أجرت مجلة البيان حوار شاملا مع الدكتور مولاي عمر بنحماد نائب رئيس حركة التوحيد والإصلاح ورئيس قسم الدعوة واللجنة العلمية بها. وتناول الحوار الحراك العربي الحالي وتطوراته وخصائصه وموقع العلماء والحركات الدعوية والإصلاحية فيه وسبل التأثير والتوجيه، فضلا عن الحضور والمشاركة. نعيد نشره لتعميم الفائدة. ما هي قراءتكم للأحداث الجارية في دول العالم العربي، في ظل ثورات عربية متواكبة؟ بسم الله الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد، فبخصوص الأحداث الجارية في دول العالم العربي تعددت القراءات، ومع ذلك فمما يكاد يكون من المجمع عليه الاستبشار بهذه الأحداث على أنها عودة الروح لهذه الأمة، روح المقاومة والعزة والكرامة ورفض للفساد والاستبداد الذي عمر طويلاً في بلادنا العربية... ومما ميّز هذه الأحداث كذلك عنصر المفاجأة فلو سألت عن حجم التطورات وسرعتها قبل مدة لا أحد يستطيع أن يدعي علمه أن الأمور ستسير بنفس الإيقاع الذي سارت به، ولا ستحقق النتائج التي حققتها... هل ترى أن دوافع الثورات العربية الحالية تعود إلى أزمات سياسية واقتصادية واجتماعية وأمنية؟ بكل تأكيد الأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأمنية كلها تضافرت وأعطت هذه الحالة التي تعيشها الأمة العربية . فحالة الانسداد السياسي التي تعرفها بلادنا العربية خاصة في الحالات التي يقود البلاد فيها الحزب الواحد سواء سُمي حزبًا واحدًا، أو لم يسم كذلك، وسواء أقر بباقي الأحزاب أم نفاها وما يترتب على ذلك من تزوير للانتخابات وإقصاء وإضعاف لباقي الشركاء السياسيين وفي غالب الأحوال يحيط الحاكم نفسه بجماعة من المتملقين الذين يزينون له كل سعي ويحجبون عنه كل نصح ... ويترتب على الفساد السياسي فساد اقتصادي يتجلى عادة في الغنى غير المشروع، وتكديس للثروات عبر نهب المال العام، والتلاعب بكل الصفقات العمومية، والتطاول على خيرات البلاد فتتحول الفئة الحاكمة إلى شيء أشبه ما يكون بعصابة فوق القانون... ويترتب على هذا الفساد السياسي والاقتصادي فساد اجتماعي بانتشار أحزمة البؤس في طول البلاد وعرضها، وتتضاعف أعداد المعطلين، وتتسع الفوارق الاجتماعية ... ويحمي هذا الفساد المتعدد المظاهر أجهزة أمنية تسعى في توفير الأمن للمفسدين عوض توفير الأمن والحماية للمواطنين. وتحمي هذا الفساد أيضًا وسائل إعلام دورها تزييف الحقائق وتسويق الأباطيل واستفراغ الوسع في التضليل عوض استفراغه في التنوير... ويضاف إلى ذلك كله أزمة العدل والقضاء المستقل... نحن الآن في وجه غضب شعبي عارم على بعض السياسيات الحكومية. فما الطريق الأمثل لمواجهة هذا الغضب؟ ليس هنالك من سبيل غير المبادرة والمسارعة إلى الإصلاح العميق والشامل والحقيقي. وكل محاولة للتجاهل قد فات أوانها، ومثلها كل محاولات التسكين عبر توزيع ''رشاوى'' تحت مسميات متعددة، ومثلها محاولات التخوين بنسبة الأمر إلى مؤامرات خارجية، وأبشع من كل ما سبق محاولات الإسكات عبر القمع والترهيب وبث الرعب... ولا يبقى في مقابل ذلك إلا الإنصات لصوت الشعب بكل فئاته وخاصة الشباب ، والاستجابة الفعلية للمطالب المشروعة، وإطلاق مبادرات عملية لإعادة الثقة ولإضفاء المصداقية على كل الخطوات الأخرى... ماذا تنصحون التيارات الإسلامية المختلفة في تلك الدول للتعامل مع إشكاليات العصر والوضع الراهن؟ التيارات الإسلامية المختلفة معنية بلا شك بكل ما يجري في بلداننا، ووضعها الطبيعي أن تكون في قلب هذه الأحداث موجهة ومتفاعلة . إننا نمر بأحد المفاصل التاريخية وكل تردد في الحضور سيجعل عملية اللحاق صعبة أو مستحيلة، إن القرارات يتخذها الحاضرون، هذا مع استحضار مستويات الحضور المتعددة وأشكاله المختلفة بحسب ما تقتضيه كل حالة . إن التيارات الإسلامية المختلفة هي الأقرب بشكل عام لصوت الشعوب، وميزتها في رصيدها من المصداقية مما يجعلها مؤهلة لقيادة المرحلة. ولعل ارتباط أغلب الثورات بيوم الجمعة أحد تجليات هذا الارتباط. وبالمقابل فهذه الأحداث فرصة للتيارات الإسلامية للقيام بالمراجعات المطلوبة، ومن ذلك إعادة ترتيب بعض المسلمات التي بنت عليها مشاريعها ، وكذا مراجعة موقع الشباب، والعلاقة مع باقي المكونات المجتمعية، والعمل على تنمية دائرة المشترك... ماذا يمكن للعلماء والمصلحين تقديمه للشعوب العربية في وقت الثورات؟ العلماء والمصلحون عندهم أشياء كثيرة يقدمونها للشعوب وللحكام أيضًا، إنها فرصة لإعادة الالتحام بالشعوب بآلامها وآمالها، إنها لحظة للتوجه للشعوب بالترشيد والتوجيه وللحكام بالنصح المبين والأمة بحاجة لجملة من الأحكام في حفظ الحقوق والأموال والأعراض وتخليص الناس من نفسية الانتقام أو التوسع في الاتهام كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} المائدة : 8 لقد كانت هذه الثروات محطة تميز فيها علماء بحضورهم وانكشف آخرون بمزيد من ميلهم إلى جهة الباطل وأهله والأمثلة كثيرة في الطرفين... لماذا يظهر العرب دائمًا غير قادرين على بناء مشروعهم الوحدوي والتضامني؟ المشروع الوحدوي والتضامني هو تتويج للمشروع الوطني التنموي وفي غياب أو تعثر هذا الأخير لا يمكن إلا نرى تعثرًا وفشلاً في الأول. وهنا أيضًا يمكن القول بأن نجاح الثورات العربية في تحقيق تنمية داخلية حقيقية سيكون لبنة في وحدة الأمة التي طال انتظارها. ولكن نريدها وحدة مبنية على أسس علمية وليس على مقتضيات عاطفية فقط ، كما نريدها وحدة لا تلغي التنوع ولا تتصادم مع الخصوصية. وهنا تتأكد الحاجة إلى جهود فكرية وعلمية وتربوية تحرر الإنسان من كثير من عوائق الوحدة المنشودة ... ما هي رؤيتكم للموقف الغربي من تلك الثورات، وخاصة في ظل التحول في سياسة التعامل مع أولئك الثوار، بعد أن توصلت حكومات تلك الدولة إلى القناعة بأن استخدام العنف والحصار الاقتصادي كسياسة عامة في المواجهة مع حركات الإسلام السياسي قد فشلت في تحقيق أهدافها أو على الأقل وصلت إلى مفترق طرق يتعين عنده البحث عن أساليب تعامل جديد معها؟ الموقف الغربي كان دائمًا يتحرك بما يحقق ويحمي مصالحه كما يقدرها هو، ولقد كان ما جرى ويجرى فرصة لذات الموقف الغربي أن يغير من قناعاته ومن حلفائه. ولكن الذي طبع الموقف الغربي بشكل عام هو الاضطراب والتردد وإذا أخذنا دولة واحدة للقياس يمكن التمييز في الموقف الفرنسي بين الحالة التونسية، وقد رأينا بوضوح كيف أن وزيرة الخارجية الفرنسية اضطرت لتقديم استقالتها بسبب تطورات الأوضاع في تونس، وبين موقف نفس الدولة من تطورات الوضع في مصر أو ليبيا؛ حيث تزعمت الدعوة إلى التدخل المسلح... ويظهر أن الدول الغربية ليس لها من خيار إلا تغيير قناعتها بأن دعم نظام مستبد لا يمكن أن يضمن لها تحقيق مصالحها، وأنها مطالبة بالانفتاح على مختلف القوى الفاعلة في هذه المجتمعات. أما الموقف مما يسمى حركات الإسلام السياسي فالأمر مختلف مع العلم بأن الذي جرى لا يمكن نسبته لتنظيم مهما كانت قوته في المجتمع، بل إن الذي جرى كان ثورات شعوب تواقة للحرية والعزة والكرامة، ولذلك فالموقف مختلف. وميزته الأساسية تجاوز عقدة التخويف من الإسلاميين والتي نرجو أن تؤسس لعلاقة مستقبلية منفتحة. هل الثورات العربية المتتالية .. ستقود إلى وحدة عربية في رأيكم، أم أنها مجرد حالة تقليد كما وصفها البعض؟ هذا السؤال يتقاطع مع سؤال آخر سبق وأحب التأكيد هنا أنه مع كل الآمال المعقودة على هذه الثورات العربية المباركة، إلا أن الحكمة تقتضي قدرًا عاليًا من الحيطة والحذر، خاصة مع ما يتسرب من عمليات الالتفاف والإجهاض من طرف ما يُعرف بالحرس القديم، أو القوى المقاومة للتغيير، والتي لن تدخر جهدًا في إفراغ هذه الثورات من مضمونها بما يجعلها تطمئن لكل الامتيازات التي كانت تستحوذ عليها. وعليه فكما كان لهذه الثورات داعمون عند قيامها يجب أن يبقى لها رعاة وحماة يحفظونها من أي تحريف أو انزلاق، يجب أن تبقى الجذوة متقدة ... لا شك أن الشعوب العربية غيَّرت من جلد السلبية والخوف والخضوع، بجلد آخر يتحدى رشاشات المياه، ويتصدى لطلقات الرصاص والقنابل، فهل ستصمد تلك الشعوب أمام شلالات الدماء التي أعلن عنها القذافي وعبد الله صالح وغيرهما؟ الذي نراه ونشاهده هو مزيد من مظاهر الصمود والتحدي، وهو مما يدل أن الإنسان حين يستطيع تجاوز خط المواجهة الأول ويستعيد المبادرة لا تستطيع كل أصناف الإبادة أن تؤثر فيه، وهذا المعنى نجده في مثل موقف ما يعرف بسحرة فرعون الذين أبدعوا في الجواب على مختلف التهديدات التي توعدهم بها فرعون، كما في سورة الشعراء: {قَالَ آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ قَالُوا لَا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ}.إن قولهم لا ضير غاية في الإبداع والإيجاز والتحدي.. ما هو المخرج الشرعي من للازمات المتتالية التي تمر بها دولنا العربية؟ جميل أن نسأل عن مخرج شرعي، وهذا أحد أدوار العلماء كما دل عليها كتاب الله في مثل قوله تعالى: {وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً} النساء : 83 والآية تحدد وظيفتين: الأولى الرد إلى العلماء، وهي مسؤولية الشعوب. والثانية: هي إحاطة المستنبطين بالنازلة وهم العلماء. وبتقديري فإن المخرج الشرعي لا يمكن أن يكون إلا منسجمًا مع مطالب الشعوب في الحرية والكرامة والعزة المنضبطة بضوابط الشرع؛ لأنها ذات المقاصد التي جعلت المستضعفين في التاريخ يلوذون بالمصلحين. لا يخفى عنكم أن الإسلاميين في عدد من دول العالم يُستهلكون أحياناً في إثارة نزعات وخلافات جانبية، فما المخرج من ذلك؟ وما الخطوات العملية التي ترونها لتأليف القلوب ورأب الصدع؟ هذه إحدى المفارقات العجيبة بحيث يفوّت بعض، وأقول بعض الإسلاميين على أنفسهم فرصة الانخراط الفعلي في واجب الوقت وفي المقصد الأساسي الذي من أجله وُجدوا، ويتيهون في تدبير خلافات جانبية لا قيمة لها وليست ذات بال. والآيات في الموضوع كثيرة جدًّا، ومنها قوله تعالى: {وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} الأنفال : ,46 فالآية تجمع بين التنازع والفشل وذهاب الريح، وقد جعلت الأمرين الأخيرين نتيجة مؤكدة للأمر الأول أي التنازع . والتوجيه الأخير في الآية -أعني الأمر بالصبر- وثيق الصلة بما تقدم وفيه إرشاد لأهم مخرج لدفع أسباب التنازع وتأليف القلوب ورأب الصدع... طالبتم بترشيد الفتوى، فما السبيل إلى ذلك؟ ترشيد الفتوى لا يمكن إلا أن يكون قوة للفتوى، وإذا قبلنا الحديث عن ترشيد العمل الإسلامي فترشيد الفتوى فرع من أصل. والمتتبع لشؤون الفتوى يدرك بلا شك الحاجة الماسة للترشيد . ومن المطالب الملحة معالجة مظاهر التسيب في الفتوى وخاصة في القضايا العامة التي قد لا تحسمها الفتوى الفردية مهما كانت قوة صاحبها ، إن تفعيل آلية الاجتهاد الجماعي يعد أحد المطالب الملحة والعاجلة... يرى بعض الدعاة أن للتربية أثرًا كبيرًا في بناء الدعوة، ويزهد آخرون في ذلك، فما رؤية فضيلتكم؟؟ لا أتصور وجود داعية يقلل من شأن التربية، وكيف يكون ذلك والمدار عليها؟! إن التلازم بين الدعوة والتربية يعتبر أحد المسلمات التي لا ينبغي أن تكون محل نقاش. والتربية في البناء الدعوي تأتي وسطًا بين الدعوة والتكوين والتأهيل كما ترشد إلى ذلك الآية الكريمة: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ} الجمعة : 2 والتربية هي التي عبّرت عنها الآية بالتزكية.ووصلاً لآخر الكلام بأوله فإن الحديث عن التربية وثيق الصلة بالحراك الشعبي الذي تعرفه البلدان العربية. والحركات الإسلامية بأمس الحاجة لاستخراج الدروس التربوية من كل الأحداث الجارية، وكذا تطوير برامجها التربوية بإدخال أهم الخلاصات، والتي قد يكون من بينها موقع الشباب في التغيير، وكذا استثمار وسائل الاتصال المعاصرة في التأطير...