هل يمكن أن يكون منهج الإصلاح الاجتماعي في الإسلام انقلابا فوقيا؟ هل ما نلاحظه في الواقع المعاصر من تزايد تدخل الدولة في حياة المواطن واتساع هيمنة المؤسسة على الفرد يمكن أن يكون مبررا للانزياح عن أصالة منهج الإصلاح الاجتماعي الإسلامي وطابعه الحضاري، فتقع المراهنة على تغيير المؤسسة السياسية، أملا في تنزيل شرائع الإسلام وقيمه، تحت شعار إن الله لينزع بالسلطان ما لا ينزع بالقرآن؟ هل يمكن أن يكون في ما نراه من هيمنة للمؤسسة على الفرد، وللبنية على العنصر، ومن ضغط للشروط الاجتماعية والسياسية والاقتصادية على الفرد مبررا كي يتقدم في أولوياتنا تغيير ما نعيشه من أحوال اجتماعية واقتصادية ومؤسسية على ما بأنفسنا؟ هل نركز في موضوع التغيير الحقيقي في الإسلام على النفس، أي ما بنفس القوم حتى يتغير ما بالقوم، أم نعكس المعادلة فنغير ما بالقوم كي يتغير ما بأنفسهم؟ لعل وضع المشكلة بهذه الصيغة القرآنية يقدم إجابة ضمنية. أكيد أن الحاجة ماسة إلى تأصيل منهج الإصلاح الاجتماعي، من خلال بنائه على التصور الإسلامي لحقيقة الإنسان، ولعل المتأثرين بمفاهيم الغرب وآرائه وتصوراته الفلسفية ومسلكياته الحياتية سينعتون هذا الطرح ب المثالية أو الطهرانية. ولعل كثيرا من المتسرعين من أبناء الحركة الإسلامية، ممن تضخم عندهم الاعتبار السياسي، وتدغدغ مخيلاتهم أطياف الخلافة الإسلامية أو الدولة الإسلامية الراشدة، ويسقطون بدون وعي على منهج الإصلاح الإسلامي، مفاهيم تجد أصلها في المنظومات الفكرية الغربية، سيتضايقون مما نقوله. ومن هنا تصبح الحاجة ملحة إلى التذكير بالتصور الإسلامي للإنسان، خاصة ما يتعلق بموقعه ودوره، سواء في عملية التغيير الاجتماعي أو في عملية الإصلاح. في التصور الإسلامي للإنسان، تتمركز حقيقة أساسية، وهي تقرير كرامة الإنسان وأفضليته على كثير مما خلق الله من كائنات. هذا التكريم الذي ينقل لنا القرآن عنه صورة حية، تتمثل في أمر الملائكة بالسجود له عند تسويته والنفخ فيه من روحه، مصداقا لقوله تعالى فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين (1)، وهو التكريم الذي يتأكد بتقرير القرآن الكريم تسخير عالم الحيوانات والأشياء له: ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا (2)، وإذا كان هذا التسخير لعالم الحيوانات والطبيعة - بل والمجتمع أيضا بما ركب الله في الإنسان من طبيعة مدنية وفطرة اجتماعية - يؤكد كرامة الإنسان، فهي كرامة ترجع - على ما يبدو - إلى ما يمتلكه الإنسان من تركيب عجيب وفريد لم يتحقق لغيره من الكائنات المادية والطبيعية. إنه ذو تركيب مزدوج: مادي وروحي؛ فهو من جهة قبضة من طين، وهو إلى جانب ذلك نفخة من روح. وهذا التركيب الجديد العجيب هو الذي جعله أهلا كي تسجد له الملائكة فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين (3)، فالملائكة سجدت لآدم بعد خلقه امتثالا لأمر الله واستسلاما له ورضا بما قدره الله، بينما تكبر الشيطان قائلا في عناد وانتفاخ أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين (4)، وجعل من التكريم الإلهي للإنسان سببا في عداوته الأبدية له ما دام على الأرض: قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا (5). ومهما يكن من أمر، فإن هذا التركيب المزدوج للإنسان يجعله متميزا عن الملائكة أيضا. إن التركيب الملائكي سلم من التوتر الذي يميز التركيب الإنساني، نتيجة التنازع الداخلي فيه بين قوتين: القوة الأولى هي قوة الروح ، التي هي انطلاق ورفرفة، واتجاهها إلى السماء، والقوة الثانية قوة الجسد، هي نزوع نحو الأرض والطين. لذلك كان التغيير والتبديل طبيعة بشرية أو قدرا كونيا، وكان مطلب الإصلاح قدرا ومطلبا دينيا، تتأكد به إنسانية الإنسان وفرادته في هذا الكون. إن الملائكة تخلصت من الضرورات الجسدية والمثبطات المادية، بينما هذه المثبطات وتلك الضرورات حاضرة في التكوين الإنساني. فاستسلام الملائكة للأمر الإلهي استسلام جبلي فطري، بينما استسلام الإنسان استسلام طوعي إرادي. وهذا النوع من الاستسلام يحتاج إلى جهاد وتخلص من ضغط الجسد وضروراته وانتصار للقوة الثانية أي قوة الروح. إنه يحتاج إلى عملية تغيير نفسي إيجابي يقاوم باستمرار عمليات التغير والتغيير الملازمة للتكوين البشري؛ قانون الروح وقانون الجسد، وانتصار قوة الروح لا يعني إعداما لضرورات الجسد، بل تسخيرا له بعد الاعتراف بها ابتداء ولقانونيتها في اتجاه يخدم رفرفة الروح تماما كما يحدث في المجال الفيزيائي مثلا ، إذ لم يكن من الممكن للإنسان أن يطير في السماء ويصنع من أجل ذلك مختلف المبتكرات دون اكتشاف قانون الجاذبية والاعتراف بوجوده، وما يمارسه من عوائق في وجه فعل الطيران. ولم يتحقق الطيران نتيجة لإلغاء قانون الجاذبية فذلك يعني إفسادا للنظام الكوني وإنما مغالبته بقوانين فيزيائية أخرى، لم يتحقق الطيران إلا بمغالبة قانون بقانون أو قدر بقدر، ومن ثم فإن وضع اليد على الحتمية والضرورة التي تحكم الظواهر الطبيعية هو السبيل إلى التخلص منها، أي الطريق إلى الحرية. إن الإنسان في التصور الإسلامي هو في جانب منه كائن مادي يخضع للضرورات البيولوجية والحتميات، سواء أكانت طبيعية أو اجتماعية، وسلوكه تبعا لذلك يخضع لقوانين تلك الحتميات، لكن تكوينه من جهة ثانية تكوين روحي، وهو ما يمكن من الحد من تأثير تلك القوانين. إن الإسلام لا ينفي القانونية الأولى، ولكنه يقرها ويعترف بها، وفي الوقت نفسه يدعو إلى مغالبتها من خلال قانون الروح، الذي يعني إخضاع النفس للأمر الإلهي وتعبيدها لله سبحانه. علاقة عكسية بين القانونين وبقدر خضوع السلوك الإنساني لقانون الروح يتراجع تأثير القانونية (البيولوجية الفيزيائية الاجتماعية) . ففي هذه الحالة تتضافر قوى الجسد والروح، وتتناغم وتسير في اتجاه واحد . وبقدر تراجع تأثير قانون الروح، يتضخم تأثير تلك الضرورات البيولوجية والشروط المادية المحيطة بالإنسان وتكييفها لسلوكه . إن التصور الإسلامي لا يمكن أن يصنف في المثالية بالمعنى الفلسفي التي تجعل الفعل الإنساني مشروطا بقواه الفكرية والروحية، مسقطة بذلك من الاعتبار الواقع المادي، سواء قصدنا بهذا الواقع الشروط البيولوجية (الجسدية)، التي تتحرك على أرضيتها الفعالية الإنسانية أو قصدنا به الشروط الاجتماعية والاقتصادية التي تنشط في إطارها تلك الفعالية. إن لهذه الشروط تأثيرها في السلوك الإنساني، وهو تأثير يتعاظم كلما تراجع فعل قانون الروح، كما أشرنا. والتصور الإسلامي لا يسقط في النظرة الآلية (الميكانيكية) المادية المحضة، بحيث يصبح الإنسان مشروطا بأشكال مختلفة من الحتميات انتهت بالفكر الفلسفي الغربي في تلويناته المختلفة إلى تغييب الإنسان وإسقاط كرامته. إن الإنسان في التصور الإسلامي خاصة إذا كانت فاعليته خاضعة لقانون الروح قادر على تجاوز الشروط الموضوعية المحيطة به والضاغطة على إحساسه وتفكيره وسلوكه إلى أكبر الحدود لكن ليس إلى ما لا نهاية، وقادر على استبدالها بشروط أخرى يخلقها بنفسه . وهذا يعني أن الإنسان إذا خضعت فاعليته لقانون الروح يكون أقدر على الوقوف في وجه المؤسسة والصمود في وجه البنية. وذلك هو المعنى الأصيل للثورة الحقيقية التي هي بالأساس ثورة روحية وانقلاب نفسي ومقدمة لكل تغيير اجتماعي يرد أن يكتسب نفسا حضاريا. إنها الثورة الهادئة المستمرة ، إنها المعنى العميق لمفهوم الإصلاح . 1) - 3) سورة الحجر/ الآية: .29 3) سورة الإسراء/ الآية: .70 4) سورة الأعراف/ الآية: .12 5) سورة الإسراء/ الآية: .62