاه اللندني وهو درس آخر للقادة السياسيين عموما والاسلاميين خصوصا يستحق أكثر من مقال . الثانية : مناقشات المجلس الوطني التأسيسي ومداولاته حول قانون التنظيم المؤقت للسلط..فقد قدم التونسيون هنا أيضا شيئا مختلفا فالأغلبية المريحة التي يتمتع بها قطب ( النهضة – المؤتمر – التكتل ) لم تغره بالتمرير و العجلة – رغم أن ظروف البلاد ضاغطة – بل جاءت هذه الأغلبية – وكانت النهضة بارزة في ذلك – بروح جديدة تستمع وتناقش وتعدل وتضيف .. والمعارضة – وكل معارضة تريد إحراج وإرباك من تعارضه – أسهمت بحيوية و موضوعية لا تخفى أحيانا في إثراء النص وإدخال التعديلات عليه وجاءت نتائج التصويت – المختلفة من موضوع إلى آخر– لتؤكد أن نقاشا جرى وتقاربا وقع على الأقل في بعض الجوانب. بالخلاصة كان الدرس التونسي رائعا وأكد أمرا مهما خلاصته أن التنافس وارد والاختلافات الفكرية حقيقة ، وأن للإسلاميين خياراتهم وللعلمانيين خياراتهم ، ولكن التنافس شيء والاستقطاب والحدية شيء آخر خصوصا في هذه المرحلة من عمر الثورات و الانتفاضات فالشعوب لا تتحمل اختزال مطالبها في الحرية والكرامة والاستقلال في صراع أيديولوجي إذا لم يتحكم فيه آئلإلى الإلغاء وربما شيء من الاستبداد . لقد نجح التونسيون وفي مسار كل نجاح مطبات وأخطاء في مراحل ثورتهم حتى الآن وبعد إقامة المؤسسات وتحقيق ما أمكن من التوافق وإعطاء درس في التحول الديمقراطي السلس يبقى عليهم النجاح الأهم في أن تترجم السلطات الجديدة في تونس مطالب الثورة إلى واقع ملموس . أنا لست مثاليا وأدرك طبعا أن إكراهات السلطة وموازنات البناء الاقتصادي وتداخل العوامل الخارجية والداخلية في بلد مثل تونس بالذات أمور لا بد من أخذها بعين الاعتبار ، لكن الارتهان لمنطق الواقع بالمطلق واستسهال التبرير- مهما كانت مستويات صدقيته – لم يعودا واردين ولا مقنعين .. في لقاء مع الإخوة في المكتب التنفيذي لحركة النهضة قلت لهم – مع أني لست في موقع التوجيه خصوصا بالنسبة لهم – إنني لا أوصيهم بالإسلام فهم حركة إسلامية والدعوة إلى الاسلام يكفيها أن لا تعاديها الدولة فأحرى إذا صادقتها أو شجعتها .. ولا أوصيهم بالحريات لأني أدرك حقيقة التوجه الديمقراطي الاستراتيجي لحركة النهضة ولأنهم – إن حاولوا – لا يمكنهم الحد من الحريات لأنها مكسب لشعب يحميه ، ولكنني أوصيهم بالموضوع الاجتماعي فأجيال العاطلين وجموع المحتاجين وسكان المناطق المحرومة والمتطلعون إلى الخدمات الجيدة هم أولوية المرحلة القادمة وفعلا كما قال جين شارب في بحثه المميز " من الديكتاتورية إلى الديمقراطية : إطار تصوري للتحرر" أنه ليس " بانتهاء نظام ديكتاتوري معين تنتهي جميع المشاكل حيث إن سقوط نظام معين لا يخلف المدنية الفاضلة ، بل إنه يفتح المجال أمام جهود طويلة لبناء علاقات اجتماعية واقتصادية وسياسية عادلة ". هنا ينبغي التركيز وأتصور أنه إذا نجحت التجربة التونسية في مرحلتها القادمة تحقيقا للتنمية ومعالجة لمشاكل الشغل والخدمات وعناية بالمستضعفين والمحرومين وإعطاء لنموذج سياسي تتصالح فيه المرجعية الاسلامية والحداثة الديمقراطية لن نكون أمام موضوع مقال فحسب.