ليس هناك من شك أن المسألة الفنية كانت ولا تزال في بعض صورها تمثل إحدى حلقات الضعف في مشروع الحركة الإسلامية. وقيادات الحركة الإسلامية اليوم، لاسيما في المغرب، لا يترددون في الاعتراف بذلك، ومحاولة تبرير الأسباب التي جعلت المسألة الفنية تأخذ حيزها الطبيعي ضمن الرؤية العامة للحركة الإسلامية. فمنهم، من يلقي باللائمة على الموقف الفقهي (محمد طلابي)، ويحسبه من إحدى العوامل التي أخرت إنتاج موقف إيجابي من الفن، ومنهم من يعلل ذلك، بحجم الأولويات الأخرى التي غطت على المسألة الفنية (المودني) ومنهم من يعتبر أن الواقع الفني الحالي هو ثمرة الانفصال عن الرؤية الجملية التي أسست لها العقيدة الإسلامية، وأن المدخل لإعادة الاعتبار للمدخل الجمالي يمر بالضرورة من مدخل غرس العقيدة الصحيحة بأبعادها الكلية بما في ذلك البعد الجمالي. وهي المهمة، التي استدعت، حسب أنصار هذا الرأي- تأخر أولوية المسألة الفنية لدى الحركة الإسلامية. ومهما اختلفت هذه التفسيرات أو تكاملت، فإن الموقف اليوم تغير لجهة إعادة الاعتبار للمسألة الفنية، وإنتاج رؤية تؤطر تصور حركة التوحيد والإصلاح للمسألة الفنية، توضح المنطلقات التأصيلية، والحاجة الواقعية والرسالية التي دفعت الحركة إلى اعتماد أولوية دعم العمل الفني، والأهداف التي تتوخاها الحركة من رؤيتها الفنية وأهم المجالات التي تقدر أن العمل الفني ينبغي أن ينصرف إليها، بالإضافة إلى تحديد آليات ووسائل العمل الفني في منظورها. وسنحاول في هذه القراءة أن نقارب هذه القضايا مقاربة تحليلية نقدية. مدخل التأصيل للرؤية الفنية لعل أول ملاحظة يمكن أن تسجل بخصوص المنزع التأصيلي لهذه الرؤية أنها عدلت تماما عن مدخل التأصيل الشرعي، واختارت أن تؤصل للموضوع من مدخل آخر'' مدخل النظر إلى الفن من زاوية العقيدة والحضارة، فعلمت هذه الرؤية على بيان أهمية الفنون في العقيدة والحضارة الإسلاميين، عوض بحث الموقف الشرعي من الفن وألوانه وقضاياه. ولعل مقصد هذا الاختيار يروم إحدى الأمرين: - تجاوز النقاش الفقهي حول الموضوع وعدم الارتهان لمادته الخلافية في هذه الرؤية حتى لا يدفع موقف الحركة النقاش الفقهي حول شرعية الفن والغناء إلى افتعال النقاش ضد المكونات الإسلامية الأخرى لاسيما منها السلفية - الاختيار المضمر لاختيار فقهي لرأي فقهي معاصر حول الفن حسم الموقف داخل الحركة الإسلامية لجهة التوسع في إباحة الألوان الفقهية بضوابطها وشروطها الرؤيوية والرسالية. ومهما يكن جدوى هذا الاختيار ومبرراته، فإن التأصيل الشرعي، والاختيار الفقهي لا يمكن أن يملأ فراغه التأكيد على أهمية الفنون في العقيدة والحضارة الإسلاميين. لقد اتجه المنزع التأصيلي لهذه الرؤية إلى تأكيد أهمية البعد الجمالي في تكوين الإنسان، من خلال الإشارة إلى كون الحاجات الذوقية والفنية والجمالية هي حاجات أصيلة في تكوينه، كما ركزت الرؤية على عناية القرآن بالمدخل الجمالي في صوغ الشخصية المسلمة، ودور الدليل الجمالي في بناء العقيدة الإسلامية ودور السنة النبوية في العناية بالتربية الجمالية، ثم عرجت على موقع الجمال في الحضارة الإسلامية، وركزت بشكل خاص على العمارة الإسلامية ''وما أبدعه الفنانون المسلمون فيها، وما أفرغوه على منتجاتها من إحساس مرهف وذوق رفيع، حيث كان البيت الإسلامي والجامع الإسلامي والشارع الإسلامي تحفا فنية تسر الناظرين''. وبشكل عام، لقد حرصت الرؤية أن تؤكد أهمية المدخل الجمالي، باعتباره الأرضية الفكرية والفلسفية التي تنبني عليها الرؤية الفنية للحركة، وحاولت أن تؤسس لهذا المدخل من خلال تلمس معالمه في العقيدة الإسلامية في مصدريها القرآن والسنة وفي التجربة الإسلامية المترجمة لهذا المدخل دون الانغماس في النقاش الشرعي حول حلية الغناء وبعض التعبيرات الفنية أو حرمتها. لكن يبقى السؤال متعلقا بأي مدى تحقق المقصد التأصيلي بهذا الاختيار؟ وهل استطاع فعلا أن يقنع بضرورة تجاوز المدخل التأصيلي الشرعي، أو على الأقل تبرير الضرورة التي تمنع الرؤية من أن توضح اختيارها الفقهي لاسيما وقد تراكمت عدة مواقف تتجه كلها في اتجاه تبني موقف وسطي متقدم يقطع مع الرؤى التقليدية التي تخاصم الفن. في ضرورة إنتاج الرؤية الفنية لم توضح الرؤية بصريح العبارة الدواعي التي دعتها لهذه المحاولة، لكن يبدو واضحا من خلال مبحثي التأصيل وتوصيف واقع الممارسة الفنية في المجتمعات الإسلامية المعاصرة أن من بين أهم الدواعي التي دفعت الحركة إلى إنتاج مثل هذه الرؤية هو الحاجة إلى ردم الفجوة بين الرؤية الجمالية كما ترسخت في التصور الإسلامي وبين واقع الممارسة الفنية التي تضمر فيه هذه الرؤية أو تكاد تنعدم. فحسب الرؤية فإن ''العلاقة بالفن قد تحولت لأسباب تاريخية ومعاصرة إلى علاقة توتر وتوجس، وهو التوجس الذي تجاوز فى الموقف من الفن أحيانا كثيرة دائرة الحيطة والحذر إلى دائرة التحريم والمنع'' والنتيجة التي آل إليها هذا التصور هو أن ''المجال الفني أصبح حكرا على مدارس واتجاهات استخدمته أداة هدم للأخلاق والقيم ، فتزايدت الشقة وتعمق الفصام النكد بين القيم الجمالية من جهة وبين قيم الحق والخير من جهة ثانية ، وتراجع الفن الرسالي، ليترك الساحة خالية للأطراف الأخرى تشيع فيها فنها المفتون كيفما شاءت'' فواضح من خلال هذا التشخيص، أن الداعي الأساسي لإنتاج هذه الورقة هو محاولة إدخال معامل جديد في الساحة الفنية، يعيد الاعتبار للبعد الجمالي للفن، لكن من خلال ربطه بالبعد الرسالي، وتحريره من الصور التي أخرجته عن طبيعته وقصديته. وفي سياق حصر العوامل التي أدت في منظور الرؤية إلى تراجع الرؤية الجمالية الإسلامية في واقع الممارسة الفنية وتبرير الموقف الفقهي المخاصم للفن، ركزت الرؤية على خمس محددات أساسية: 1 الصورة المشينة التي ارتبطت بالفن في مختلف مناشطه، والتي جعلت منه وسيلة للهو والمجون عند بعض الفئات المترفة المتحللة من قيم الإسلام وآدابه مما دفع إلى تعميم الحكم بالحرمة ، على أنواع فنية كثيرة . 2 ارتباط بعض التعبيرات الفنية ببعض البدع في العقائد و العبادات لدى طائفة من المسلمين كما هو الشأن بالنسبة للغناء والسماع ، وقد تشكل هذا الموقف لدى بعض علماء السلف الذين كانوا حريصين على تنقية العقيدة من دخن الشركيات والمعتقدات الفاسدة، خاصة أن تلك الشركيات قد تلبست بصور من الأداء الفني مثل الغناء والإنشاد ، لكن ما لبث خطاب التحريم والمنع أن أصبح عاما وشاملا. 3 المبالغة في اللجوء إلى فقه سد الذرائع، خاصة إبان الانحطاط العام الذي عرفته الأمة الإسلامية في مرحلة من مراحل تاريخها، والذي كان وراء شيوع نفسية المحافظة على المواقع القديمة والتحوط من الجديد الوافد. 4 التباس كثير من الفنون المعاصرة بحكم منشئها بفلسفة الغرب ونظرته للحياة خاصة فجاءت محملة ببعض القيم الحضارية الغربية مثل التركيز على الجسد وتعريته ، والمواجهة للمرجعيات الدينية في الغرب ، كما أنها جاءت بأغراض فنية وأشكال إبداعية لم تكن معروفة مثل التمثيل والمسرح والفنون التشكيلية وغيرها . 5 التوظيف السياسي للفنون سواء لخدمة مصالح دول استعمارية سابقة كما هو الشأن بالنسبة لسياسات الدعم التي تعتمدها بعض الدول الأجنبية والتي تسعى من خلالها إلى تشجيع ثقافتها ولغتها ومصالحها من خلال الفن ، أو كما هو الشأن في توظيف الفن لخدمة عملية ضبط التوازنات السياسية الداخلية وإفساح المجال للبعض لاستعمالها من أجل الحد من البروز الثقافي والسياسي للحركة الإسلامية ، مما أدى إلى تزايد التركيز على استغلال الفنون في المعركة الثقافية التي تستهدف القيم الاجتماعية المنبثقة من المرجعية الإسلامية . وكنتيجة لهذه المحددات الخمس، ترى الرؤية أن الهوة بين الرؤية الجمالية كما ترسخت في العقيدة الإسلامية وبين الفن اتسعت، وانعكس ذلك في حصول تنافر بين موقفين متعارضين، موقف يمثله المتدينون الذي اختاروا الانزواء عن الفن ومخاصمته، وموقف الفنانين الذين انزوى كثير منهم عن الدين، مما زاد حسب الرؤية '' من التمكين للفن المفتون في الساحة، ومن اتساع هوة الخلاف بين الدين والفن من جهة وبين المتدينين والفنانين من جهة أخرى''. ويبدو من خلال هذه المحددات أن الرؤية حاولت أن تبرر الحاجة التي دفعت الحركة إلى إنتاج هذه الرؤية، وهي لا تخرج عن محاولة المساهمة في إعادة الاعتبار للرؤية الجمالية الإسلامية، ومحاولة تصحيح الاختلال الذي أصاب المسألة الفنية من خلال المصالحة بين الدين والفن، وإعادة ربط الفن بقضاياه الرئيسة وبوظيفته الرسالية. موقع المسالة الفنية في سلم أولويات الحركة الإسلامية لعل أول ما يمكن أن يلاحظ على هذه الرؤية في سياق تأكيد موقع المسألة الفنية في سلم أولويات الحركة أنها حاولت أن تبرر سبب تأخر الاهتمام بالمسألة الفنية لدى الحركة انطلاقا من ذات العوامل السابقة، بحكم تأثيرها على العقل المسلم عموما،على العقل الحركي بوجه خاص، إذ لم تسلم الحركة خ حسب الرؤية - من ''التأثر بالملابسات التاريخية الفقهية أو الواقعية التي حكمت التعامل مع الفنون في أوساط المتدينين عامة ، وهو ما ظهر في ضعف اهتمام حركتنا لفترة طويلة بهذا الجانب والاكتفاء في ذلك بالإنشاد مع تحفظ أو ورع في التعاطي معه في أحسن الأحوال''. وقد رصدت الرؤية بعض مظاهر ضعف اهتمام الحركة بالمسألة الفنية في ضعف في الاهتمام بالمدخل الفني الجمالي والفني في المناهج الثقافية والبرامج التربوية وقلة أو غياب الأطر الفاعلة في كثير أو أغلب مجالات الفن وغياب الاهتمام بتكوين هذه الأطر أو التوجيه لاستكمال التكوين المهني أو العلمي بالمجالات الفنية الأكثر تأثيرا وضعف الاهتمام بالفن إنتاجا وتعريفا ودعما وترويجا واستهلاك واقتصار ذلك كله على المبادرات الفردية، بالإضافة إلى ضعف التشجيع أو التبني لبعض المبادرات الجادة في الوسط الفني. والواقع أن هذه المظاهر لم تكن إلا ثمرة طبيعية لعدم الحسم الفكري في المسألة الفنية وعدم الوعي بأهميتها الرسالية، وبخطورة توظيفها من قبل التيارات المناوئة في هدم القيم واستهداف ثوابت الأمة ومعاييرها الأخلاقية والدينية. ولعل إعادة تقييم الموقف، هو الذي جعل الحركة تبصر أهمية المدخل الفني في وظيفتها الرسالية من جهة وفي ساحة تدافعها الحضاري من جهة ثانية. وفي هذا السياق جاء التأكيد في مخطط الحركة الاستراتيجي على أولوية الإنتاج الفني. أهداف الممارسة الفنية في تصور الحركة حددت الرؤية الفنية للحركة جملة من الأهداف التي لا تخرج عن الإطار العام الذي أسلفنا الحديث عنه، لكن ما يلاحظ على الرؤية منزعها إلى التفصيل في هذا الموضوع، إذ وصلت بهذه الأهداف إلى ثمانية، ودون الدخول في تفاصيلها يمكن أن نحاول تركيبها في العناصر الآتية: 1 أهداف تصورية: ربط الفن ببعده العقدي من زاوية المدخل الجمالي. 2 أهداف مقصدية: تحرير الفن من الابتذال وتصحيح صورته وتخليصه من الصور السلبية التي لحقت به في التاريخ الإسلامي، وربطه بوظيفته الرسالية، وجعل الفن إحدى إحدى وسائل التخاطب وغرس القيم والأخلاق الحسنة. 3 أهداف تواصلية: تتمثل من خلال التعاون مع الأطراف الفنية التي تؤمن برسالية الفن وسمو أدواره والتعريف بالإنتاج الفني الأصيل والجاد . 4 أهداف فنية: تتمثل في الإسهام في ترشيد الإنتاج الفني من خلال تطوير خطاب وأدبيات النقد الفني وتكوين كفاءات متخصصة فيها وفق القواعد العلمية المعتبرة في النقد الفني وتلبية حاجيات مختلف مكونات المجتمع عموما إلى الترفيه الجاد، و تشجيع الإبداع الفني من خلال مختلف آليات ووسائط التعريف المختلفة والإسهام في الرقي بالذوق الفني للمجتمع باعتباره أحد مداخل ترشيد الإنتاج الفني أي ترشيد الإنتاج من خلال الارتقاء بالمعايير الجمالية لدى المستهل. والحاصل أن الجديد في هذه الرؤية يمكن أن نحصره في ثلاث جبهات استراتيجية في تعاطي الحركة الإسلامية مع المسألة الفنية كنا نبهنا عليها في مقال نشرناه حول المسألة الفنية: - الجبهة الأولى: تبني الأعمال الفنية القاصدة، وذلك بهدف خلق الجبهة الفنية الإسلامية أو القريبة منها أو على الأقل تحييد بعض الجهات في التدافع الفني المقبل. - الجبهة الثانية: التواصل الدائم مع رواد المشهد الفني، وذلك عبر فتح الحوارات لتبادل الأفكار والقناعات، وخلق الصداقات الموضوعية. - الجبهة الثالثة: تحريك آلية الدعم للأعمال الفنية، أو احتضان الأعمال الفنية الراشدة، وهذا يعني تحريك القناعات في اتجاه الدفع بأولوية الوسيلة الفنية، والاقتناع بقدرتها على إيصال الرسالة التربوية والدعوية. وقد حرصت الورقة أن تعمق هذه الخيارات الثلاث في المحور المتعلق بمجالات وأولويات العمل الفني في منظور الحركة لاسيما ما يتعلق بمجال الإنتاج الفني وذلك من خلال تبني مبادرات للإنتاج أو تشجيع القائم والتعاون واحتضان المبادرات التي يقوم بها فنانون يؤمنون بالطابع الرسالي للفن، أو مجال التكوين الفني من خلال إعداد أطر متخصصة في مختلف الفنون ذات الأولوية في المرحلة الراهنة وخاصة المسرح والسينما والمهن المرتبطة بها، أو مجال النقد الفني كآلية للتعريف بالإنتاج الجاد والرقي بمعايير الحكم على الأعمال الفنية لدى جمهور واسع باعتباره ذلك مدخلا لترشيد الممارسة الفنية.