تغيرت أنماط الحياة الاجتماعية في السنين الأخيرة لتتغير معها كيفية إدارة أمور الأسرة، إذ بعد أن كان الطابع العام يولي اهتماما خاصا لمنظومة القبيلة وكبير العائلة ومؤسسة الجوار، أصبحت تتلاشى هذه المفاهيم في ظل سيادة الأسرة النووية بدل الأسرة الممتدة، والحياة الفردية في شقق للأسر متقاربة المسافة متابعدة المعاملات. وأمام هذه المتغيرات بدأت تتغير أيضا وسائل الوساطة الأسرية من تدخل وجهاء القبيلة وكبراء العائلة إلى زملاء العمل ومؤسسات الإرشاد الأسري وعيادات العلاج النفسي، ويبقى الهدف واحدا مهما تغيرت السبل وهوٍ صيانة الأسرة المستقرة من التشتت وحماية أفرادها من فقدان الدفء العائلي الذي لن يعوضه دفء أي مكان مهما كانت شساعته سعة صدر القائمين عليه. ويبقى السؤال المشروع في ظل تعقد المشاكل العائلية: كيف يمارس المغاربة الوساطة الأسرية؟ نموذج رائد في قرية من قرى مدينة كلميمجنوب المغرب يتردد اسم فاطمة الزهراء البلغيتي محيلا على مؤسسة في الوساطة الأسرية تديرها وتقوم بكل أعمالها سيدة نالت احترام السكان وثقتهم، فهي الصدر الرحب للمتخاصمين. اشتهرت فاطمة الزهراء البلغيتي (من مواليد 6491) لدى أهل كلميم بباب الصحراء باسم ''الشريفية''، بينما يفضل البعض تسميتها ب ''للا فاطمة''، وعاشت طفولة عنوانها: ''مرارة فراق الوالدين''، إذ نشأت مع والدتها وأخيها الأكبر بعد طلاق والديها وهي ما تزال في السنة الثانية من عمرها. تزوجت فاطمة في سن مبكرة (41 سنة) من تاجر ينتمي لأسرة علمية وتتلمذت على يد والد زوجها وحفظت عنه نصف القرآن لتتم الباقي بعد وفاته. اشتهرت للا فاطمة عند السكان بالتقوى والصلاح والرزانة لذلك فهي كانت تنال ثقتهم ليودعوا لديها أسرارهم العائلية من أجل الصلح بين الناس، خصوصا وأنها لا تميل إلى شخص على حساب شخص بل تميل إلى الحق وتجر معها الزائغ عنه، إلى درجة أنها بدأت توصف بأم المتخاصمين نظرا للاحتضان الذي تبديه لكل المختلفين حتى يتصالحوا. وفي كثير من قرى المغرب ما يزال اللجوء في الوساطة الأسرية إلى الوجهاء وكذا الجيران من أجل حل الخلافات الأسرية ساريا. سلاح الشرف تعرف كثير من قرى المغرب لجوء المتخاصمين إلى الشرفاء وهم الذين ينتمون إلى أسر معروفة بامتداد نسبها إلى الرسول صلى الله عليه وسلم أو أحد الخلفاء الراشدين، وعندما يقع الشقاق وتخرج الزوجة من البيت تاركة أبناءها وزوجها لسبب ما فإن العائلة تتدخل عبر اصطحاب أحد الشرفاء أو أكثر، وفي بعض الأحيان يرافقهم إمام مسجد القبيلة، ويسعى هؤلاء الوسطاء إلى تحقيق الصلح بين المتخاصمين عبر الاستماع أولا لوجهات النظر من الزوج وأهله والزوجة وأهلها من أجل تحديد الداء الذي يساعد في وصف الدواء، وغالبا ما تكون الخلافات لأسباب بسيطة تستدعي تدخلا من أطراف خارجية، وإلا فإذا استعصى الأمر يتم اللجوء إلى القضاء وهو آخر الدواء. تقول رقية، وهي الآن أم لخمسة أبناء وتسكن بنواحي مراكش: ''لولا تدخل الشرفاء لتشتتت أسرتي وأنا أم لطفلين، فقد كان أن نشبت بعض الخلافات البسيطة بيني وبين زوجي، تجعلني ألجأ إلى بيت والدي رحمه الله عازمة على الطلاق، لكن والد زوجي كان حكيما إذ يأتي رفقة ابنه وبعض الشرفاء الذين ينالون احتراما من والدي، فما يكون بعد مناقشة الموضوع ومحاولة الصلح سوى أن يأمرني والدي بوجوب الحفاظ على أسرتي والتجاوز عن الخطإ البسيط الذي لا يستدعي تفكيك الأسرة، وفعلا بعد أن أصبح لدي الآن خمسة أبناء تزوج ثلاثة منهم أدركت قيمة الصلح الذي يقوم به هؤلاء الوجهاء الذين لا يحابون أحدا من المتخاصمين، بل يشرحون لهما أن المشاكل ملح الحياة ولابد منها، والواجب أن يعرف الإنسان كيف يتعامل معها دون هدم كيان أسرة قامت على رباط مقدس، وأنتجت أطفالا أبرياء لا يحتملون البعاد عن الأم ولا الأب''. زملاء العمل إذا كان سكان القرية يجدون أمامه الوجهاء والشرفاء فإن طابع المدينة مختلف شيئا ما ويستدعي اللجوء إلى طرق أخرى، خصوصا في ظل نشوب الخلافات الزوجية بين زوجين يكونان في غالب الأحيان موظفين، ففي هذه الحالة، تقول سناء وهي موظفة بالقطاع العمومي ويعمل زوجها في سلك التعليم ويسكنان في العاصمة بعيدا عن أهليهما، لا أجد من ملجأ حين نشوب خلافات بيننا سوى الاستعانة بعد الله بزملاء عمل زوجي المقربين منه والذين نربط علاقات مع زوجاتهم، هنا أطلب من إحدى زوجات أصدقاء زوجي أن تتدخل بسلاسة لتشرح لزوجها المشكل القائم بيننا وتقوم هي بدورها بتبليغ زوجها الذي يباشر عملية الصلح سواء عبر عزومه على عشاء في أحد المطاعم أو بطرح فكرة رحلة جماعية أثناء عطلة نهاية الأسبوع، ولو أن هذا الأمر يكون ناجحا بالنسبة لي، تقول سناء، إلا أن الأمر لا يحالفه النجاح في كل الأحوال نظرا لطبيعة المتدخلين وزادهم المعرفي وسلوكهم وكذا مدى تجاوب الطرف المقصود من الأسرة سواء كان رجلا أو امرأة''. مركز للوئام إذا كانت المستشفيات ملاجئ لعلاج أمراض أفراد الأسرة صحيا، فإن مراكز الترشيد الأسري تعتبر بحق ملاجئ لعلاج مشاكل الأسرة، وإنقاذ هذه المؤسسة من معاول الهدم والدمار. واستقراء لواقع الأسرة المغربية التي قد تتعرض للهدم لأسباب تافهة ناتجة عن غياب الحوار بين أفرادها، ارتأت ثلة من النساء المغربيات أمام هذا الوضع أنه باتت الحاجة ماسة إلى إنشاء مراكز للاستماع والإرشاد الأسري تقدم خدمات استشارية وتوجيهات نفسية وقانونية واجتماعية في سبيل إشاعة ثقافة أسرية بناءة وهادفة تواكب الإرادة الملكية لتحقيق التنمية البشرية في مختلف المجالات. وفي هذا السياق تم إحداث مركز الوئام للإرشاد الأسري بمدينة سلا في يناير 4002، واخترن له رسالة هي: الإسهام في استقرار الأسرة المغربية وتأهيلها للقيام بوظائفها الاجتماعية والتنموية''، ولم يكن اختيار اسم المركز اعتباطيا بل كان مدروسا إذ جمع أهدافه ووسائل تحقيقها في عبارة قصيرة ''الوئام للإرشاد الأسري'' فهو موجه لكل أفراد الأسرة وليس خاصا بالمرأة دون الرجل، كما يحمل الاسم بين طياته مقاربة الصلح من خلال اختيار لفظ ''الوئام'' وهو ما تفتقر إليه كثير من المراكز التي تنشط في اتخاذ المعالجة الحقوقية للمرأة بمعزل عن مؤسسة الأسرة. وفي تصريح سابق أكدت عائشة العسري عن المركز: ''لقد أصبح لمراكز الاستماع والإرشاد الأسري دور أساسي وفعال في المجتمع المغربيّ، وذلك لمساهمتها في تفادي تفكك الأسر وانهيارها. وبالنسبة لمركز الوئام فقد تأسس نظرا للحاجة الماسة لهذه المدينة لمثل هذه المراكز واخترنا أن يكون دوره دور تجميع الأسر وليس تشتيتها وذلك يبدو من خلال التسمية ''الوئام''، وحتى على المستوى العملي نعمل ما في وسعنا لجمع شمل الأسرة بنشر قيم المحبة والمودة، ونحن نعتبر لجنة الاستماع هي أهم لجنة بمركز الوئام''. وأوضحت عائشة دور اللجنة بأنها ''تعمل على استقبال جميع أطراف الأسرة ولا تكتفي بالاستماع للمرأة وحدها. وفي معالجتنا للمشاكل الزوجية نجعل الطلاق آخر محطة في المعالجة لا نطرقها إلا في حال تعذر استمرار الحياة بين الزوجين''. ومن جهة أخرى أشارت عائشة إلى أن المركز في نظرته إلى قضايا الأسرة لا يقتصر على حل المشاكل وانتظار وقوعها بل يرى العاملون فيه أن الوقاية يجب أن تكون قبل حصول مشكلة معينة، لذلك تم إنشاء ''نادي الوئام'' وهو مفتوح أما النساء يطرحن كل ما يرينه سيكون وقاية من السقوط في المشاكل المستعصية التي قد تعصف باستقرار الأسرة''.