لا ينبغي أن يمر حدث انسحاب بعض ممثلي أحزاب ونقابات من إحدى الجلسات الرسمية التي عرضت خلالها عناصر من مسودة الدستور على أساس أنه حدث عابر. قد ينزلق البعض إلى قراءة النوايا، ومحاكمة خلفيات موقف هذا الحزب أو ذاك، وقد تنخرط منابر إعلامية في اعتبار هذا الموقف تشويشا على مسار الإصلاح، أو اعتبار الموقف الآخر تآمرا على الإصلاح، لكن، ذلك لا يمنعنا من الاعتراف بوجود حاجة إلى مناقشة آلية تدبير الإصلاح الدستوري والانتخابي بالمغرب من منظور وطني يضع المصلحة العليا للوطن فوق كل اعتبار. نحتاج أن نذكر في مقدمة هذا المقال، أن مطلب الإصلاحات الدستورية ظل يشكل منذ التسعينيات مدخلا أساسيا للإصلاح في المغرب، إلى الدرجة التي كتبت فيها مذكرات، بل خرجت مجالس وطنية لبعض الأحزاب الديمقراطية تضع الإصلاح الدستوري كشرط أساسي في المشاركة الحكومية. لا شك أن النقلة النوعية التي أحدثها الحراك الشعبي الديمقراطي، أنهت المنطق الانتظاري الذي كانت ترتهن إليه الأحزاب في تدبير المطلب الدستوري، وصرنا اليوم أمام مهمة كبرى لا تتعلق فقط بإمكانية أن يتوفر المغرب على دستور ديمقراطي، وإنما تتعلق بلحظة سياسية فارقة يمكن أن تكون المنطلق لبناء قواعد الدولة الديمقراطية الحديثة. لكن هذه الأرضية التي يمكن أن تكون عنوانا مؤطرا للإصلاح الدستوري تتطلب الوعي بهذه اللحظة السياسية التأسيسية بكل ما تعني كلمة تأسيس من معنى وبكل ما تتطلبه من شروط. بهذا المعنى، نكون أمام لحظة تاريخية يلزم أن تتوفر فيها كل شروط إنجاح التجربة التأسيسية. شروط في التوقيت، وشروط في المضمون الدستوري، وشروط في الآلية السياسية وتدبير الإصلاح. من حيث التوقيت، أو للدقة الأجندة الزمنية للإصلاح، هناك منطقان متعارضان يلزم فتح النقاش حولهما: منطق يراهن على تسريع الأجندة الزمنية، وبناء الهياكل السياسية والمؤسسية على قاعدة الدستور الجديد قبل متم السنة، ومنطق يرى أن اللحظة التأسيسية هي أولى من اللحظة الانتخابية، وأن بناء الهياكل المؤسسية والسياسية ليس أولى من إرساء قاعدة الإصلاح وأرضيته الأساسية. للمنطق الأول اعتباراته، كما للمنطق الثاني مستنداته، فالمنطق الأول محكوم بشروط اللحظة السياسية، لحظة الحراك الشعبي، وما يتطلبه ذلك من تغيير في التشكيلة الحكومية وتجديد المؤسسات السياسية، وإعادة ترتيب الخريطة السياسية بالنحو الذي يمتص الحراك الشعبي أو ينهيه تماما. في حين يرتهن المنطق الثاني بشروط اللحظة السياسية من زاوية أخرى، زاوية استثمار ضغط الحراك الشعبي والمد الديمقراطي العربي للخروج بدستور ديمقراطي يؤسس للدولة المغربية الحديثة. التركيب المناسب بين المنطقين يمكن حسمه بالنظر إلى مضمون الإصلاح وآلية تدبيره، ذلك أن مناقشة هذا المضمون بالشروط الدميقراطية التي ينبغي أن تتوفر في هذا النقاش، يفرض أن تأتي آلية تدبير الإصلاح مختلفة عن الأساليب التي كانت تتم في السابق، وتقطع بشكل جذري مع الطريقة التي تم بها تدبير الإصلاح الدستوري سنة 1962، والتي تمت بسرعة قياسية لم تستوعب النخب السياسية خلفياتها حتى تم تأسست جبهة الفديك وأعلنت مشاركتها في انتخابات 1963. على العموم، نحن نحتاج اليوم قدرا من الثقة، نتجاوز به القراءة السيئة للنوايا، حتى نؤسس للمرحلة الجديدة، لكن الثقة هذه ينبغي أن تكون معززة بآلية في تدبير الإصلاح متفق حولها، تضع خارطة الطريق لبناء الدولة الحديثة في المغرب. ببساطة، سيكون أمام المغاربة مبدئيا فرصة تاريخية للتمتع بدستور ديمقراطي، وهو ما يتطلب أن يتاح لهم الإمكان الضروري لاستيعاب الجديد الذي يحمله، ومناقشة بنوده ومقتضياته، وإبداء الرأي فيه نقدا وتعديلا قبل أن يعرض على الاستفتاء. ليس أمامنا إلا خياران: أن نعتبر أن لجنة صياغة الدستور قد استمعت إلى الكل، ونقلت وجهة نظر الجميع، وضمنتها بشكل من الأشكال في الوثيقة الدستورية، وهي اليوم جاهزة للتصويت، وفي هذه الحالة يمكن أن نعرض هذه الوثيقة الهامة التي تم الاشتغال عليها لمدة ثلاثة أشهر لضربة عنيفة ستكون لها آثار جد خطيرة على الاستقرار السياسي بالمغرب، وهناك الخيار المقابل، أن يتم عرض المسودة على الأحزاب السياسية، لتعرضها على قواعدها، ويفتح نقاش عمومي حولها، ثم تتلقى اللجنة رد الأحزاب السياسية، ذلك الرد الذي يبرز الحدود والنهايات التي لا يمكن أن تكون محل تراجع، ويتم بعد ذلك إقحام التعديلات المفصلية في نص الوثيقة الدستورية ليتم عرضها على الاستفتاء. للخيار الثاني ميزة وكلفة وتحديات، أما ميزته، فهو أنه يوفر الشروط الضرورية للنقاش العمومي ويدفع الأحزاب السياسية لتفعيل ديمقراطيتها الداخلية ويضمن للوثيقة الدستورية أعلى منسوب من الإجماع، أما كلفته، فتتعلق بالأجندة الزمنية التي يمكن أن تأخذ شهرين أو ثلاثة أشهر، فيما يبقى التحدي مرتبط بمستقبل الوثيقة الدستورية حين توضع في خضم النقاش العمومي في هذه اللحظة السياسة المحكومة بالحراك الشعبي والمد الديمقراطي. لكن، عند المقارنة، فإن الذي يمكن أن يربحه المغرب بالخيار الثاني، هو أفضل بكثير من «المغارم» التي يمكن أن يدفعها، والتي تتعلق بتأخير المسار الانتخابي، والعمل بذات المؤسسات السياسية القائمة التي لا تحظى بثقة الشعب. الجواب عن هذه التحديات يرتبط بمنسوب الإرادة السياسية التي توجد وراء أجندة الإصلاح، إذ يمكن أن يصبر المغاربة على حكومة غير ذات مصداقية، ويمكن أن يتقبل الشعب أن يستمر البرلمان الحالي إلى أن يستكمل النقاش حول الوثيقة الدستورية، خاصة وأننا لم نتجاوز المرحلة العادية سياسيا، فالولاية الانتخابية لم تنته بعد، ومطلب الانتخابات المبكرة لم يكن مطلب الأحزاب السياسية، ثم إن وجود إرادة سياسية حقيقية لتدبير الإصلاح الدستوري وفق الآلية الديمقراطية سيكون أفضل جواب يمكن أن تقدمه الدولة لإنهاء الحراك الشعبي وجعله طرفا أساسيا في دعم مسيرة هذا الإصلاح. بكلمة، ليس هناك ما يدفع المغرب إلى الاستعجال إذا كان فعلا يروم بناء دولته الحديثة بدستور ديمقراطي، وليس هناك أي مبرر للإسراع في ترتيب أجندة انتخابية دون توفير شروطها، إلا أن تكون هناك رغبة في الالتفاف على الإصلاح، وإعادة إنتاج دستور 1962. إن المغاربة لن يشعروا أبدا أنهم يملكون دستورا ديمقراطيا وأنهم أصبحوا يعيشون في جدولة ديمقراطية حديثة إذا لم تتوفر لهم الشروط الضرورية والزمنية لمناقشة دستورهم، وتوفير لوائح انتخابية ديمقراطية تكفل لهم التصويت الحر على هذا الدستور. إن مقولة « مراجعة اللوائح إجراء مؤقت للاستفتاء على الدستور ريثما يتم إحداث لوائح انتخابية جديدة للإنتخابات» هي أسوأ مقولة يمكن أن يتم التعبير عنها في هذه اللحظة السياسية، ذلك أن الدستور يستحق أن تكون لوائح الاستفتاء عليه ديمقراطية أكثر مما تستحق الانتخابات، وهي مقولة أقل تعليق يمكن أن يكون لنا عليها، وهي أنها مؤشر سيء ينبئ عن شيء أسوأ نرجو ألا يكون حظ الدستور أن يواجهه.