إن الثورة الشعبية التي أطلق شرارتها الشعب التونسي، وأكدها ورسخ منهجها الشعب المصري، بتلك القوة وذلك الإصرار والزخم الشعبي الكبير من جهة، وبتلك السلمية والمدنية والتحضر من جهة أخرى، قد فرضت على جميع الأطراف المعنية ومختلف الفاعلين الدخول في مراجعات حقيقية وتحولات ملحوظة في اختيار البدائل والوسائل وأساليب التعاطي. ونخص بالذكر هنا ثلاثة أطراف: الطرف الأول: وهو المنتظم الدولي أو الغرب، حيث لاحظنا تحولا واضحا بين مقاربتين اثنتين، الأولى تقليدية والأخرى جديدة آخذة في التشكل: المقاربة التقليدية كانت قائمة على توفير الغطاء والحماية للأنظمة الاستبدادية الفاسدة، ودعمها بكل أشكال الدعم المادي والمعنوي، لضمان التبعية التامة بشكلها الفج والمفضوح، على حساب كل المبادئ والشعارات المرفوعة في الغرب من ديمقراطية وحرية للشعوب في تقرير مصيرها وعدالة اجتماعية وحقوق الإنسان في الحرية والكرامة، وهذه المقاربة بدأت تعرف ارتباكا واضحا وانهيارا ملحوظا. المقاربة الجديدة التي بدأت في طور التشكل، تقوم على التسليم بضرورة وحتمية القبول بقيام أنظمة مبنية على تعددية سياسية حقيقية معبرة عن مكونات المجتمع، وقواعد ديمقراطية مقبولة يحترمها الجميع ويشارك فيها الجميع دون إقصاء أو تهميش، وذلك ليس حبا في الشعوب العربية ولا وفاء للمبادئ الديمقراطية، وإنما تفاديا لدفع هذه الشعوب إلى القطيعة وحفاظا على المصالح الحيوية والاستراتيجية للغرب في المنطقة، وقد بدا ذلك واضحا في تسليمها بسقوط فزاعة التخويف من الإسلاميين، وحقهم في المشاركة، ولعل هذه المقاربة تكون مستلهمة من تجربة التعايش مع الديمقراطيات الناشئة في أمريكا اللاتينية رغم أنها أوصلت قوى يسارية معارضة للسياسات الخارجية الأمريكية، إلا أنها وجدت مساحات للتعاون والتفاهم والتعايش وحماية المصالح المتبادلة. الطرف الثاني: أي الأنظمة والحكومات العربية، التي نعتقد أن الدرس الموجه لها كان واضحا وقويا وبليغا، بل نرى أنه كان نذيرا مدويا لكل أنظمة المنطقة من المحيط إلى الخليج، حيث أنه حتى من تلكأ في البدء في المراجعات والإصلاحات المطلوبة بعد الثورة التونسية، رأيناه بعد الثورة المصرية، وقد بدأ يتململ، ويتحرك هنا وهناك في محاولة لامتصاص واحتواء الغضب الشعبي واستباق أي احتمال غير مرغوب فيه، إلا أن هذه المواقف انقسمت إلى نوعين: هناك أنظمة اتجهت رأسا ومباشرة لتبدأ بالإصلاحات السياسية، وتعهدت بما هو دستوري، ليأتي ما هو اجتماعي كتحصيل حاصل، وقد رأينا هذا في كل من الأردن الذي بدأ بإقالة الحكومة والبدء في تشكيل أخرى، وتدشين حوار مكثف مع مختلف الفرقاء والفاعلين في المشهد الأردني بدءا بالإخوان المسلمين مرورا بالنقابات والأحزاب والنخب، فضلا عن بدء النقاش في تعديل قوانين الانتخابات وغيرها، كما رأينا مثل ذلك في اليمن الذي وضع نهاية لقضية التمديد أو التوريث، وبدء الحوار مع قوى المعارضة، وكذا ما لاحظناه في الجزائر من بدء إجراءات رفع حالة الطوارئ. في مقابل ذلك هناك أنظمة أخرى، لم تعط الأولية للإصلاحات السياسية والدستورية، واتجهت نحو القيام ببعض الإصلاحات الاجتماعية هنا وهناك، من قبيل رفع ميزانية بعض صناديق الدعم الاجتماعي، أو التغطية الصحية، أو دعم أسعار بعض المواد الغذائية، وبعض هذه الأنظمة وصل إلى حد الرفع من الأجور أو توزيع المعونات، وقد رأينا مثل ذلك في ليبيا وسوريا والمغرب والكويت... الطرف الثالث ونعني به الأحزاب والتنظيمات السياسية، التي وجدت نفسها موزعة بين خيارات متعددة يمكن تلخيصها في ثلاث تيارات مختلفة: التيار الأول هو تيار التنظيمات الراديكالية التي وصلت إلى قناعة بأنه لا حل للمعادلة السياسية القائمة إلا بالتغيير الجذري الشامل والكامل لما هو موجود، على اعتبار أنه لا أمل في الإصلاح أو الترميم لهذه الأنظمة القائمة، بالتالي اتخذ هذا التيار من المقاطعة للعملية الانتخابية وربما للعملية السياسية برمتها، نهجا وسبيلا لرفع الشرعية عن هذه الأنظمة. وهذا التيار توزع بعد الثورة بين توجهين: الأول يرى ضرورة المزيد من الراديكالية في هذه المرحلة، ورفع سقف المطالب، على اعتبار أنها الفرصة التي لا تعوض للتغيير الذي طال انتظاره. والثاني يرى بأن إمكانية الإصلاح التي كانت مستحيلة بالأمس قد أصبحت اليوم ممكنة، وهو الأمر الذي يستدعي مراجعة الخيارات الراديكالية وترتيب المطالب وفق قانون استثمار الفرص. التيار الثاني هو تيار المشاركة والمدافعة، وهذا التيار توصل بعد مراجعات كثيرة إلى قناعة تقضي بأن سياسة المقعد الفارغ لن توصل إلى شيء، وأنه لا سبيل لمحاصرة منظومة الفساد والاستبداد إلا بالمدافعة والتدافع معها من الداخل، وذلك من خلال المشاركة في العملية السياسية التي اتخذها نهجا وخيارا، وسبيلا للإصلاح، مع رفع التحدي أمام كل إجراءات التحجيم والتضييق والمحاربة. وهذا التيار بدوره بعد الثورة توزع بين: من يؤثر التريث وعدم التسرع في رفع سقف المطالب والتحذير من أي خطوات غير محسوبة، ويرفض ركوب موجة الأجواء الثورية. ومن يرى بأن مشوار الصبر والمصابرة على أذى المخالطة والمشاركة بكل ما شابها من محاولات التضييق والتحجيم قد آن الأوان لتتويجه بالرفع من الفعالية والنشاط والتحرك المكثف لتحقيق الإصلاحات الحقيقية والعميقة. ومن أصبح ينادي بالتخلي عن خيار المشاركة نهائيا، ويلح في طرح سؤال الجدوى من هذه المشاركة، ويتحمس لخيار التغيير الجذري ما دامت رياح التغيير قد هبت والفرصة قد لاحت. أما التيار الثالث فهو تيار الانتهازيين الذين لا يهمهم لا تغيير ولا إصلاح بقدر ما تهمهم المصالح والمغانم، وهم طبقة المنتفعين والمستفيدين، المستعدين لتغيير لونهم وجلدهم السياسي في أي لحظة، وذلك حسب ما تميل إليه موازين القوى السياسية على أرض الواقع. ويبقى في انتظار ما ستسفر عنه الأيام المستقبلية، عدد من الأسئلة معلقة، على الأنظمة والأحزاب والتنظيمات السياسية كل من موقعه: هل ستسبق الأنظمة العاصفة وتلتقط الإشارة للقيام بإصلاحات حقيقية وعميقة وملموسة؟ أم أنها ستركز فقط على التهدئة؟ وهل ستكون النخب السياسية والتنظيمات التي رفضت وقاومت التحكم، وأصرت على المشاركة رغم المضايقات، في مستوى الانخراط القوي في تسريع عجلة الإصلاح؟ وهل ستكون جاهزيتها وفعاليتها كقوة اقتراحية للإسهام الفعال في الإصلاح بنفس المستوى الذي عهدناه فيها في مقاومتها للإقصاء؟ أم ستجرفها الشعارات الراديكالية والمطالب الجذرية التي تصاحب رياح الثورة؟