لقد وضع الإسلام قواعد أخلاقية مهمة للحكم على الناس والأشخاص، ولتحرّي قول العدل فيهم، بدءاً من النفس، يقول الله جل وعلا: ''وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ''، ويقول سبحانه: ''أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ''، ويقول تعالى:''وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى''، ثم المختلف والبعيد حتى للمجافي المبغض، يقول تعالى: ''وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ''، بل أوجب الله العدل مع أولئك المشركين المخالفين الذين أخرجوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه من ديارهم، وصدّوهم عن المسجد الحرام، يقول تعالى: ''وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَن تَعْتَدُواْ وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ''، وحتى الذين يقاتلون المسلمين أمر الله برد ظلمهم، وقتالهم، ونهى عن الإسراف والاعتداء فيه؛ لأن ذلك نقيض العدل: ''وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ''البقرة:190]. فقول العدل أساس محكم من قواعد الحكم على الناس في الإسلام، أوجبه الله مطلقاً في كل الظروف والأحوال والأشخاص للمتفق والمختلف، والأنا والآخر، والمسلم والكافر، في كليّة من الكليات، أو جزئية من الفرعيات، يقول ابن تيمية: ''إن العدل واجب في كل أحد، على كل أحد، في كل ظرف، وكل مكان وحال، والظلم محرم من كل أحد، على كل أحد، في كل ظرف، وكل مكان وحال''. ترك التعميم ومن معالم العدل في الحكم على الناس تجنب الإجمال والتعميم، فأحكام الجملة تخفي في طياتها الكثير من الاختلافات والفروق الداخليّة التي قد لا يعتبرها القائل، فالمسؤولية الفردية في الإسلام تجعل المسلم مسئولاً بشكل مباشر عن قوله ورأيه وحكمه واعتقاده هو، وليس رأي جماعته أو قبيلته أو حزبه أمام الناس وأمام الله، في الدنيا والآخرة، يقول الله جل وعلا: ''وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا''(الإسراء:13)، ويقول الله سبحانه: ''كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ''(الطور:21). وأمر الله معاملة الناس بالحسنى؛ لنكون أقرب للعدل معهم، وفيهم، وشرع الموعظة الحسنة والكلمة الطيبة، يقول تعالى: ''وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوًّا مُّبِينًا''(الإسراء:53)، وجعل الدعوة بالحسنى، يقول تعالى: ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ''(النحل:215)، وأمر بالقول الحسن العدل في الناس كلهم جميعاً، يقول الله تعالى: ''وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً''(البقرة:83)، وهذا المعنى يزرع في عقل المسلم وعلاقته مع الآخرين روح العدل والاعتدال والإنصاف، وجعل الله علّة إرسال الرسول محمد صلى الله عليه وسلم: الرحمة للعالمين كلهم، يقول سبحانه: ''وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ''(الأنبياء:107)، فالرحمة خلق عظيم لا يتحلى به إلا الرسل وأتباعهم الذين ورثوا دعوتهم وأخلاقهم ورحمتهم، ولذلك كان من صفات المسلمين أنهم أرحم الخلق بالخلق، وكلما اقترب المسلم من نور الله، وهديه وصراطه المستقيم اتصف بجميل الصفات، ''الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ * مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ * إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ * اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ''. الظن سبيل الظلم وليس من الحق في شيء الاعتداء على الناس بالقول، ورجمهم بالظنون، والظن الآثم سبيل الظالمين في القول، يقو تعالى: '' إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا''(النجم:28)، ويقول الله: ''إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنفُسُ وَلَقَدْ جَاءهُم مِّن رَّبِّهِمُ الْهُدَى''(النجم:23)، ويقول الله عن المعاملة بالظن: ''يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ''(الحجرات:12)، وأكثر البغي باللسان مبعثه الظنون الواهية، والانطباعات العامة التي لا يملك الإنسان لها دليلاً، ولا يستطيع أن يقيم عليها حجة. يقول ابن تيمية رحمة الله: ينبغي أن يؤخذ المبتدع والمخالف بالرحمة والإحسان، لا بالتشفي والانتقام. أ.ه. والمخالف في الجزئيات أو الكليات ينبغي أن يتعامل معه بالحسنى للعمومات السابقة ولمحكمات الأخلاق الإسلامية، وثوابت الأوامر الربانية، فحتى العدوّ الأصل في معاملته الإحسان؛ لتسكين ثائرته، وتقريبه للحق، وتسهيل معرفته واقتناعه.. وهذا من أنبل الأخلاق، ومن أعلى سمات الشرف في الخصومة، فالمنافق هو الذي (إذا خاصم فجر)، كما أخبرنا نبينا محمد صلى الله عليه وسلم. يقول الله عن معاملة (العدوّ): ''وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ''. استغلال الأخطاء أما صناعة العداوة ''الاستعداء'' بالبغي باللسان، وتصعيد الاعتداء بالتزام السب، واستغلال الأخطاء وتضخيمها، بل والأسوأ استغلال آيات الدين وأحكامه، وكلام أئمة المسلمين وتراثهم؛ لتبرير الاعتداء القولي، فذلك ظلم رخيص مهما تذرع بأشكال الحق، وأظهر التجرد والنصيحة في الخلاف، ولقد حذرنا الله من انحرافات واختلافات أهل الكتاب، الذين اتخذوه هزؤاً بالاختلاف حوله، والبغي فيه والظلم للناس، وتشريع ذلك كله بهذا الكتاب، وهذه البينات، في غفلةٍ عن الأدواء الداخلية الضاربة الجذور، والأهواء الخانسة كما تخنس الشياطين، يقول الله تعالى عن أهل الكتاب: ''كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ لِمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللّهُ يَهْدِي مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ''(البقرة:213). وكلما ابتعد الناس عن خلق الرحمة اقتربوا من ضروب البغي والاعتداء بالقول، ونسوا قوانين الإسلام في التعامل مع الموافق والمخالف بالحسنى وبدأوا يميلون إلى المبادرة بالظلم والبداءة بالاعتداء القولي الذي نهى الله عز وجل عنه في محكم كتابه. ولقد كانت من الوصايا العظام التي جاءت بها الشريعة ومن المحكمات الثابتة التي قررها الإسلام تلك الآيات الثلاث والوصايا العشر في سورة الأنعام، ومنها قوله تعالى: ''وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللّهِ أَوْفُواْ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ''(الأنعام:152).