نواصل الكلام من خلال غزوة بدر الكبرى عن خصال الفطرة والحق التي دافع عنها صلى الله عليه وسلم، ومارسها عمليا أمام الصحابة الكرام، ورفض أن يعترض معترض عليها أو لا يقبل بالإذعان لها. ونكمل مسيرة سمو الرحمة في الدفاع عن حق المخالفين من خلال ما يلي: قبل المعركة: من لقي أحدا من بني هاشم فلا يقتله ثم قال صلى الله عليه وسلم لأصحابه بعد أن استوعبوا عدم وجوب التعرض لهذا الرجل المفرد وهو في صف المشركين مقاتلا المسلمين:" ومن لقي أحدا من بني هاشم فلا يقتله، ونهى عن قتل العباس بن عبد المطلب". إنه يوم الوفاء والبر والاعتراف للمخالفين بفضلهم وهم في ساحة القتال. ولئن اشتبكت السيوف فالني الأكرم لا يتنكر للوفاء وإن في اليوم العصيب. وإذا كان البختري هي قصة فرد واحد، فإن بني هاشم قبيلة بأكملها، فكيف للسلم أن يلتزم بذلك وسط الموت القريب، ماذا سيفعل؟ وما العمل الجليل الذي استحقوا به هذا التميز؟ إذا كان البختري بن هشام قد وقف مناصرا لمحمد صلى الله عليه وسلم، فإن بني هاشم جميعم؛ مؤمنهم وكافرهم قد عذبوا وعانوا من أجل محمد صلى الله عليه وسلم. لقد استمرت مقاطعة المشركين لبني هاشم وحصارهم في شعب أبي طالب سنتين أو ثلاث سنوات حتى أكلوا أوراق الشجر واخضرت أسنانهم من هذا الأكل. ولقد تحملوا كل هذه المعاناة وهم على الكفر، وتلك من روائع الانسانية والخيرية فيهم، فلا يجوز أن يتجهم المسلم لهؤلاء، فإن الوفاء في الشدة واليسر عنوان معدن الرجال. بعد المعركة: لو كان المطعم بن عدي حيا ثم كلمني لتركتهم له ها قد حان وقت القصاص من هؤلاء الذين لم يتركوا فرصة التنكيل بالمسلمين إلا أوسعوهم نكالا. والانتقام له أسبابه المفهومة حتى وإن كانت غير معقولة، وَوَقْعُ مرارة الظلم الذي شردهم وأخذ أموالهم وديارهم بالباب ليس بعيدا. ولكنه صلى الله عليه وسلم تكلم خارج المألوف، ونطق بغير المعتاد بين القوم، وقال وهو يمر على الأسارى بين يديه يوم بدر:" لو كان المطعم بن عدي حيا ثم كلمني في هؤلاء النتنى لتركتهم له"(البخاري: كتاب المغازي: باب شهود الملائكة بدرا، حديث رقم 4024). والرجل مات على شركه، ولم يلحق بمسيرة الإيمان، ولم يقل يوما: رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين. وأحسب أن المطعم بن عدي لو كان حيا ثم شارك وأسر، فإن خصال النبوة السامقة لن تتنكر لفضل الرجل، فتكافئ يده بأيادي أفضل منها. فلن تكون يد المطعم أفضل من يد سيد الخلق. فإنه صلى الله عليه وسلم صادقٌ في قوله أنه سيهبهم له. إن الأخلاق والمبادئ لا يجوز أن يقلب لها المسلم ظهر المجن؛ أو أن يضعها على مذبح التنكر والغدر. فإذا حلت النكبات، ووقعت الأزمات، وتأخر النصر وطال أمده، فإن الأخلاق لا يجوز أن تنهزم إذا هزمت الأجساد. لقد كان للمطعم بن عدي ثلاث حسنات، وهي: أ أجار النبي صلى الله عليه وسلم من ظلم القرشيين. ج سعى في نقض الصحيفة الظالمة التي أمدت في الحصار ثلاث سنوات. ج كان يقول للقرشيين: كونوا أكف الناس عن محمد. حسنات المطعم بن عدي أ- في جوار المطعم بن عدي، أو قانون الجوار: لما رجع صلى الله عليه وسلم من الطائف وقد تعرض لما تعرض له، لقي النبي صلى الله عليه وسلم على حال غير معجبة، فماذا عمل؟ قال ابن اسحاق: ثم غن المطعم بن عدي أمر أربعة من أولاده فلبسوا السلاح، وقام كل واحد منهم عند ركن من الكعبة، وأعلن عن إجارته للنبي صلى الله عليه وسلم. فليغ ذلك قريشا فقالوا له: أنت الرجل الذي لا تخفر ذمتك". وقضية الجوار عند عرب الجاهلية أشبه بطلب اللجوء السياسي أو حماية الدولة لبعض الرعايا السياسيين وغيرهم. ب كونوا أكف الناس عنه: بعد الهجرة بدأت الملاحقات القرشية لهؤلاء الذين خرجوا مهاجرين يريدون إغراء حكام البلاد التي ذهبوا إليها، فرفض المطعم بن عدي هذا المسلك من القرشيين وقال قولته المشهورة: كونوا اكف الناس عنه. روى الطبراني عن جبير بن المطعم عن أبيه أنه قال لقريش: إِنَّكُمْ قَدْ فَعَلْتُمْ بِمُحَمَّدٍ مَا فَعَلْتُمْ، فَكُونُوا أَكَفّ النَّاس عَنْهُ " وَذَلِكَ بَعْد الْهِجْرَة وقد ذكر ابن كثير في تفسيره عند قوله تعالى:" ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون"، أن المطعم بن عدي قال : يا أبا الحكم ، والله ما رأيت أحدا أصدق لسانا، ولا أصدق موعدا، من أخيكم الذي طردتم، وإذ فعلتم الذي فعلتم فكونوا أكف الناس عنه. قال (أبو سفيان) بن الحارث: كونوا أشد ما كنتم عليه". فرفض مطاردة محمد وأصحابه.وتحنن على النبي صلى الله عليه وسلم بالقول لهم: إن أخاكم الذي طردتم. والتعاطف عند القوم الظالمين غير مقبول، يتهم صاحبه وينال منه. ثم أعلن فيهم خصال محمد صلى الله عليه وسلم ,انه لا يستحق ما تجرأتم به عليه من المروق. ج نقض الصحيفة الظالمة: وقد اشترك مع البختري وزهير بن أمية وهشام بن عمرو وزمعة بن الأسود في نقض الصحيقة الظالمة التي كان من ورائها حصار دام أزيد من سنتين حتى أكل صلى الله عليه وسلم مع أصحابه أوراق الشجر. وكان هؤلاء الخمسة هم الذين اتفقوا ضد أبي جهل وإرادته أن يستمر الحصار وتستمر المعاناة، فأدرك أبو جهل بدهائه أنهم اتفقوا على فك الحصار دونه، فقال لهم: هذا أمر قضي بليل. وكان المطعم بن عدي هو الذي قام شخصيا لإخراج الصحيفة من جوف الكعبة، فوجد الأرضة قد أكلتها إلا فاتحتها: باسمك اللهم. مستفادات من قصة البختري والمطعم بن عدي ويستفاد من قصة الرجلين، ما يلي: •إن الخير والمعاني النبيلة لها رجالاتها في كل الملل والنحل والأعراق، وهي من بقايا النبوات. •من كانت له يد على الإسلام فإن هذا الدين لا يتنكر ليد من أياديه، ولا ينقلب على فضيلة من فضائله، فلن يكون كفره وشركه في مجال الوفاء والنبل أعلى من وفاء الإسلام ونبله. •وقد استدل الفقهاء وعلماء الحديث على أن أمثال هؤلاء إذا وقعوا في الأسر فللإمام أن يمن عليهم بغير فدية يقدمونها، ولا يدخل هؤلاء في خمس الغنيمة، وهو ما بوب عليه البخاري في صحيحه بالقول: باب ما منَّ النبي صلى الله عليه وسلم من غير أن يخمِّس. •احترام الفضلاء من الناس وإن كانوا مشركين. ولست أدافع عن الشرك والكفر، ولا أنا قائل بسداده، إنني على العكس من ذلك أشد نفورا من الكفر، ومتضايق من اختيار البعض له، وانتكاس فطرتهم. ومع كفري بالكفر ويقيني في الإيمان، فإنني رجل يدافع عن الإيمان وأخلاقه، والإسلام ومبادئه، والإحسان ومقاماته. فإن كان الإحسان مع الحيوانات مأمور به شرعا، فإنه مع خلق الله المكرم ليس بأقل منه. وكم من أهل الكفر دخلوا الإسلام بأخلاق أبنائه. ولو فرضنا جدلا أنهم لم يدخلوا فلا يجوز أن نكون نحن الصداد عن سبيل الله، وإنما المطالب منا أن نخفف من شرهم وعدائهم، إن لم نستطع إزالته جملة. •التعريف بهم وبأعمالهم التي هي في صالح الإنسانية. ولذلك لما علم الصحابة من نبل في حق المطعم ذكروه بما يليق بمكانته، فقد رثاه حسان بن ثابت لما مات مجازاة له على ما صنع للنبي صلى الله عليه وسلم. •عدم التعرض لهم بالأذى كيفما كان نوعه. •خصلة الوفاء وعدم التنكر للجميل وإن صدر من مشرك، فإن من صفات أهل اللؤم أنهم لا يفون للناس بما لهم عليهم من الأيادي. إذا أنت أكرمت الكريم ملكته وإن أنت أكرمت اللئيم تمردا •إن المسلم في هذا العصر عليه أن يلتفت إلى هؤلاء الأحرار الشرفاء الذين يشتغلون في الميدان الحقوقي أو الإعلامي أو العلمي أو الشخصي، والذين يحترمون القيم الإنسانية، ولا يقبلون للحق أن يكلم، ولا للحقيقة أن تقلب، فتضيع البشرية بحماقات من يحرس الفساد والرذيلة. لا جناح على المسلم إن وضع يده في أيدي هؤلاء، وينادي: وقد دعيت به في الإسلام فأجبت، وحققت أمنية نبي الإسلام محمد صلى الله عليه وسلم. •الإنصاف النبوي: فلم يمنعه صلى الله عليه وسلم كفر القوم وما هم عليه من الشرك من أن يحقق العدل معهم، بل وأن يذكِّر بمحاسن أعمالهم، وهو لا يترجى إسلامهم وإيمانهم (حالة المطعم بن عدي الذي انتقل كافرا)، حتى لا يدع مدع أن مقالته صلى الله عليه وسلم مرتبطة بتأليف قلبه ورجاء إسلامه، وحتى مع هذه فإن التأليف لا يكون بالكذب وقول ما ليس بكائن. وإنما هي مقالة فضيلة لا ترتبط بإسلام أو كفر، وهي من الحق الذي قامت عليه السماوات والأرض، وهو مصداق قوله عز وجل:(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ)(المائدة: 8). •وها هنا عبرة ترتبط بما سبق، وهي أن النبوات لم تأت لعداوة الإنسانية، وإنما جاءت لتتم الخير الذي عندها، وتكمله وتحسنه وتزينه:" إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق" (تحقيق الألباني: صحيح. انظر: حديث رقم: 2349 في صحيح الجامع). لقد كلموا أقوامهم بما في قلوبهم من الحرص والشفقة عليهم، وما لمعان الإنسانية والأخوة التي تجمعهم، فقالوا:(وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا) (الأعراف:65).( وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا)(الأعراف:73). (وَإِلى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا) (الأعراف:85). فذُكروا بالأخوة الإنسانية التي لا يجوز التفريط فيها، وأنهم لم يأتوا مناصبين العداء لهم، وإنما مصححين ومنكرين بعضا من أعمالهم:(قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقَالِينَ)(الشعراء: 168). الشرفاء في كل الأمم إننا نقصد بالكلام الشعوب الغربية التي نهض أحرارها يستنكرون المجازر التي ارتكبها العدو الغاشم، والأطباء الذين غامروا بأرواحهم ووقعوا على أن لا تابع ولا متبوع إن استشهدوا وقضوا في ساحة إنقاذ الأطفال والشيوخ والنساء ومن لا حيلة له، فقط أن يتركوا لهم الدخول إلى غزة ليقدموا ما عجز عنه المهرولون الذين بيدهم إمكانات الدولة التي أصبحت ضد الأمة، و غامروا وضحوا بحياتهم المهنية. هذا الانتصار للقيم وللإنسانية وللآلام الواقعة غدرا وظلما يزيد في التأكيد أن الغرب غربان، غرب الإدارات التي تقبل الظغوطات وإن بالدوس على حرية الشعوب وكرامتها، وغرب شعبي لا يعترف ولا يريد أن يُفْهِمَه أحد بالقبول بالجرائم ضد الإنسانية. أما العرب والمسلمون فإنها قضيتهم الوطنية الأولى. وأما هؤلاء الذين ليسوا من أهل الإسلام، فإن المعاني الإنسانية والقيم الفاضلة التي كانوا يحترمونها ويدافعون عنها كانت محل إكبار من طرفه صلى الله عليه وسلم. كان يثني عليهم وعلى أعمالهم، ويجهر في أصحابه بأن يحترموهم ولا يصِلون إليهم بأذى، بل لو كانوا في معركة القتال الشريفة، كان عليه الصلاة والسلام يوصي أصحابه بهم خيرا، ويأمرهم بعدم قتلهم. وإن انتهت المعركة كان يقبلهم شفعاء، و يفضل أن يلبي طلباتهم، ويستجيب لما تعلقت قلوبهم بهم، حتى ولو كانت طلبهم هو العفو عن الأسارى من أصحابهم. وها أنت ترى قواف سفن الحرية تضم هؤلاء الذين حدثنا صلى الله عليه وسلم من خلال غزوة بدر من وجوب عدم التعرضص لهم بسوء، وذكر جليل أعمالهم، وقبول شفاعاتهم..ألا فلنعلم هذه الدروس من غزوة الرحمة والاعتراف والمسؤولية. إنه لشرفِهم ومروءتِهم وإن خالفونا وكانوا على غير ديننا، فإنه مطلوب من كل مسلم شرعا أن يعرف قدرهم ويحترم مكانتهم. فإنه صلى الله عليه وسلم جاء استجابة لنداء الفطرة والحق، فكل من تشبع قلبه بمعانيهما، ولم تتلوث فطرته بمعاكستهما، يعد عندنا من الرجال الذين تحفظ مكانتهم وترعى ذمتهم.