ترافقت وقائع الربيع العربي مع احتدام النقاش في قضايا التغيير ومناهجه وعلى وجه الخصوص بين منهج التغيير السلمي المدني وخيار التغيير الجذري الراديكالي. فقبيل هبوب رياح التغيير الديمقراطي كادت خطاب اللاعنف والتغيير السلمي تصير قرينا للجبن والخنوع ومهادنة الطغاة والمستبدين، وكاد دعاته يسفهون ويرمون بكل نقيصة ولاسيما في ظل تنامي إغراءات الخيار المسلح بعد الضربات الموجعة التي سددتها جماعات التغيير المسلح لما تسميه استكبارا عالميا وتوابعه المحلية من جهة، ونظرا لتراكم الخيبات من تواضع نتائج المنهج السلمي. في هذا المقال سنبحث معالم المنهج الرسالي ونستعرض فيه خصائص هذا المنهج ومرتكزاته وآفاق التغيير التي سيفتحها الربيع الديمقراطي معتمدين في ذلك على أدبيات حركة التوحيد والإصلاح وخاصة ميثاقها ورؤيتها السياسية وكذا وثيقة مواقف واختيارات. فلم يعد «الخيار الجهادي» وحده المهيمن على الساحة، وأصبح الخيار السلمي المدني أكثر منافسة بعد الإنجازات التي حققها شباب الثورة السلمية في كل من تونس ومصر والإنجاز الذي يراكمه نفس هذا الخيار في كل من اليمن وسوريا، دون إغفال ما أنجزه الخيار الجهادي في التجربة الليبية بعد أن نجح الطغيان في جر الشباب إلى عسكرة ثورتهم السلمية. وقبل التطرق لصلب هذا الموضوع، يجدر بنا أن نقف على ثلاثة مفاهيم أساسية ومفتاحية في علاقة المنهج الرسالي بالتغير الحضاري. المفهوم الأول ويتعلق بمفهوم الرسالية ونقصد به تلك الخصائص والصفات التي تلازم عملا معينا وتنتقل به من دائرة الفتور إلى الفاعلية ومن السلبية إلى الإيجابية، ومن اللامبالاة إلى الانخراط، ومن الانتظارية إلى المبادرة، ومن الانعزالية إلى التدافع. وتعني أيضا تلك الجهود المبذولة فكريا وعمليا من أجل جعل مشروع ما ملكا للمجتمع، ينخرط فيه ويخدمه بوصفه المعبر عن طموحه وآماله وهو مصطلح تلتقي في صلبه معاني الفاعلية والإيجابية. أما المنهج الرسالي باعتباره المفهوم المفتاحي الثاني فيعني في مدلول هذا المقال مجموع القواعد والآليات والطرق التي يتم من خلالها تنزيل رسالة مشروع مجتمعي معين. ونقصد أخيرا بمفهوم التغيير ذلكم التحول العميق الناتج عن تفاعل مطرد بين الرسالية كخاصية والمنهج كأداة، ويستهدف القيم والإنسان قبل البنى والوظائف، قال تعالى: }إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وإذا أراد الله بقوم سوءا فلا مرد له وما لهم من دونه من وال{ الرعد الآية 11. وقال جل وعلا أيضا: }ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم{ (الأنفال الآية 53) أولا: معالم المنهج الرسالي في التغيير بقراءة مندمجة لوثائق وأدبيات حركة التوحيد والإصلاح وعلى رأسها الميثاق ومواقف واختيارات والرؤية السياسية يمكن أن نلخص معالم المنهج الرسالي في خمس سمات أساسية هي أنه : منهج رباني توحيدي وإصلاحي ديمقراطي ومنهج وتراكمي متدرج وسلمي مدني وأخيرا منهج تجديد وتحديث. 1 منهج رباني وتوحيدي: أما كونه منهجا ربانيا فلجهة إنطلاقه من مقصد ابتغاء وجه الله والدار الآخرة، في الحركة والسكون وفي القول والعمل يقول تعالى }وتلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتقين{ (القصص/83). فلا نسأل الناس أجرا ولا ننتظر ثناء على عمل إصلاحي ولا نتخذه وسيلة لغرض دنيوي أو شخصي يقول تعالى }لا نريد منكم جزاء ولا شكورا إنا نخاف من ربنا يوما عبوسا قمطريرا{ (الإنسان/9 - 10) }وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين{ (الشعراء/109). وبهذا تكون ربانية المنهج الرسالي هي عنصر التمايز الأساسي مع الذين يريدون الحياة الدنيا ويجعلونها هدفهم ومقصدهم، قال تعالى }من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه ومن كان يريد حرث الدنيا نوته منها وما له في الآخرة من نصيب{ (الشورى/18). وفي حديث الثلاثة الذين تسعر بهم النار يوم القيامة بسبب نياتهم الفاسدة، مع أن الذي أدخلهم النار إنما هي أمور يعدها الناس طاعات، فالقارئ قرأ القرآن ليقال قارئ والمجاهد قاتل ليقال شجاع والمنفق أنفق ليقال جواد. ومن هنا تبرز أهمية وقاية المنهج الرسالي من بعض الآفات والمحبطات كالشرك والرياء والعجب والغرور والكبر وحب الجاه والمحمدة من الناس والمن والأذى.وقد سئل النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك عن الرجل يعمل العمل يبتغي به وجه الله ويحب أن يرى موطنه قال لا أجر له، قال الله تعالى: }قل إن صلاتي و نسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين{ (الأنعام/164 165). فقبول الأعمال عند الله ومباركته في الدنيا يتوقف على الإخلاص الذي يجعله أكثر تأثيرا في قلوب الناس بل ويعطيه الاستمرار والدوام إذ ‘'ما كان لله دام واتصل وما كان لغيره انقطع وانفصل». ولا تكتمل ربانية المنهج الرسالي إلا بالتوحيد وهو توحيد يبدأ بتوحيد الخالق، ويتجه إلى توحيد الخلق: توحيد الخالق سبحانه إيمانا بوحدانيته وصمديته، وتفريده بالعبودية. وتوحيده بتوحيد المرجعية العليا لكتابه ولسنة نبيه صلى الله عليه وسلم. وتوحيد الخلق والعمل على وحدة جهودهم يعني إتباع نهج يؤمن بضرورة التحاور والتشاور والتعاون والائتلاف، أيا كانت الاختلافات. 2 منهج إصلاحي ديمقراطي: أي أنه مقتف لرسالة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، كما جاء على لسان نبي الله شعيب عليه السلام في القرآن الكريم }إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت{ (هود/88) وكما جاء على لسان نبي الله موسى مخاطبا أخاه هارون }اخلفني في قومي وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين{ (الأعراف/ 142) وهو الإصلاح الذي جعله الله تعالى سبيل النجاة للعاملين به والمستفيدين منه }فلولا كان من القرون من قبلكم أولو بقية ينهون عن الفساد في الأرض إلا قليلا ممن أنجينا منهم، واتبع الذين ظلموا ما أترفوا فيه، وكانوا مجرمين. وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون{ (هود/116-117). فالتشاور ميزة الجماعة المسلمة كلها فقد مدح الله تعالى المسلمين في مكة قبل أن يهاجروا بأن أمرهم شورى بينهم، والأمر هنا عام يشمل كل أمر مشترك يحتاجون فيه إلى رأي يعتمد وقرار يتخذ. ولتكون الشورى إيجابية نافعة لابد أن تقترن بها أخلاقها المذكورة في الآية السابقة من سورة آل عمران فتجب العناية بهاته الأخلاق لأنها تمثل الجانب الإنساني الذي يتكامل مع الجانب الإداري المتمثل في المساطر المنظمة للشورى والإجراءات التي تيسرها. إذ الديمقراطية وحقوق الإنسان يعتبران مكسباً عظيماً للبشرية تبلور من خلال القيم الدينية الخالدة ومن خلال كفاح الشعوب وزعمائها المصلحين ومفكريها المستنيرين. والمنهج الرسالي ملتزم بما تقرر منها في الإعلانات والمواثيق الدولية باستثناء ما تعارض منها تعارضا بينا مع أحكام ديننا وشريعتنا. ومن مقتضياتها التعددية السياسية والحزبية والفكرية والثقافية في إطار الثوابت العامة للأمة، فالتعددية في هذه الحالة ليست من الاختلاف المذموم بل هي تنوع يغني وحدة الأمة ويقويها بعوامل الخصوبة والحركة والتطور. كما أن حماية الحقوق الكاملة لغير المسلمين، من المواطنين والأجانب. يعتبر حسب المنهج الرسالي من القسط والبر المأمور بهما في قوله تعالى }لَا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِين{ (الممتحنة/8). ومن مستلزمات التمسك بالديمقراطية وحقوق الإنسان والإسهام في تحقيقهما قولا وعملا يستدعي أن لا يبقى المسلمون مجرد مقلد ومستهلك، بل نحن مؤهلون بتراثنا الديني والحضاري ورصيدنا البشري لكي نضفي على الديمقراطية وحقوق الإنسان من أصالتنا واجتهادنا ما يجعلهما أكثر غنى وأكثر ملاءمة لنا. ومن مقتضياته قيامه على الحرية ونقصد بالحرية ما فضل الله به الإنسان من حرية في اتخاذ القرار بما فيها القرار المتعلق بمصيره الأخروي وهي حرية تترتب عنها مسؤولية يتحمل الإنسان فيها عواقب اختياره وتصرفه. }لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي فمن يكفر بالطاغوت ويومن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم{ (البقرة/255). ولاحق لأحد أن يسلب من أحد ما منحه الله تعالى لا باسم الدين و لا باسم غيره قال تعالى: }قل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر{(الكهف/29) وقال: }فذكر إنما أنت مذكر لست عليهم بمسيطر{ (الغاشية/ -21 22) وقال أيضا: }وما أنت عليهم بجبار فذكر بالقرآن من يخاف وعيد{ ( ق/45) فالاقتناع القائم على الحجة والدليل والرضى المؤسس على العلم والمعرفة المؤديان إلى الاستجابة الذاتية. بيد أن الشخص الذي يختار بحريته ورضاه الانخراط في مشروع رسالي والعمل في إطاره يكون ملزما بما التزم به، مطالبا بالوفاء بمقتضيات التزامه. وليس في هذا نقص أو انتقاص لحريته، بل هي ممارسة منه لحريته وإعمال لها وتحمل منه للمسؤولية التي تلازم الحرية. 3 منهج متدرج وتراكمي: والمقصود من ذلك أنه لا يؤمن بالقطائعية ولا بالتحول الطفروي فالتدرج في سنة كونية، }وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما إلا بالحق وأجل مسمى{(الأحقاف/2) وقال أيضا }خلقكم في بطون أمهاتكم خلقا من بعد خلق في ظلمات ثلاث{ (الزمر/7). والتدرج كذلك سنة اجتماعية وتاريخية، فتقدم الأمم وقيام الحضارات خاضع لسنة التدرج، وانتصار الدعوات خاضع لسنة التدرج: }لكل أجل كتاب{ (الرعد/39). والتدرج ثالثا هو سنة شرعية أمر الله به وأمر به رسوله صلى الله عليه وسلم. لأن سنن الله في التغيير مثل سائر سننه عامة لا تستثني وصارمة لا تحابي ومطردة لا تتخلف، فمن عرفها سخرها ومن جهلها صادمها فكانت الغلبة لها. ففقه السنن من أنواع الفقه التي لا لابد منها لنجاح أي تغيير. وعليه، فإن أي تغيير ناجح بحاجة إلى هذا التدرج، لأن الاستعجال والقفز على طبائع الأشياء والتصرف تبعا للاستفزازات وردود الفعل يفضي عادة إلى مصائب وكوارث تعود أضرارها على المشروع وترجع به إلى الوراء. لكن في مقابل ذلك كله فإن التدرج ينبغي أن ينضبط بمصلحة المشروع ولا يسقط في التباطؤ الناشئ عن الخوف من الناس والحرص على الدنيا وكراهة التضحية في سبيل الله وفي هذا يقول تعالى : «لم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة فلما كتب عليهم القتال إذا فريق منهم يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية وقالوا ربنا لم كتبت علينا القتال لولا أخرتنا إلى أجل قريب قل متاع الدنيا قليل والآخرة خير لمن اتقى ولا يظلمون فتيلا أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة» (النساء/77-76). 4 منهج سلمي ومدني: فالسلمية والمدنية ورفض الغلو في الدين وتكفير المسلمين والتقيد بالمشروعية والمقتضيات القانونية للبلاد من صميم مستلزمات المنهج الرسالي الذي يضاد المنهج المغالي القائم الذي يقد يتوسل بالعمل الإرهابي أو بالعدوان استهداف الأبرياء في أرواحهم أو أمنهم أو ممتلكاتهم سواء كانوا مسلمين أو غير مسلمين، يقول تعالى }وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى{ الأنعام/164. ومن مستلزمات المدنية والسلمية ايضا فإن المنهج الرسالي يرفض أعمال العنف وإثارة الفتن داخل صفوف المسلمين ومجتمعاتهم ويدعو جميع مكونات المجتمع من حكام ومحكومين إلى حفظ الأمن والطمأنينة واجتناب أسباب الفتنة والصراع. 5 منهج تجديد وتحديث: وفي هذا الإطار ينبغي التمييز بين الاستمداد من منهج السلف والاتصال المباشر بنصوص الوحي دون وساطات إلا على سبيل الإستأناس وبين السعي لارتياد آفاق التجديد والإجتهاد، فالتدين في الفهم الصحيح هو كسب خاص بكل جيل بل بكل إنسان قال تعالى }تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ{ البقرة /134. ومن ثم يكون الإقتداء بالسلف الصالح هو إعمال لمنهجهم في التعامل مع الكتاب والسنة لا إلى استنساخ تجربتهم التاريخية، و في الاجتهاد و استنباط أحكام جديدة فيما لا نص فيه على أساس مقاصد الشريعة والضوابط العلمية والقواعد المنهجية المعتمدة. وإذا سلمنا بهذا وانطلقنا منه سوف تنتفي مبررات التحوط والتوجس من الحداثة، «بما هي إعمال لقواعد العقل الصريح والعلم الصحيح، في النظر والتفكير وفي تنظيم المجتمع وعلاقاته ومؤسساته، وفي تصريف سائر شؤون الحياة... ولكن الحداثة حين يراد بها التنكر للدين ودوره في الحياة أو جعلها حرية إباحية مدمرة للأخلاق والقيم ومشجعة للفساد والانحلال فهي مرفوضة». وانطلاقا من الإيمان بالاجتهاد والانخراط في الحداثة بمعناها الإيجابي البناء، يدعو المنهج الرسالي إلى الانفتاح الخلاق على الثقافات واللغات والتجارب الإنسانية، وتلك نتيجة طبيعية لعالمية الرسالة الإسلامية ودعوة الإسلام إلى الانفتاح على الأمم الأخرى والتعارف معها مصداقا لقوله تعالى:}وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِير{ الحجرات/13.