ومخالفة النصوص الشرعية القطعية من جهة الورود والدلالة ليست مذهبا للإمام مالك ولا لغيره من أئمة الإسلام. فكلهم أعلنوا في حياتهم وفيما أثر عنهم أن الأصل المعتمد لديهم هو القرآن الكريم ثم السنة النبوية الشريفة، لا يعدلون عنهما لما يرونه أو يقولونه، ويُعْلِمون الناس ويُعَلِّمونهم أن هذا دينهم الذي يدينون الله تعالى به. حتى كفر بعضهم بقراءة بعض ويجد هذا الاختيار أعني اختيار مذهب من المذاهب لجمهور الناس مستنده فيما قام به الخليفة الراشدي عثمان بن عفان الذي اختار لكل مصر قراءة قرآنية تلائمه حتى يمنع ما وصفه الصحابي أبي حذيفة بن اليمان بالقول: أدرك الناس يا أمير المؤمنين قبل أن يفترقوا افتراق اليهود والنصارى. لأنه أنكر بعضهم قراء الآخر مع أن الكل قراءته شرعية وسنة متبعة، لأنه ورد كما في الصحيح: حتى كفر بعضهم بقراءة بعض". وأما أهل العلم والنظر ومن يؤمون الناس وينصحوا لهم فلا يحجر عليهم الباب الفسيح في مجال العلم. مسائل مالكية من التحرر 1. الاستعاذة في الصلاة: ومن أمثلة التحرر الفقهي عند مالكية الغرب الإسلامي ما وجدناه عند الإمام ابن العربي في مسألة التعوذ، حيث ذكر قول مالك:لا يتعوذ في الفريضة، ويتعوذ في النافلة. وبعد أن أورد الأحاديث الثابتة في الاستعاذة، رد على مالك والمالكية بالقول:"وما أحقنا بالاقتداء برسول الله في ذلك، لولا غلبة العامة على الحق. وتعلق من أخذ بظاهر المدونة بما كان في المدينة من العمل، ولم يثبت عندنا أن أحدا من أئمة الأمة ترك الاستعاذة فإنه أمرُ يفعل سرا، فكيف يعرف جهرا"(أحكام القرآن: ابن العربي: 3/ص159. وهو رد واضح على ما حفظه أصحاب ابن عاشر: وكرهوا بسملة تعوذا **** في الفَرْضِ والُّسجود في الثَّوبِ كَذَا). 2. الاستفتاح في الصلاة: وعند تفسيره لقوله تعالى: (قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ) (الأنعام:164165). قال ابن العربي وهو ينتصر للدليل الثابت:" ثبت فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَسْتَفْتِحُ بِهِ صَلَاتَهُ، وَثَبَتَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي اسْتِفْتَاحِهَا أيضًا: سبْحَانَك اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِك. وَاخْتَلَفَ قَوْلُ مَالِكٍ بِذَلِكَ؛ فَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: لَمْ يَرَ مَالِكٌ هَذَا الَّذِي يَقُولُ النَّاسُ قَبْلَ الْقِرَاءَةِ: سُبْحَانَك اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِك. ثم بين ابن العربي أن من المالكية من ذهب إلى أن مالكا كان يستفتح ولا يعلن بذلك خشية اعتقاد الناس وجوبها، فرد هذا التأويل بقوله:"وفي مختصر ما ليس في المختصر أن مالكا كان يقوله في خاصة نفسه، لصحة الحديث به، وكان لا يريه مخافةَ أن يعتقدوا وجوبه. ورآه الشافعي من سنن الصلاة، وهو الصواب؛ لصحة الحديث"(أحكام القرآن: ابن العربي: 2/ص299. وذلك عند تفسير قوله تعالى من سورة الأنعام: الآيتين164-165:( قل إن صلاتي ونسكي..الآية). 3. التأمين في الصلاة: وبعد أن ذكر السنة في التأمين والأحاديث النبوية الواردة في فضلها، ذكر ابن العربي أن الإما مالك قال: لا يؤمن الإمام في صلاة الجهر. وذكر تأيل علماء المالك للأحاديث القطعية في الباب، ورد تلك التأويلات بالقول:"وهذا بعيد لغة بعيد شرعا"(العارضة:2/45). ثم ذكر من علماء المالكية من وافقه في مذهبه كابن حبيب وغيره. 4. القبض والسدل في الصلاة: وعند تفسيره لقوله تعالى (فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ)، قال ابن العربي المالكي وهو ينهض للدب عن الدليل:" اختلف علماؤنا في ذلك على ثلاثة أقوال..ثم ذكرها وقال عن الثالث: يفعلها(القبض) في الفريضة وفي النافلة، وهو الصحيح"(أحكام القرآن:4/ص461). وهذا النص المالكي يتبين منه ما يلي: - إن المسألة في المذهب المالكي ليست من القواطع، بل هي خلافية داخله. ودليل من أثبتها أقوى. - إن الصحيح الراجح هو القول بالقبض، لما دل عليه الدليل الصحيح الثابت، ولذلك قال مرجحا إياه:" وهو الصحيح". - إن المذهب المالكي يستحيل أن يجد المنصف اتفاق أئمته على مخالفة النص الشرعي، فإن تأوله بعضهم تأويلا غير مستساغ، أو لم يصله الحديث، أو ثبت عنده لكن بطريق ضعيف.. فإن مما يمتاز به هذا المذهب أن تجد فيه من يرد الأمور إلى نصابها من حيث الالتزام بالدليل الثابت الصحيح. 5. اقتران الصلاة بالنحر وفي مسألة اقتران صلاة الصبح بنحر الضحايا ذهب إليها مالك عند تفسيره لقوله تعالى:? فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ?، بينما ذهب ابن العربي إلى أن المقصود مطلق العبادة والنسك. قال ابن العربي وهو يحكي مذهب إمامه:" فأما مالك فقال: ما سمعت فيه شيئا، والذي يقع في نفسي أن المراد بذلك صلاة الصبح يوم النحر، والنحر بعدها. ولم يوافقه في ما وقع في نفس الإمام مالك وفي قوله: ما سمعت فيه شيئا، بأن قال:" قد سمعنا فيه أشياء وروينا محاسن، ثم ذكر ما سمع في المسألة وقال:" والذي أراد مالك أنه أخذه من الإقران بين الصلاة والنحر، ولا يقرنان إلا يوم النحر، والاستدلال بالقرآن ضعيف في نفسه، ما لم يعتضده بدليل من غيره"(أحكام القرآن: ابن العربي). فإن مالكا ناف لأمر، وابن العربي مثبت، والمثبت مقدم على النافي، لأن الأخير ليس عنده علم. 6. الزيادة على الصلاة الثابتة: جاء في الرسالة لابن أبي زيد القيرواني الملقب بمالك الصغير في صفة الصلاة في التشهد:" اللهم صل على محمد، وعلى آل محمد، وارحم محمدا وآل محمد .. فرد عليه ابن العربي بالقول:" ووهم شيخنا أبو محمد بن أبي زيد في هذه المسألة وهما قبيحا، خفي فيه عليه علم الأثر والنظر، فقال في صفته: اللهم صل على محمد، وعلى آل محمد، وارحم محمدا... وقوله: (وارحم) كلمة ليس لها أصل إلا في حديث ضعيف وردت فيه خمسة ألفاظ:( اللهم صل على محمد، وارحم، وبارك، وتحنن، وسلم). ومثل هذا الحديث لا ينبغي أن يلتفت إليه في العبادة. ثم نزل أبو محمد إلى درجة النظر، فليته اختار قوله: (وسلم). ولكنه اختار (وارحم)، وخفي عليه أن قوله (وارحم) معنى قوله: صل، لأن صلاة الله تعالى رحمة. فحذار أن يقولها أحد، وليقتد بالمعلم الأكبر محمد صلى الله عليه وسلم"(القبس شرح الموطأ:1/ ص354355). ثم أرشد القاضي إلى اعتماد ما أثر عن الإمام مالك بعد أن أورد الروايات في موضوع الصلاة، فقال عنها:" من هذه الروايات صحيح، ومنها سقيم، وأصحها ما روي عن مالك، فاعتمدوه"( عند تفسيره لقوله تعالى من سورة الأحزاب:? إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما?).