برؤية أكاديمية رصينة تحدث فريد لمريني، المتخصص في تاريخ الأفكار والفلسفة السياسية، عن الربيع الديمقراطي العربي وعن ما يعتمل في التربة المغربية من تموج للأفكار السياسية الدستورية، وكذا تحولات العمق المجتمعي. ويعتبر لمريني، الأستاذ بكلية الآداب بوجدة، أن المغرب كمجتمع تقليدي، يعيش منذ مدة طويلة، لحظة انتقال تاريخي بالغ التعقيد قصد استحقاق الانتماء إلى العصر الحديث. ومقارنة منه للحالة المغربية مع تجارب الجوار العربي يقول الباحث لمريني: أفضل الحديث عن حالة مغربية متميزة، لا عن استثناء. دواعي هذا التوصيف وفق المتحدث، هو أنه حين نتحدث عن حالة متميزة مغربيا، فان ذلك ينطلق من اعتبار المغرب دولة فيها دستور ومؤسسات دستورية وفيه تعددية سياسية يفترض أنها تشتغل حسب القواعد الديمقراطية المتعارف عليها عالميا. غير أن الأمر، وفق ذات التحليل السوسيوثقافي، ليس كذلك على الإطلاق بحيث لا يملك الجهاز التنفيذي سلطات حقيقية في عدد غير قليل من الحقول والقطاعات.كما تعرف الانتخابات والبرلمان في المغرب مشاكل واختلالات كثيرة تعيق إلى حد كبير تطور الحياة السياسية وبالتالي تطور الدولة. والمؤسسة التشريعية في المغرب لا تصنع القرار السياسي ولا تمتلك آليات مراقبته على الإطلاق ولا تشارك فيه. هذا الأمر يستدعي بشكل عاجل، حسب لمريني، تثويرحقل الحريات المدنية والفردية والاعتراف بالحقوق الميكرو-هوياتية لفئات عريضة من المجتمع المغربي، وعدم إذابة هذه الحقوق في قوالب تشريعية محتفلة حصريا بشعار الإجماع. والمطلوب كذلك هو فصل دقيق وشفاف للسلطة.ذلك أن دستور 1996 يشرعن احتكار السلطة، وغير حاسم على الإطلاق في مسألة التوزيع العادل لها. وهذا كله أعاق عمل الدولة، ورسم لنا في الأفق مشهدا سياسيا رتيبا وقاتلا. أما عن تشابك السلطة والتجارة في المغرب فيصف لمريني الحالة قائلا: في حالة المغرب هناك شبكة معقدة من العلاقات بين احتكار الحقل السياسي واحتكار الحقل الاقتصادي، ومما لا شك فيه أن هذا يؤثر بشكل سلبي على الدولة، لأن الثقافة السياسية الحديثة وثوابت الدولة العصرية تمنع هذا الاحتكار المزدوج، لما يترتب عنه من أمراض اقتصادية واجتماعية كثيرة كالبيروقراطية والفساد والرشوة وغياب التوزيع العادل للثروة. مفهوم التسلط في مختلف الحقول وآليات اشتغالها في المجال العربي والمغربي، وأساليب إدامة الاستبداد من قبل الأنظمة السياسية، وتحولات العمق المجتمعي، ومداخيل تفكيك التسلط، كلها قضايا معرفية سجالية تجدونها في ثنايا هذا الحوار، وإليكم نصه: من بين المصطلحات المتداولة في الرقعة العربية خاصة مع اندلاع الثورات في عدد من دول العرب مصطلح التسلطية. هل من قراءة ومقاربة لهذا المفهوم؟ يحيلنا مفهوم التسلط على مستوى المضمون السياسي إلى مفهوم كان شائعا لدى مؤسسي ومنظري الفلسفة الليبرالية الحديثة. إنه مفهوم: دولة '' الاستبداد الشرقي''. ودون الدخول في تفاصيل البناء النظري، سأقول فقط إنهم يقصدون به شكلا مميزا من الدولة القديمة قائما على الاحتكار المطلق للسلطة بمفهومها الواسع. وقد سبق أن حلل ماكس فيبر في بداية القرن 20 أسس هذه الدولة ومصادر مرجعيتها العقائدية والإيديولوجية. لكي يتحول التسلط إلى أمر واقع، ولكي يصبح لحظة تاريخية عادية ومقبولة من طرف مجتمع ما أو شعب ما، فهو دائما مضطر للاشتغال في الحقل الإيديولوجي. وفي هذا الحقل بالذات، تتم شرعنته وتحويله إلى مطلب اجتماعي أو جماهيري إجماعي يعلو على كل المحددات الفئوية والسياسية والطبقية والسوسيو ثقافية للمجتمع. وعن طريق اجتهادات الآلة الإيديولوجية يصبح التسلط ذاته مطلبا شعبيا تشميليا، مما يؤدي إلى تجاهل كل المطالب الأخرى السياسية والاقتصادية والثقافية . فالإجماع هنا يصبح شأنا مقدسا بحيث يتحول التسلط من خلاله إلى عامل وحيد وحصري للوحدة الوطنية والأمن القومي والاستقرار السياسي للأمة أو للشعب. في هذا السياق الدقيق بالذات، يشتغل التسلط ويمارس نفوذه، فيتمكن بالتالي من أن يتحول إلى إيديولوجية تعلو على الزمن وتعلو على التاريخ، ويغدو النظام السياسي التسلطي متمتعا بشرعية فوق العادة، ومشروعية جماهيرية لا حد لها، إذ يتم شحذها بكل الشعارات الإيديولوجية الجوفاء والفاقدة لكل روابط موضوعية بالتاريخ والواقع. ولنا أن نتخيل، ونحن في قلب ربيع الثورات العربية، كيف أن مجتمعات وشعوبا عربية ظلت صامتة وفاقدة لإرادة التغيير كل هذه العقود الطويلة من زمن الاستبداد العربي؟ وإذا نحن عالجنا على المستوى السوسيولوجي، مطالب التغيير الفائرة في هذه اللحظة على الرقعة الاجتماعية العربية، لاشك سنعثر أو أننا سنتلمس في ضوء هذه الفرضية المشار إليها،كل الفرامل القوية التي كانت مانعة للاحتجاج والتغيير. إن المعاينة السوسيولوجية لظاهرة التغيير معاينة بالغة التعقيد، لأن الأمر يقتضي منا في هذه الحالة فرز العوامل المختلفة من حيث نسبة مساهمتها في هذه الصيرورة المركبة. ومن الأكيد أن هذه الثورات أتت فجائية وعلى حين غرة، لأن الإرادة الجماهيرية التي يفترض أنها عامل استراتيجي لتحقق التغيير، غير قابلة للاستشراف والتوقع بشكل دقيق وقابل للحساب. كيف تشتغل الدول العربية لفرض أمر التسلط باعتباره أمرا واقعا بل ضرورة للاستقرار؟ في حالة الدول العربية، نلاحظ أن التسلط، أو لنستخدم مفهوما أكثر قوة على المستوى الإجرائي، وهو الاستبداد، يشتغل عبر آليات مختلفة ومخترقة لحقول اجتماعية وسياسية وثقافية أو اقتصادية، غير أنها قابلة للتصنيف والرصد. إن المجتمعات العربية وكما هو معروف من الناحية الأنتروبولوجية، هي مجتمعات تقليدية. وبهذه الصفة بالذات، فان آليات الاستبداد مضطرة للولوج إلى نظام القيم والى الأنسجة السوسيو-ثقافية الأكثر عمقا وتجذرا في الوعي السياسي السائد لمجتمع ما. ففكرة الزعيم أو القائد في مجتمع عشائري وقبلي، على سبيل المثال لا الحصر، توجد لها ملامح ومضامين تخيلية تشرعنها من قلب الثقافة السائدة في هذا المجتمع. فالزعامة والقيادة في هذا السياق المميز هما أصل الوحدة الوطنية (القومية)، ومما لاشك فيه أن هذه الصفات الكاريزمية تكتسي على التوصفة القداسة وتصبح مرتبطة بشخص معين دون غيره، باعتبار هذا الأخير رمزا حصريا لها، بحيث يستحيل أن ينافسه أوينازعه أحدهم كيفما كان. وسأحيلك فقط على الحالة الليبية، حيث ظل من يعتبر نفسه الثائر الأول في البلد قائدا لشعب أربعة عقود كاملة. ولك أن تتصور أيضا كيف أن الأنظمة العربية التي اجتاحها ربيع الثورة، تذرعت كلها في مواجهتها للاحتجاجات والمظاهرات المطالبة بالتغيير، بفزاعة المؤامرة الخارجية التي تريد تقويض الوحدة الوطنية التي لا يصونها حصريا في تقدير هذه الايدولوجيا، إلا النظام القائم. وقد كالت هذه الأنظمة كل الاتهامات والشتائم ونعوت الخيانة والتخابر مع الخارج للشباب الثائر ولكل من تضامن مع مطالبه المشروعة. ولك أن تلاحظ من جهة أخرى كيف أن زعماء الأنظمة العربية التي انهارت لحد الآن، وحتى التي توجد قيد السقوط، حاولوا كلهم أن يقنعوا الجماهير الغاضبة على غياب الحريات والديمقراطية طيلة هذه السنين الضائعة من عمرها، بخدماتهم الجليلة وتضحياتهم الجسام في سبيل الشعب والمصالح العليا للوطن، وكأن ممارسة السلطة واحتكارها هذه العقود الطويلة كلها تم باسم التضحية والجهاد وتلبية لنداء أمة كانت في أمس الحاجة إلى خدماتهم التي لا يمكن أن يأتي بمثلها غيرهم. ولنتذكر فقط تلك العبارة المثيرة التي قالها الزعيم اليمني علي عبد الله صالح في مواجهته لساحة التغيير:'' إن السلطة مغرم لا مغنم ''، ولنتذكر في نفس السياق من المشاعر السياسية الجياشة لبعض القادة العرب وفي هذا الظرف التاريخي الاستثنائي من حياة الشعوب العربية، تلك الكلمات المرتجفة والغير الواثقة من نفسها التي تفوه بها كل من الرئيس التونسي المخلوع، وزميله الرئيس المصري في تلك اللحظات العصيبة قبل تنحيهما بالإكراه، وكيف حاول الاثنان إقناع شعوبهما وإقناع العالم بأنهما لم يسعيا أبدا إلى سلطة أو مال أو جاه، بل أن السلطة هي التي كانت في حاجة إلى خدماتهم النبيلة وتضحياتهم الجسام. ولم تصدق هذه الأنظمة إلا على مضض، كيف أن موقعا للدردشة والتعارف على شبكة الانترنيت، اتفقت من خلاله جموع من الشباب العربي على الخروج إلى الشارع في أوقات محددة، كان سببا حاسما في سقوطها. بل إن هذه الأنظمة في قرارة نفسها استهجنت ذلك في البداية وتعاملت مع مطالب الشارع العربي باحتقار واستهزاء. ولنا أن نتذكر في هذا السياق كيف رد جمال مبارك ابن الرئيس المصري المخلوع على سؤال صحفي حول إمكانية الحوار مع الشباب المصري الثائر في ميدان التحرير، حين رد عليه باستعلاء واضح وضحكة مفعمة بتحقير هذه الحركية الاجتماعية في قلب الشارع المصري. هل من قواسم مشتركة آليات اشتغال النظام التسلطي في الدول العربية؟ إذا كان صحيحا أن الاستبداد أو التسلط على مستوى التحليل النظري وفي نطاق المعاينة الابستيمولوجية للمفهوم، يمتلك صفات وخصائص واحدة وقابلة للتصنيف والرصد، فان الأمر في المستوى الإجرائي غير ذلك. ولعل هذه الخصائص وهذه الصفات المشار إليها تكتسي ألوانا أخرى وأحجاما مختلفة في سياق المنهجية التي يتم بها تجسيدها في الواقع العملي. وإذا كانت ظاهرة تشخصن السلطة في زعيم أو قائد أو سلطان، ظاهرة سياسية من المحيط إلى الخليج، فان تشغيل هذه الايدولوجيا مختلف من هنا إلى هناك. فحضور الكاريزما من هذا الحقل السياسي إلى ذاك، ليس متماثلا على الإطلاق، وهذا يعود بالضبط إلى طبيعة الشرعية التي تتم عبر قنواتها السلطة أو التسلط. إن مرجعيات الشرعية في البلاد العربية كلها مرجعيات تقليدية، وهي لا تلجأ إلى المرجعية الحديثة التي تنصص عليها الفلسفة السياسية الحديثة إلا من أجل الدعم والتغطية وإعطاء الانطباع للعالم بانتمائها إلى الحداثة والقيم المعاصرة. هناك مرجعية مشتركة في كثير من الحالات، هي ما يمكن أن نسميه بالمرجعية النضالية للشرعية وقد تم باستمرار تسويقها في البلدان العربية . وأصل هذه المرجعية هو ذلك السياق التاريخي الذي أفرز فيما مضى حركات وطنية قاومت الاستعمار واحتكرت فيما بعد حق احتكار السلطة بهذه الصفة عينها. غير أن هناك أنماط أخرى من الشرعية تغوص في الثقافة التقليدية للأمم العربية. واعتمدت كثير من الأنظمة على إيديولوجيات دينية أحيانا أو تشميلية كالشيوعية والاشتراكية فيما مضى والقومية العربية. وقد تولد عن ذلك أحزاب ستالينية توتاليتارية قهرت شعوبها إلى حد كبير، بل إن ما يسمى بصفة مغلوطة بالصراع العربي مع إسرائيل(حالة مصر وسوريا على سبيل المثال) تحول بدوره إلى عامل قوي للاستئثار بالسلطة والعيش تحت رحمة قانون الطوارئ، بدعوى طابع الاستثناء الذي يقتضي وحدة الأمة والمصلحة العليا للوطن، وصرع الحريات السياسية والمدنية والاجتماعية، كلها عقودا من الزمن. ويقدم لنا النموذج المصري صورة واضحة على ذلك.كما يقدم لنا النموذج السوري بدوره كيف تم تأبيد سلطة حزب البعث العربي الاشتراكي على حساب التعددية السياسية والحقوق المدنية، وقد كان توريث الحكم في هذا البلد الذي يعتبر نفسه نظاما جمهوريا دليلا فضيعا على ما أشرنا إليه فيما سبق. دون أن ننسى سياسة مقاومة الإرهاب في السنين الأخيرة وقد تحول إلى إيديولوجية دولة، تم بناء عليه العيش تحت رحمة حالة الاستثناء، والقضاء على المقومات الدنيا للديمقراطية ولحقوق الإنسان( حالة الجزائر مثلا). إذا اقتصرنا على المغرب، هل يمكن الحديث عن الاستثناء في فرض أمر التسلط من حيث طبيعته أو آليات اشتغاله؟ كلمة الاستثناء هذه تم تداولها على نطاق واسع منذ بداية ربيع الثورات العربية. فمصر تقول أنها ليست تونس، وليبيا واليمن ادعتا نفس الشيء ووزير الخارجية المغربي يتدخل في التلفزة على عجل في قلب هذا السجال العقيم، رغم أن الفاعلين السياسيين لدينا لا يتكلمون على الإطلاق، ليقول أن هناك استثناء مغربيا يبلغ مرتبة اليقين وهكذا. أفضل الحديث عن حالة مغربية متميزة، لا عن استثناء. ويعيش الحقل السياسي المغربي في وضع هيمنة كاملة للمؤسسة الملكية على القرار السياسي في مقابل فاعلين سياسيين ضعفاء وليست لهم أية شخصية سياسية مستقلة. وحين نتحدث عن حالة متميزة فان ذلك ينطلق من اعتبار المغرب دولة فيها دستور ومؤسسات دستورية وفيه تعددية سياسية يفترض أنها تشتغل حسب القواعد الديمقراطية المتعارف عليها عالميا. غير أن الأمر ليس كذلك على الإطلاق بحيث لا يملك الجهاز التنفيذي سلطات حقيقية في عدد غير قليل من الحقول والقطاعات. كما تعرف الانتخابات والبرلمان في المغرب مشاكل واختلالات كثيرة تعيق إلى حد كبير تطور الحياة السياسية وبالتالي تطور الدولة. والمؤسسة التشريعية في المغرب لا تصنع القرار السياسي ولا تمتلك آليات مراقبته على الإطلاق ولا تشارك فيه. ولا يكاد البرلمان يأخذ علما بقرارات أو مشاريع ضخمة للدولة إلا من خلال نشرات التلفزة الرسمية، أو من خلال كواليس السياسة وعلاقات شخصية لهذا أو ذاك، من دوائر مقربة من القصر. أضف إلى ذلك أن التشريعات الكبرى التي يفترض أنها ترهن مصير البلد في الحقل الاقتصادي أو الاجتماعي كقانون المالية مثلا، يتم في غياب أغلب النواب. إن ضعف وهشاشة المؤسسة الحزبية في المغرب يؤدي حتما إلى ضعف الدولة. ومن المستحيل في ظل هذا الوضع أن نطمح بدولة عصرية وحداثية بمعنى الكلمة. وقد عايننا أن الخطاب الملكي بتاريخ 09 مارس الماضي، وهو الخطاب الذي جاء جوابا مباشرا أو غير مباشر على مطالب حركة 20 فبراير، بالإعلان عن تعديلات دستورية واسعة،كان أكثر سعيا للتغيير من تلك المذكرات الخجولة التي كانت تعلن عنها بعض الأحزاب بين الفينة والأخرى. ويمكن القول أن المغرب أضاع سنينا كثيرة نظرا لعدم قيام الأحزاب المعنية بمهامها الدستورية ولفقدانها سلطة المبادرة السياسية. كما لا يبدو على الإطلاق أن دخول حزب الأصالة والمعاصرة إلى الحلبة باستعلاء سياسي زائد عن حده، قد نجح في تقوية مؤسسة الحزب في المغرب. وعلى النقيض من ذلك تماما، فقد أدى الأمر إلى تمييع الحياة السياسية ، وتحول الحقل السياسي برمته، وهو يشكو تاريخيا من الضعف، إلى فضاء عريض من السجال حول حسابات تافهة، تحولت إلى ملهاة لا تكاد تعني إلا أبطالها الوهميين، وتبعث باستمرار على التقزز والنفور، في وقت عصيب تسعى فيه الدولة إلى محاربة ظاهرة العزوف عن الانتخابات والشأن السياسي بصفة عامة. وقد كانت بعض اللافتات المرفوعة من طرف شباب حركة 20 فبراير بليغة في نقل هذا النفور وهذا الرفض الجماهيري القاطع، لهذا النوع من السياسة السياسوية المشينة والمتخلفة. كيف يمكن تفكيك آليات اشتغال النظام التسلطي في المغرب؟ وهل المعطى التاريخي يمكن أن يفسر عدد من المظاهر التي تساعد على استمرار آليات التسلط في الاشتغال؟ المعطى التاريخي بالذات، هو ما يفسر لنا بوضوح كامل أن مسألة الشرعية والمشروعية في المغرب، على نقيض كثير من البلدان العربية الأخرى، محسومة بمنطق التاريخ. فالمرجعية الدينية والسياسية للدولة في المغرب معطى دائم الحضور حين يكون الموضوع هو التغيير أو الإصلاح. وتمثل الدولة في المغرب، منذ النصف الثاني من القرن 19 نموذجا خاصا جدا للاندماج بين التقليد والحداثة. ويمكننا أن نقول بكل ثقة الآن، أن كل مطالب حركة 20 فبراير تصب في هذا الاتجاه، بمعنى أنها دعوة قوية وجريئة إلى مراجعة هذا الاندماج ذاته وفق رؤية عصرية، وبناء على معايير ومحددات أكثر حداثية. إنها دعوة إلى مراجعة قيم ومبادئ السلطة بمفهومها الواسع، اجتماعية وثقافية وسياسية واقتصادية، على أسس ديمقراطية جديدة. لقد انطلق عهد الملك محمد السادس بشعار قوي، سمي بالمفهوم الجديد للسلطة، وقد تبين عمليا منذ الإعلان عنه أن هناك جيوب مقاومة كثيرة له، وأن هناك مشاكل هيكلية تعيق عمله، كما أنه ما زالت توجد عقليات وسلوكيات مخزنية مشينة تعترض طريقه. هكذا ظلت ممارسة السلطة في المغرب تغرف من المعين الدستوري لدستور 1996 وهو يشرعن احتكار السلطة، وغير حاسم على الإطلاق في مسألة التوزيع العادل لها. وهذا كله أعاق عمل الدولة، ورسم لنا في الأفق مشهدا سياسيا رتيبا وقاتلا، شاركت في رسم معالمه تلك الأحزاب التي قادت موجة التناوب على السلطة في النصف الثاني من التسعينيات، وما زالت فرحة ولا مبالية في قلبها إلى حد الآن، بدون إستراتيجية سياسية حقيقية وبدون شخصية إيديولوجية مستقلة وقوية، وبالتالي فقد تحول شعار الانتقال الديمقراطي إلى كابوس يجثم على صدور المغاربة ويخنق أنفاسهم. ومما لاشك فيه أن هذا كله كان سببا كافيا ومعقولا لخروج مطالب حركة 20 فبراير إلى الشارع. وقد أبانت المواقف الحزبية الخجولة والملتوية أحيانا، والانتهازية أحيانا أخرى، من هذه الحركة عمق الهوة التي تفصل الأحزاب المغربية عن المجتمع وهو في لحظة غليان تاريخي قوي. البعض يتحدث عن منظومة التسلط في بعديها الاقتصادي والاجتماعي، فهل هناك أبعاد أخرى تشتغل عليها المنظومة لتكريس مفهوم الهيمنة التسلطية؟ لمعاينة صفات وألوان السلطة والتسلط بصفة عامة، ينبغي البحث في طبيعة العلاقة التي تقوم بين المجتمع والدولة. وفي حالة المغرب فان هناك شبكة معقدة من العلاقات بين احتكار الحقل السياسي واحتكار الحقل الاقتصادي، ومما لا شك فيه أن هذا يؤثر بشكل سلبي على الدولة، لأن الثقافة السياسية الحديثة وثوابت الدولة العصرية تمنع هذا الاحتكار المزدوج، لما يترتب عنه من أمراض اقتصادية واجتماعية كثيرة كالبيروقراطية والفساد والرشوة وغياب التوزيع العادل للثروة القومية وغير ذلك. وهناك بطبيعة الحال آليات أخرى لممارسة الهيمنة تتم داخل الحقل الثقافي والديني واللساني. ونحن نعرف أن المغرب يعيش ما يمكن أن أسميه معضلة لغوية. ولعل مطلب دسترة اللغة الأمازيغية يعبر عن جزء من هذه المعضلة. ما هي في نظركم مداخل تفكيك نظام التسلط في المغرب؟ يتعلق الأمر بكلمة واحدة بإقرار دستور ديمقراطي يستضيء بثوابت الثقافة السياسية الحديثة، ويلبي المطالب المطروحة التي سبق تأجيلها أو التحايل عليها مرارا. دون أن ننسى أنه من الضروري الإنصات إلى التحولات السوسيولوجية والثقافية التي يغلي بها الحقل الاجتماعي منذ سنين مضت دون أن يلتفت إليها أحد. والأمر يستدعي بشكل عاجل تثوير حقل الحريات المدنية والفردية والاعتراف بالحقوق الميكرو-هوياتية لفئات عريضة من المجتمع المغربي، وعدم إذابة هذه الحقوق في قوالب تشريعية محتفلة حصريا بشعار الإجماع. والمطلوب كذلك هو فصل دقيق وشفاف للسلطة، وبالتالي خضوع هذه السلطات حصريا للقانون، علاوة على ضرورة تقوية آليات تتبع ومراقبة تطبيق القوانين، وآليات مساءلة ومحاسبة المسئولين والمكلفين بذلك. وإذ أتذكر الآن أن المبدأ المركزي الذي استضاءت به مقررات أو توصيات هيئة الإنصاف والمصالحة هو مبدأ : من أجل عدم تكرار ما جرى في الحقل الحقوقي طبعا. أعتقد، ونحن في قلب التعديلات الدستورية المرتقبة، أن هذا المبدأ يجب أن يشمل كل الحقول التي وقع فيها حيف ما وإخلال بالقانون في السنين الطويلة الماضية. ومما لا شك فيه أن تطهير حقل القضاء وترسيخه كمؤسسة دستورية قوية ومستقلة، أمر ضروري ومصيري بالنسبة للمغرب. البعض يعتبر مدخل الإصلاحات السياسية والدستورية المدخل الأبرز لتفكيك منظومة التسلط، هل توافقون هاته الرؤية؟ الجهات الرسمية في الدولة إضافة إلى الأحزاب السياسية التي تحاول التغطية عن عجزها الإيديولوجي والتنظيمي المزمن، هي من يروج ويحتفل بهذا الشعار الماكر. وإذا كان أكيدا أن المطلب الدستوري هو الخيط الناظم للتغيير، فان انجاز هذا الأخير يتوقف على مضمونه أولا وكيفية تطبيقه وتنفيذه على أرض الواقع ثانيا. ونحن في هذه اللحظة نترقب ذلك. هل للمعطى الثقافي وللعقليات و كذا ذهنيات المجتمع تأثير في القدرة على تجاوز ميكانيزمات اشتغال منظومات التسلط؟ هذا شيء أكيد على مستوى التحليل السوسيو-سياسي للسلطة السياسية. وفي مجتمع له هوية سوسيولوجية تقليدية كالمجتمع المغربي، فان المرجعية الثقافية للمجتمع تفسر إلى حد كبير نمط السلطة السائدة. وهناك بحوث ودراسات أكاديمية مغربية وأجنبية لا حصر لها، تعالج هذا الموضوع وتثبت ذلك بوضوح. هل يمكن الحديث على أن المغرب محتاج من الناحية التاريخية من أجل استعادة مقولات الإصلاح لكي يقطع مع حالة الانتظارية التي دخلها منذ أزيد من نصف قرن من الزمن؟ مقولة الإصلاح في المغرب مقولة إيديولوجية قوية ولا تفتأ تمارس نفوذا وغواية لا شعورية على قطاعات واسعة من النخب المغربية، خاصة تلك القريبة من الدوائر الرسمية للدولة. وهي مثقلة باكراهات الماضي القريب والبعيد. لذلك، سأجيبك باقتضاب نظري دقيق جدا. وسأقول لك أن المغرب كمجتمع تقليدي، يعيش منذ مدة طويلة، لحظة انتقال تاريخي بالغ التعقيد قصد استحقاق الانتماء إلى العصر الحديث. إن مسارات هذا التحديث مثقلة بأسئلة قديمة تجثم على حاضره فتجعله غير ذي طعم سياسي، وهذا التحديث بالذات، بطيء الحركة و باهت الألوان إذا نحن استعرنا عبارة قوية لعبد الله العروي. وما تشير إليه في سؤالك، مرتبط بكيفية تشغيلنا لدواسة السرعة من جهة، وللفرامل من جهة أخرى.